جمال العربية

  جمال العربية
        

نصيحة قاض ... لأمير

... ونصح قاضي القضاة أمير المؤمنين قائلا:لا تزغ فتزيغ رعيتك، وإياك والأمر بالهوى والأخذ بالغضب، كن من خشية الله على حذر واجعل الناس عندك في أمر الله سواء، خاصم نفسك خصومة من يريد الظفر لها لا عليها، احذر أن تضيع رعيتك، فيستوفي ربها منك، ويضيعك بما أضعت، جور الراعي هلاك للرعية، واستعانته بغير أهل الثقة والخير هلاك للعامة...

         قاضي القضاة الذي نتحدث عنه هو أبويوسف يعقوب بن إبراهيم الذي توفى عام مائة واثنين وثمانين هجرية. تفسح له مصادر تراثنا العربي من صدر صفحاتها ما يشير إلى علمه ومنزلته ومكانته. فهو أولاً صاحب الإمام أبى حنيفة، وتلميذه، وأول من نشر مذهبه. كما تتحدث هذه المصادر عن نشأته الأولى في الكوفة وتفقهه بالحديث والرواية ولزومه أبا حنيفة. وقد أهله علمه وتفقهه وما عرف عنه من صفات كريمة لتولي القضاء في بغداد أيام الخلفاء العباسيين المهدي والهادي والرشيد.

         وينفرد أبويوسف - بين سائر القضاة - بأنه أول من لقب بقاضي القضاة، وكان يقال له: قاضي قضاة الدنيا. وتطلعنا هذه المصادر التراثية أيضاً على كثير من علمه وفضله، فهو أول من ألف في فصول الفقه على مذهب أبي حنيفة، ومن مؤلفاته المشهورة كتبه: الخراج، والآثار، والنوادر، واختلاف الأمصار وأدب القاضي والأمالي في الفقه.

         لكن الشيء الذي لم تشر إليه هذه المصادر هو أنه كان يمتلك لغة جميلة بليغة وأسلوباً مشرقاً، لا معاظلة فيه ولا حوشية، ينفر من مهجور الكلمات وغريبها، مما يضمن له سلاسة الانسياب إلى العقول والنفوس. وهو أسلوب يذكرنا بلغة ابن المقفع في يسرها وبساطتها وتدفقها، وجمالها ودقتها وسهولتها.

         واستطاع أبويوسف - قاضي القضاة - أن يملأ لغته هذه بثاقب فكره وعميق نظراته في القضاء والعدل، فضلاً عن شجاعته وجرأته في مخاطبة حاكم عصره وزمانه أمير المؤمنين هارون الرشيد، يحضه على التمسك بالتقوى، ويدعوه إلى ما ينبغي أن يكون عليه الراعي إقامة للحق ورعاية لأمور الرعية، وتجنباً للهوى  والزيغ والأخذ بالغضب.

         وهي جرأة تذكرنا بما كان عليه السلف الصالح في سابق الأزمنة والعهود، عندما كانوا لا يخافون فيما يقومون به ويؤمنون بحقيقته لومة لائم، العالم من بينهم لا يكون عالماً إلا بدعوته إلى جعل هذا العلم في خدمة الناس، والقاضي لا يكون قاضية إلا بمجاهرته بالعدل والوقوف في مواجهة الظلم والطغيان، والنهي عن المنكر والدعوة إلى الرشاد والصلاح، حتى لو كان يخاطب أمير المؤمنين نفسه ويعظه، وينصحه، داعياً إياه إلى التفقه والتدبر وقراءة ما كتب به إليه حتى يحفظه، حتى يعمل بما فيه من البيان، وحتى لا يظلم مسلماً ولا معاهداً.

         فلنتأمل - قبل قراءة هذه الرسالة النادرة والكاشفة - ما كان عليه حال علمائنا وفقهائنا في مواجهة أصحاب الحكم والسلطان، وكيف كانوا - بتمسكهم بالحق والعدل وما تمليه الشرائع - أقوى من كل الحكام والسلاطين، يضعهم علمهم في المنزلة العليا، وتؤهلهم كرامتهم على أنفسهم - أولاً وقبل كل شيء - لكي يتبوأوا هذه المنزلة العليا في قلوب الناس، احتراماً وإجلالاً، ودعوة إلى الاقتداء والاحتذاء.

