شعاع من التاريخ

  شعاع من التاريخ
        

الطبيب المكافح لتحرير نياسلاند

         وقف الطبيب الإفريقي الأسود ينظر إلى الصحفيين وقد بدأ لأول وهلة، وكأن الدموع ستطفر من عينيه، ولكنه استطاع أن يقول لهم: "لقد فاض بنا الكيل إلى حد أني لا أستطيع أن أقول شيئاً.. لا أجد من الكلمات ما أعبّر به عن نفسي، ولكني أقولها للأوربيين في نياسالاند أن كل من يجد نفسه غير مستعد لأن يقبل حق الإفريقيين في حكم أنفسهم بأنفسهم، يجب عليه أن يرحل فوراً ويعود إلى بلده... ".

         ثم أردف الدكتور هاستنجز باندا الزعيم الإفريقي في نياسالاند (ملاوي الآن)، فقال في صوت عال: "إذا كانت الحكومة البريطانية أو سير ويلنسكي، أو كائن من كان يريد إبقاء نياسالاند في الاتحاد الاستعماري الذي فرضته بريطانيا، فإني أقول لهم: أيها السادة، فلتعلنوا حالة الطوارئ من جديد الآن وفوراً، ولتعودوا بي إلى السجن ".

         حدث هذا يوم العشرين من أغسطس 1961 عندما ظهرت نتيجة الانتخابات التي تمت في نياسالاند وانتصر فيها حزب مؤتمر الملاوي بزعامة الدكتور هاستنجز باندا انتصاراً ساحقاً، إذ حصل الحزب على جميع المقاعد العشرين في المجلس الأدنى وهي المقاعد التي يقتصر الاقتراع لها على الإفريقيين وحدهم، وحصل على 99 % من مجموع الأصوات، في مواجهة حزب ويلنسكي الرئيس البريطاني لحكومة اتحاد روديسيا ونياسالاند.

         إن هذا الانتصار الذي حققه شعب نياسالاند، لا يدع مجالاً للشك في أن إرادة الشعوب لابد أن تنتصر مهما طال الأمد. إذ تحقق الاستقلال عن إنجلترا عام 1964، وكان عدد السكان الإفريقيين قد بلغ حوالي تسعة ملايين، ذلك أن الشعب لم يوافق أبداً على الاتحاد الاستعماري الذي فرضته بريطانيا على بلاده وعلى روديسيا الشمالية وروديسيا الجنوبية (زامبيا وزبمبابوي حالياً) لأن هذا الاتحاد يخدم الاستعمار البريطاني بالدرجة الأولى لأنه يضمن مع التعقيدات بين البلاد الثلاثة بقاء نفوذه وسيطرته على الجميع.

من عامل منجم إلى طبيب

         لكل هذا التف الشعب المالاوي حول هاستنجز باندا وحزبه لينتصر هذا الانتصار الساحق على الإنجليز. هذا الرجل الذي أقض مضجع الاستعمار البريطاني ولد في إحدى قرى مالاوي من أبوين أميين. وفي الثالثة عشرة من عمره لم يجد في مدارس التبشير ما يرضي نهمه للعلم الذي كان يحسد عليه المستعمرين البيض، فخرج من قريته خاوي الوفاض لا يملك سوى ملابسه التي فوق جسده، وظل يمشي على قدميه إلى أن وصل إلى جنوب إفريقيا. أستغرقت رحلة الفتى إلى جنوب إفريقيا عاماً كاملاً، عمل أثناءه في أعمال عدة لا تكاد تقيم أوده، وأثناء الرحلة، عمل في أحد المستشفيات، حيث رأى آلام المرضى من الإفريقيين السود، فكان أن اتخذ قراراً كان له أكبر الأثر في مستقبله إذ قرر أن يكون طبيباً.

         وفي جنوب إفريقيا، عمل في أحد مناجم الذهب، وفي المنجم الذي عمل به وجد عدداً كبيراً من مواطنيه من أبناء نياسالاند يعملون في أقسى وأشق الأعمال في استخراج الذهب دون أن يحصلوا على القوت الضروري إلا بالكاد. وراح الفتى يعمل طوال النهار ويعكف على الدراسة في المدارس الليلية طوال الليل، واستطاع خلال ذلك أن يدخّر خمسين جنيهاً إسترلينياً سافر بها إلى الولايات المتحدة على ظهر مركب بضائع يحمل الأثقال والبضائع على كتفيه، وهناك ظل يكافح ويصل النهار بالليل حتى استطاع أن يدخل الجامعة ويتخرج في نهاية الأمر طبيباً، ولكن على الرغم من دراسته الطبية، وجد هاستنجز باندا في نفسه ميلاً شديداً إلى السياسة.

