أرقام

  أرقام
        

اقتصاديون يعالجون " الأيدز"!

         في آخر سنوات القرن العشرين كانت بلدان جنوب شرق آسيا منشغلة با سترداد عافيتها الاقتصادية.. وكانت أوربا تستكمل وحدتها وتسعى لإتمام مسيرتها النقدية بإصدار عملة موحدة يتداولها الناس بدلا من المارك والفرنك والليرة وغيرها من عملات أوربية.. أيضا كانت الولايات المتحدة مهتمة بمعدل النمو وتخفيض البطالة والانتعاش الذي كان قد بدأ.. بينما كانت قضية التحرير تؤرق بلدانا مثل فلسطين وسوريا ولبنان.

         في ذلك الوقت، كان الهم الأول عند مجموعة دولية أخرى هي مجموعة (إفريقيا جنوب الصحراء) هو انتشار مرض "الإيدز" الذي بات يهدد- كما يقول البنك الدولي- إنجازات خمسين عاما من تقدم البشر.. والأخطر أنه يزحف من إفريقيا لمناطق أخرى، أما احتمال الوصول لدواء ناجع له فهو أمر يستغرق- طبقا لتقديرات البنك أيضا- من عشرة إلى خمسة عشر عاما.. وقبلها، لابد أن يرفع الجميع الرايات الحمراء.

         وربما كان ذلك هو السبب فيما جرى في وأشنطن خلال شهر أبريل من العام (2000).

         في ذلك الشهر اجتمع وزراء المال والاقتصاد ومحافظو البنوك المركزية من جميع أنحاء العالم فيما تسمى (اجتماعات الربيع)، وهي اجتماعات تعقدها مجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بشكل دوري لتستعرض فيها أوضاع العالم الاقتصادية وماذا يريد أعضاء المؤسستين من سياسات جديدة "

         كانت المفاجأة في ربيع (2000) أنه على رأس جدول أعمال الاجتماعات جاءت قضية (الإيدز)!

         كانت هذه هي المرة الأولى- على ما أظن- التي توضع مثل هذه القضية الصحية أمام رجال الاقتصاد، وليست أمام رجال الطب والعلوم الطبية.. وكان المبرر واضحا: إنها قضية تمس التنمية، وآثارها تمتد بالضرورة لقوة العمل، وميزانيات الدول، وإنتاجية المشتغل، ومتوسطات الأعمار التي طالما سعى العالم لتحسينها، فإذا بها- وتحت تأثير الإيدز- تتراجع من جديد، وبشكل حاد!

جغرافيا "الإيدز"

         في تقرير قدمه البنك الدولي للوزراء كانت الخريطة واضحة، تزداد حجما عاما بعد عام، وتختلف تضاريسها من قارة إلى أخرى.

         الذين أصيبوا بالمرض أو حملوه خلال عشرين عاما على وجه التقريب بلغ عددهم خمسين مليونا، مات منهم ستة عشر مليونا، ويعيش الآخرون بيننا.. (95%) منهم في الدول النامية و (5%) أصبح "الإيدز" هو السبب الرابع للوفاة في العالم، وهو فقط في الدول المتقدمة .

         السبب الأبرز للوفاة في إفريقيا جنوب الصحراء، وبينما توفي بسببه (2.6) مليون في عام واحد هو عام (99)، فإن عدد المصابين يزيد كل يوم بمقدار (15) ألف شخص، نصفهم ممن تتراوح أعمارهم بين (15-24) سنة.

         في عام 1982، كانت الصورة غير ذلك، فقد ظهر "الإيدز" بشكل إيجابي في بلد واحد هو أوغندا، ولكن وفي نهاية القرن- عام (2000)- امتد المرض وبنسبة تزيد على (7%) من السكان إلى (21) دولة.

         كانت إفريقيا جنوب الصحراء هي الأكثر تضررا، فقدمت نحو "14" مليون شهيد لمرض الإيدز، وتحتضن الآن أكثر من (23) مليون مريض، وفي خمسة بلاد منها تزيد نسبة الإصابة على خمس عدد السكان والأسباب واضحة: الفقر، والعادات الجنسية، والعجز عن المواجهة.

         وفي الأعوام الأخيرة من القرن ظهر المرض الوبائي في جنوب وجنوب شرق آسيا، بل وفي مناطق أخرى مثل شرق أوربا وروسيا، وهكذا مات مليون شخص في آسيا، وحمل المرض من الهنود: (4) ملايين شخص وبلغت النسبة بين البالغين في كل من كمبوديا وميانمار ( 2 % ) بينما بلغت النسبة بين محترفي البغاء في كمبوديا ( 40% ).

         هكذا كانت الصورة مفزعة والآثار وخيمة. من الآثار الواضحة: انخفاض توقعات الحياة، وقد بلغ الانخفاض في بعض البلدان عشر سنوات دفعة واحدة، بل إنها في بلدان مثل بتسوانا وزيمبابوي فقد انخفضت توقعات عمر الإنسان بمقدار   (17) سنة، ذلك أن وفيات الأطفال قد تضاعفت ووفيات البالغين قد زادت بنسبة تتراوح بين (4) و (150) بالمائة، والنتيجة: معدل غير مسبوق من الأيتام والذين ارتفعت نسبتهم- طبقا للتقدير- من (2) بالمائة في شريحة الأطفال إلى     (10) بالمائة في نفس الشريحة بالبلدان الأكثر تضررا.