         ولنتأمل - مع قراءتها - هذا المستوى من جمال اللغة والتعبير، يوشك أن يكون عصرياً، ينتمي إلى لغة هذا الزمان بأكثر من انتمائه إلى عصره وزمانه، وتلك هي الحداثة الحقيقية - في بعض تجلياتها الكاشفة - عندما يصبح الخطاب الأدبي والفكري قادراً على اختراق العصور، ومخاطبة الأزمنة، وحمل عطره الباقي وشعاعه الساطع نافذين متوهجين لقارئ سوف يجيء في مقبل الزمان.

***

         يقول أبويوسف في رسالته إلى هارون الرشيد:

         "يا أمير المؤمنين - إن الله - وله الحمد - قد قلدك أمراً عظيماً، ثوابه أعظم الثواب، وعقابه أشد العقاب. قلدك أمر هذه الأمة فأصبحت وأمسيت وأنت تبني لخلق كثير- قد استرعاكم الله، وائتمنك عليهم، وولاك أمرهم - وليس يلبث البنيان إذا أسس على غير التقوى أن يأتيه الله من القواعد فيهدمه على من بناه وأعان عليه، فلا تضيعن ما قلدك الله من أمر هذه الأمة والرعية، فإن القوة في العمل بإذن الله.

         لا تؤخر عمل اليوم إلى الغد، فإنك إذا فعلت ذلك أضعت. إن الأجل دون الأمل، فبادر الأجل بالعمل، فإنه لا عمل بعد الأجل.

إن الرعاة مؤدون إلى ربهم ما يؤدي الراعي إلى ربه، فأقم الحق فيما ولاك الله وقلدك ولو ساعة من نهار، فإن أسعد الرعاة عند الله يوم القيامة راع سعدت به رعيته، ولا تزغ فتزيغ رعيتك، وإياك والأمر بالهوى والأخذ بالغضب.

         وإذا نظرت إلى أمرين أحدهما للآخرة والآخر للدنيا، فاختر أمر الآخرة على أمر الدنيا، فإن الآخرة تبقى والدنيا تفنى. وكن من خشية الله على حذر، واجعل الناس عندك في أمر الله سواء، القريب والبعيد، ولا تخف في الله لومة لائم. واحذر، فإن الحذر بالقلب وليس باللسان، واتق الله فإنما التقوى بالتوفي، ومن يتق الله يقه. واعمل لأجل مفضوض وسبيل مسلوك، و طريق مأخوذ، وعمل محفوظ، ومنهل مورود. فإن ذلك المورد الحق والموقف الأعظم الذي تطير فيه القلوب وتنقطع فيه الحجج لعزة ملك قهرهم جبروته والخلق بين يديه ينتظرون قضاءه ويخافون عقوبته، وكأن ذلك قد كان، فكفى بالحسرة والندامة يومئذ في ذلك الموقف العظيم لمن علم ولم يعمل، يوم تزل فيه الأقدام وتتغير فيه الألوان، ويطول فيه القيام ويشتد الحساب.

         فالله الله، فإن البقاء قليل، والخطب خطير، والدنيا هالكة، وهالك من فيها، والآخرة هي دار القرار.

         فلا تلق الله غداً وأنت سالك سبيل المعتدين، فإن ديان يوم الدين إنما يدين العباد بأعمالهم ولا يدنيهم بمنازلهم، وقد حذرك الله فاحذر، فإنك لم تخلق عبثاً، ولن تترك سدى، وإن الله سائلك عما أنت فيه وعما به، فانظر ما الجواب.

         وإني أوصيك يا أمير المؤمنين بحفظ ما استحفظك الله ورعاية ما استرعاك الله، وألا تنظر في ذلك إلا إليه وله، فإنك إن لم تفعل تتوعر عليك سهولة الهدى، وتعمى في عينيك وتتعفى رسومه، ويضيق عليك رحبه، وتنكر منه ما تعرف وتعرف منه ما تنكر، فخاصم نفسك خصومة من يريد الظفر لها لا عليها، فإن الراعي المضيع يضمن ما هلك على يديه مما لو شاء رده عن أماكن الهلكة، بإذن الله، وأورده أماكن الحياة والنجاة، فإذا ترك ذلك أضاعه، وإن تشاغل بغيره كانت الهلكة عليه أسرع وبه أضر، وإذا أصلح كان أسعد من هنالك بذلك، ووفاه الله أضعاف مما وفى له فاحذر أن تضيع رعيتك فيستوفي ربها أضعت. وإنما يدعم البنيان قبل أن ينهدم، وإنما لك من عملك ما عملت فيمن ولاك الله أمره، وعليك ما ضيعت منه.

