مساحـة ود

فـراشـة العـدة

بينما كانت شمس يوم جديد من أيام الشتاء على وشك الشروق، صعدت روح زوجها إلى السماء،

 كانت واقفة فوجدت نفسها على الأرض. والدموع تأبى أن تنزل أو تقطر من عينيها.

 من تلك اللحظة لم تعد حياتها كما كانت، زحفت الوحدة على قلبها فامتلأت بالفراغ والحنين لرؤيته ولسماع صوته وللمس يده، لم تفرط في أي شيء من بقاياه: كتبه، ثيابه، حتى لفائف التبغ التي كان يحلو له أحيانا أن يدخنها. كل شيء كان يحمل شيئاً منه. كانت ترى فيها تفاصيل جامدة لحياة كانت ذات يوم حارة ومتدفقة، حتى ذكريات الخلافات التي كانت تعتري حياتها أحيانا أصبحت الآن تثير في جسمها نبضات من التوق والتمني.

تثاقلت أيام العدة، أربعة أشهر وعشرة. أحسست كأن هذه الفترة تختلف فيها حياتها تماماً عما كانت، كأنها قد أصبحت فراشة تستعد للخروج من شرنقتها، تنسلخ رويداً رويداً من حياة الزوجية التي اعتادتها لفترة كانت تظن أنها ستدوم طويلا، ولكنها تستعد الآن لأيام أخرى خالية إلا من الأحزان والذكريات.

هل يمكن أن تكون العدة بالنسبة لها غسيلا للنفس وتجديداً لخلايا الجسد؟!. فالرحيل لا يترك فقط آلاما وجروحاً لا تندمل، ولكن فراغاً كبيراً لا يمتلئ. فقد كانت تعتمد عليه في معظم أمور حياتها وتستند إليه دون أن تخشى السقوط، أما الآن فتشعر وكأنها كانت مستندة بظهرها إلى شجرة كبيرة وارفة الظلال حانية الأغصان وفجأة اجتثت الشجرة من جذورها فسقطت، لم يبق إلا الهوة بما فيها من جذور مقطوعة ومجتثة. كانت تنتظر هناك داخل شرنقتها لعل فصل الربيع يحل عليها فتنفض عنها جدار شرنقتها وتفرد جناحيها بألوانها الزاهية وتطلق نفسها للريح لعل حياة جديدة بانتظارها.

كانت قد سمعت أن في بعض الواحات البعيدة المنعزلة داخل الصحراء عندما تكون هناك أرملة تظل حبيسة منزلها هذه الأيام الأربعين، لا ترى أحدا ولا أحد يراها. كأن حزنها قد تحول إلى نوع من المرض يمكن أن يعدي الجميع. فإذا انتهت هذه الأيام أخلوا لها شوارع الواحة كلها بحيث تمضي أيضا دون أن تقابل أحدا وتخرج من بيتها محلولة الشعر إلى بئر في نهاية الواحة حيث تخلع ثيابها وتغسل نفسها تماما في مياه البئر، تزيل الأحزان وبقايا الذكريات والحياة القديمة بعدها تكون مستعدة لمباشرة الحياة. كأن الحزن تحول إلى إثم عليها أن تتخلص منه أولا، وتماما مثلما يغسل الطفل بعد ولادته مباشرة، تولد المرأة من جديد.

كانت مثل هذه المرأة في حاجة إلى ميلاد آخر. ولكن مع الأسف سعادة هذه الفراشة قصيرة ستظل تشعر وكأنها جرح دام جفت دماؤه وبقي أثره كبيراً غائراً لا يزول، وكأنه النقش الذي يزين جناحيها، فتطير به تحيا حياتها إلى أن تشرق عليها شمس الربيع لتفتح في قلبها الأزهار وتغطي أثر الجرح، وليهب نسيم الربيع على قلبها لينعشه ويبث فيه حياة جديدة خضراء تستعد للتفتح والنمو.

 

سنابل المسلم