         وربما كانت نقطة الاهتمام عند رجال الاقتصاد بالأيدز هو انعكاس ما جري على النمو والفقر والإدارة ومؤسسات الحكم.

         جرت دراسة حول (75) بلدا اتضح فيها أن نسبة إصابة تصل إلى 8% من السكان (وهو الوضع في 21 بلدا إفريقيا) تسبب انخفاضا في متوسط دخل الفرد يقترب من نصف بالمائة،

       ولكن وحين ترتفع نسبة الإصابة إلى (25%) كما هو الحال في زيمبابوي فإن الدخل ينخفض بنسبة (1%)، كما أن نفقات المواجهة تستهلك (2.5%) من الناتج المحلي.. والنسب كلها تتضاعف عام (2010).

         والأرقام هنا لها دلالتها فنمو دخل الفرد لا يزيد عادة بأكثر من (2- 4) بالمائة سنويا.. والناتج قد لا يزيد بأكثر من ذلك ومن ثم فاقتطاع ما يأكله المرضى يعني ادخارا أو استثمارا أقل.. بالإضافة للآثار المباشرة حين يبيع المزارعون موجوداتهم ليواجهوا المرض وحين تتضاعف مصروفات بعض الجهات مثل شركة السكر بجنوب إفريقيا إلى عشرة اضعافها في بند العلاج وإلى خمسة أضعافها في بند الجنازات.

         وتمتد الآثار لمختلف المجالات فيصيبا "الإيدز" (3%) من المدرسين في بعض البلاد، ويحتل مرضى " الإيدز" أكثر من نصف أسرة المستشفيات في بلدان إفريقية وتبلغ نسبة الموظفين المصابين في جنوب إفريقيا (15%) من الموظفين المدنيين، ويتراجع وضع المرأة والطفل، وتزداد حالة الفقر تفاقما.

ما العمل؟

         في مواجهة ذلك، كانت هناك جهود محلية ودولية.. أسفرت حملة أوغندا عن تراجع في نسب الإصابة بين الشباب والسيدات، وتحققت نفس النتيجة في السنغال وفي بعض بلدان آسيا، وثبت أن التدخل المبكر أقل تكلفة من التدخل لعد تفاقم الإصابة، وأن الوقاية خير من العلاج.

       في نفس الوقت كان هناك الجهد الدولي الذي شاركت فيه سبع منظمات منها الأمم المتحدة وبرنامجها الإنمائي ومنظمة الصحة العالمية واليونسكو، والى جوار هؤلاء ينضم البنك الدولي الذي قدم تصوره في اجتماعات الخليج (2000).

         إزاء هذه الصورة التي تصم النمو المتسارع للمرض، كما تضم جهودا للتصدي كان التقييم أن هناك عقبات متعددة منها: نقص الإمكانات، وغياب العقار الطبي المناسب والجذور الثقافية التي تجعل بعض الحكومات لاتبادر انتظارا لظهور المرض، أو تعجز عن مواجهة سلوكيات الأفراد في الجنس وغير الجنس.

         وأزاء هذه الصورة أيضا تأتي مجموعة اقتراحات الربيع من أهمية وجود التزام حكومي ببرنامج ما، وأهمية تدبير تمويل أكثر واهتمام أشد بالإجراءات الوقائية والعلاجية وإجراءات البحث العلمي، مع توفير دعم من جانب المجتمع في كل بلد مهدد بالمرض.

         وفي إطار ذلك يأتي برنامج البنك الدولي، صاحب المبادرة هذه المرة ليقترح أن تكون قضية "الإيدز" في إطار قضية معالجة الفقر من منظور تنموي.

         القضية إذن ليست قضية طبية كأي عرض آخر وليست قضية إنسانية خالصة، إنها قضية اقتصادية أيضا.. وقبل ذلك هي مسألة تقدم البشرية.

         الجهود العلمية والاقتصادية أتاحت للإنسان متوسط عمر يتجاوز السبعين في كثير من دول العالم والهدف عالميا يقترب من ذلك في أوائل القرن، ولكن وفي بلاد "الإيدز" يحدث العكس. ويهبط متوسط العمر المتوقع إلى ما دون الخمسين، ناهيك عن مأساة أسرة تتعايش مع المرض، تنتظر الموت كل لحظة.. يعاني أطفالها من وضعهم كأيتام.. وتنقل الأم بذرة المرض إلى الجنين قبل أن يولد، فيكون الميلاد وبذور الفناء في وقت واحد.

         هل كان شاذا إذن أن يصبح "الإيدز" على رأس جدول أعمال رجال الاقتصاد في ربيع (2000)؟.. لا أظن.

 

محمود المراغي