         وجور الراعي هلاك للرعية، واستعانته بغير أهل الثقة والخير هلاك للعامة. فاستتم ما آتاك الله يا أمير المؤمنين من النعم بحسن مجاورتها والتمس الزيادة فيها بالشكر عليها، فإن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه العزيز:لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد.

         وليس شيء أحب إلى الله من الإصلاح، ولا أبغض إليه من الفساد، والعمل بالمعاصي كفر بالنعم. وقل من كفر من قوم قط النعمة ثم لم يفزعوا إلى التوبة إلا سلبوا عزهم وسلط الله عليهم عدوهم. وإني أسأل الله - يا أمير المؤمنين - الذي من عليك بمعرفته فيما أولاك ألا يكلك في شيء من أمرك إلى نفسك وأن يتولى منك ما توتى من أوليائه وأحبائه.

         وقد كتبت لك ما أمرت به - من كتاب الخراج - فتفقهه وتدبره، وردد قراءته حتى تحفظه. وإني لأرجو- إن عملت بما فيه من البيان - أن يوفر لك خراجك من غير ظلم مسلم ولا معاهد، ويصلح لك رعيتك، فإن صلاحهم بإقامة الحدود عليهم ورفع الظلم عنهم والتظالم فيما اشتبه من الحقوق عليهم. وكتبت لك أحاديث حسنة فيها ترغيب وتخضيض على ما سألت عنه، مما تريد العمل به إن شاء الله.

         فوفقك الله لما يرضيه عنك، وأصلح بك وعلى يديك". وهي رسالة تذكرنا بما أورده ابن المقفع في كتابه "الأدب الكبير" على لسان بيدبا الفيلسوف وهو يتوجه بالنصح إلى دبشليم الملك - دون خوف أو خشية - ويقول:

         أيها الملك، إنك في منازل آبائك وأجدادك من الجبابرة الذين أسسوا الملك قبلك، وشيدوه دونك، وبنوا القلاع والحصون، ومهدوا البلاد وقادوا الجيوش، واستجاشوا العدة، وطالت لهم المدة، واستكثروا من السلاح والدواب، وعاشوا الدهور في الغبطة والسرور، فلم يمنعهم ذلك من اكتساب جميل الذكر، ولا قطعهم عن اغتنام الشكر واستعمال الإحسان إلى من خولوه والرفق بمن ولوه، وحسن السيرة فيما تقلدوه، مع عظم ما كانوا فيه من غرة الملك، وسكرة الاقتدار.

         وإنك أيها الملك السعيد جده، الطالع كوكب سعده قد ورثت أرضهم وديارهم وأموالهم ومنازلهم التي كانت عدتهم، فأقمت فيما خولت من الملك، وورثت من الأموال والجنود، ولم تقم في ذلك بحق ما يجب عليك، بل طغيت وبغيت، وعتوت وعلوت على الرعية، وأسأت السيرة، وعظمت منك البلية، وكان الأولى والأشبه بك أن تسلك سبيل أسلافك، وتتبع آثار الملوك قبلك، وتقفو محاسن ما أبقوه لك، وتقلع عما عاره لازم لك، وشينه واقع بك، وتحسن النظر برعيتك، وتسن لهم سنن الخير الذي يبقى بعدك ذكره، ويعقبك الجميل فخره، ويكون ذلك أبقى على السلامة وأدوم على الاستقامة. فإن الجاهل المغتر من استعمل في أموره البطر والأمنية، والحازم اللبيب من ساس الملك بالمداراة والرفق، فانظر أيها الملك، فيما ألقيت إليك، ولا يثقلن ذلك عليك. فلم أتكلم بهذا ابتغاء غرض تجازيني به، ولا التماس معروف تسوقه إلي، ولكني أتيتك مشفقاً عليك".

***

           تبقى الإشارة الواجبة إلى أن اللغة الجميلة تكون أكثر جمالاً حين تصبح لغة قضية وفكر، لغة إشعاع وتنوير، لغة مثل عليا وقيم رفيعة نبيلة. عندئذ يكتمل جمال المعنى والمبنى - كما كان يقول القدماء - وكما نقول نحن الآن تتحقق صدقية الجمال في اللغة، ليس باعتباره جمال لفظ وشكل، وإنما بوصفه جمال مضمون ومحتوي، وبلاغة إشارة وتعبير. وما أروعه - عندئذ - من جمال!

 

فاروق شوشة