إلى أن نلتقي

  إلى أن نلتقي
        

عزلة أدبية

         لو لم تتح مثل هذه الفرصة كل عام للأديب فلن يستطيع مقاومة شرور وأمراض هذه المهنة لو جاز لنا التعبير، فيصاب باكتئاب حاد أو يجن أو ينتحر، وفي تاريخ الأدب العربي والعالمي من أدركتهم مثل هذه الشرور.. في رحلتي إلى منتجع "لافيني" الذي يقع في قرية صغيرة تحمل نفس الاسم بين لوزان وجنيف بسويسرا، على أعلى قمة من جبال الألب، كانت لي تجربة داخل قصر "أينريش رولت" الناشر الألماني الشهير الذي نشر أدب فوكنر ونابوكوف وكامي وهمنجواي وسارتر وهنري ميللر وهارولد بنتر بالألمانية. كانت زوجته الليدي رولت صاحبة الفكرة التي فجرتها بعد موت زوجها، تخليدا لذكراه، بتحويل القصر إلى منتجع عالمي للكتاب مع الإبقاء على نفس النسق القديم للقصر الذي يعد من أقدم قصور أوربا. في قصر "لافيني" أدركت حقا أنه لتفادي الاكتئاب والجنون وربما الانتحار على الأدباء والفنانين أن يبحثوا عن فرص ثمينة للفكاك من شرور المهنة وقضاء بعض الوقت في عزلة تامة، خالصة لوجه الروح والعقل والفن.

         بدت التجربة مغايرة تماما لكل سفراتي الماضية، فشرعت أعيش وأتحرك مثل كائن خلق فقط من أجل الكتابة والإبداع، يتنفس جمال وسحر الطبيعة وقدرا من البهجة في بلد من أجمل بلاد الدنيا. الغريب أنني ولأول وهلة وأنا أتحرك ضمن نزلاء القصر، داهمني شعور عارم بأننا نزلاء مصحة نفسية، لم أحزن لقسوة هذا الإحساس وتلك المخيلة، فهذا إنساني للغاية، أن يعيش الأديب من آن لآخر قدرا من العزلة، عزلة اختيارية بعيدة كل البعد عن حركة الحياة اليومية في بلده، يعيش في سياق يحترم طقوسه في النوم والصحو والطعام والقراءة والكتابة، ولا تصطدم أذناه بأصوات مزعجة ولا ترتطم عيناه بحواجز تعوق الرؤية والتأمل. فذهن الأديب يحتاج من آن إلى آخر إلى مناخ مفتوح ليسمع ويرى ويفكر في حرية دون التأثر بأي معوقات أخرى.

         كان وقت العزلة مقدسا، وكنا نتحرك في القصر وحديقته وحقول العنب والكريز المجاورة، كل شارد في عالمه، وربما تغزوه لحظة ترده فيها ليراجع قائمة أحلامه وأحلام بلاده، مشاكله وأوجاعه، ماضيه وحاضره ومستقبله، إلا أنه سرعان ما يفر بعيدا، لم يكن لأحد أن يجرؤ في أن يحدث الآخر ويقطع خلوته مع نفسه وكأننا حقا نزلاء مصحة نفسية، وكانت فكرة المنتجع أقرب إلى مفهوم المصحة النفسية أو دار للاستشفاء والأدباء في كل مكان في العالم يحتاجون إلى مثل هذا النوع من المنتجعات لبعض الوقت، لكي ينفصل المبدع عن واقعه اليومي المحتدم والفائر والغائر أحيانا في ثراء التفاهة والعادية والملل والرتابة، من أجل أن تطهر الروح من أدرانها وهمومها وشواغلها، بعدها سيعود أكثر قدرة على إعادة النظر في عناصر الخلق الفني التي تمليها عليه موهبته، حتى تصب فيما بعد في قوالب ذات معنى، وربما يشرع مثل رسام لخلط الألوان بعضها بعضا دون أن يقصد أن يكون لكل هذا المزيج معنى محدد.

 

نعمات البحيري