         سافر باندا وقد أصبح طبيباً إلى بريطانيا حيث مارس الطب في أدنبرة وليفربول ولندن، وظل في العاصمة البريطانية حتى عام 1955، وكان بيته هناك ملتقى للطلبة الإفريقيين المبرزين مثل نكروما وكينياتا وغيرهما ممن تولوا قيادة الحركة الاستقلالية الإفريقية.

قيادة النضال

         كان الدكتور باندا يراسل وهو في بريطانيا أبناء بلده. واستمرت المراسلات حتى أسفرت عن قيام حزب المؤتمر الإفريقي الوطني في نياسا لاند. وتولى باندا قيادة الحزب وتوجيهه وتمويله وهو في لندن إلى أن كان عام 1951، فالتقى زعماء الحزب عندما سافروا إلى لندن ليعارضوا فكرة اتحاد إفريقيا الوسطى، غير أن الاتحاد فرض فرضاً على نياسالاند وروديسيا الشمالية وروديسيا الجنوبية في عام 1953.

          ولم يكن ذلك ليرضي الدكتور هاستنجز باندا "فهو يدرك لماذا سعى الاستعمار البريطاني إلى فرض الاتحاد على نياسالاند، كما يدرك أن الشعب في بلاده يعارض هذا الاتحاد معارضة شديدة. فروديسيا الجنوبية مستعمرة محكومة حكماً ذاتياً، وروديسيا الشمالية ونياسا لاند محميتان بريطانيتان، ولم يتغير الوضع بعد الاتحاد حيث ظل كما هو، فضلاً عن أن سير ويلنسكي البريطاني هو رئيس وزراء الاتحاد، والحكومة الفيدرالية مسئولة عن الشئون الاقتصادية والمالية والدفاع والنقل والمواصلات والهجرة وتعليم السكان الأوربيين. ولكنها غير مسئولة عن تعليم الافريقيين، فإذا عرف أن روديسيا الشمالية غنية بمزارعها وثرواتها التعدينية، وأن هذه الثروات الضخمة في أيدي البريطانيين. وأن روديسيا الجنوبية غنية أيضاً بمناجمها وخاصة خام الذهب، بينما نياسالاند ومزارعها يملكها المستعمرون، وهي بذلك أفقر بلد في الاتحاد الاستعماري. فالإنجليز بذلك يستطيعون أن يحصلوا على الأيدي العاملة الرخيصة فيها لاستخدامها في المزارع الشاسعة والمناجم الضخمة في البلدين الآخرين، حتى أن الأهالي يهاجرون بأعداد كبيرة إلى روديسيا لعدم وجود مجال للعمل في بلدهم لأنهم لا يملكون فيها شيئاً..!!

العودة من جديد

         في عام 1955 غادر باندا لندن إلى غانا حيث مارس مهنة الطب فيها، ودرس حركة التحرر القائمة في غانا منتظراً لحظة العودة إلى وطنه. وفي عام 1959، قرر الدكتور باندا العودة لقيادة نضال بلده، وأعلن أنه يعارض الاتحاد، وهبّ الشعب في نياسالاند ثائراً ضد الاستعمار البريطاني وضد الاتحاد الذي فرضه المستعمرون. وقام بمظاهرات متلاحقة وضخمة.

         وألقي القبض على الدكتور باندا فور عودته، وأعلن المستعمرون حالة الطوارئ، ولفّقوا للدكتور باندا تهمة تنظيم مؤامرة لاغتيال جميع البيض في نياسالاند هادفة إلى تلطيخ الحركة الوطنية ودمغها بطابع الوحشية لتأليب الرأي العام العالمي ضدها، ولكن لجنة التحقيق التي أوفدها البرلمان البريطاني برئاسة القس ويفلين نشرت تقريراً يعلن زيف المهمة، ويدين الجنود البريطانيين بأعمال الوحشية والإرهاب ضد الوطنيين!

         وأخيراً، اضطر المستعمرون إلى الإفراج عن دكتور باندا في عام 1965، وعاد باندا ليعيد تنظيم حزبه المالاوي الذي فاز في الانتخابات، وكان النصر للشعب الذي مضى معه في طريق الكفاح حتى تم التحرر والاستقلال الكامل وتصفية الاستعمار نهائياً من بلاده.

 

سليمان مظهر