شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

الذئب الأغبر.. والانقضاض على الضحايا..!

كان مشاغبا، عنيدا، فظا، أنانيا، صلب المراس، كثير الانتقادات. وكان يفيض رغم فقره بفتوة تجعله يتطاول على زملائه ومعلميه، عدا صحبه من "الدونمة" الذين تأثر بهم وبأفكارهم منذ الصبا، وهم فئة من يهود الأندلس الذين لجأوا للدولة العثمانية، وتظاهروا باعتناق الإسلام، واستقر الكثير منهم في سالونيك، المرفأ الذي يعيش فيه مع أمه التي لم تكن علاقاتها بهم وبغيرهم من المقدونيين واليونانيين فوق مستوى الشبهات.

وإذا كانت سالونيك اليونانية التابعة لتركيا مرفأ مهما، فإن بعض أحيائها كانت لا تتمتع بالطهارة، تماما مثل الحي الذي تعيش فيه أمه "زبيدة" والذي تفوح منه رائحة السمك والأوساخ، مختلطة ببذاءات وضجيج التجار واليهود. ولم تكن المرأة لتنسى أنها تعبت كثيرا في صباها، واضطرت إلى امتهان العديد من المهن المتدنية التي لم تكن ترضيها، والتي بسببها ـ كما يؤكد المؤرخ التركي الدكتور رضا نور الطبيب والسياسي في مذكراته التي نشرت في تركيا عام 1968 ـ أنجبت زبيدة ولدها مصطفى، ونسبته إلى أحد حراس الجمرك واسمه علي رضا أفندي والذي تزوجته فيما بعد.!

ولعل هذه العقدة هي التي جعلت الفتى عزوفا عن زملائه ومعلميه في المدرسة الرشيدية العسكرية، حيث كان يعرف بمصطفى فقط مجردا من اسم الأب، حتى اختار له أحد أساتذته اسم مصطفى كمال، لئلا يختلط الأمر باعتبار أن كليهما يحمل اسم مصطفى..!

وإذا كانت زبيدة قد وضعت على رأسها الحجاب بعد ذلك، فإنها استطاعت أن تفرض شخصيتها التي اكتسبتها من عادات المرأة التركية على زوجها وولدها مصطفى وأخته الصغرى "مقبولة". ورفضت الأم رغبة الأب في أن يعلم ولدها تجارة الخشب، وهي المهنة التي عمل فيها بعد مغادرته لإدارة الضرائب العثمانية، وصممت أن تجعل من ولدها "عالم دين" ونجحت في إرساله إلى المسجد لحفظ أجزاء كثيرة من القرآن ـ وهو ما عجز عن حفظه ـ فألحقته بالمدرسة. وحين مات علي رضا بدأت زبيدة من جديد رحلة صعبة، فحملت ولدها وأخته، واتجهت بهما إلى الضيعة عند خالهما. وهناك في ضيعة لازاران كان على الفتى العنيد أن يشتغل في المزرعة كراع صغير، فاكتسب قوة بدنية مكنته في المستقبل من أن يكون جنديا صلبا. واستطاعت آخر الأمر أن تلحقه بإحدى مدارس سالونيك، حيث لم يقتنع ولم يوفق فيما يدرسه من العلوم المدنية. وقال الخال لأخته: "إن ابنا كهذا لا يصلح للتعليم المدني، يجب أن نرسله إلى المدرسة العسكرية. إن رأسه صلبة، وهناك سيفتحون له هذه الرأس".

مدافع عن السلطنة

كانت المدرسة العسكرية ذات نظام قاس. وإذا أمكن للجندي أن يبدي استعدادا لكي يتعلم ويتطور، فإنه يكون قادرا على أن يصبح ضابطا، وهكذا كان، وسرعان ما برز الفتى كتلميذ بارع، كما بدأ يشعر بالنضج كل يوم وأحس أن دماء الرجال تجري قوية في عروقه. وبعد سنتين من الدراسة المجتهدة، والمغامرات النسائية، انتقل إلى مدرسة "مستير العسكرية" وهناك تخرج ضابطا بعد ثلاث سنوات من الدراسة التطبيقية التي أخذته في أحيان كثيرة إلى ساحات القتال دفاعا عن السلطنة العثمانية.. التي دفنها فيما بعد..!

الآن، أصبح الفتى ضابطا له بزة عسكرية جذابة وعدد من النياشين. لم يعد مشاغبا كما كان من قبل، بل أصبح يدرك أين تقع خطاه، وأرسل في ذلك الوقت كملازم إلى استانبول. وفي المدرسة العليا للأركان تعرف على جماعة "الوطن" وهي جماعة سحرته بخطها القومي وسرعان ما برز اسمه كأحد الأعضاء الفاعلين. ولكن الوقت لم يطل حيث دفع بين يدي البوليس السري، فأودع السجن الأحمر باستانبول، وحين أفرج عنه أرسل في مهمة إلى دمشق، ومن هناك راح يتحرك خفية للاتصال بالضباط في غزة وحيفا وبيروت وطرابلس، الأمر الذي أوقعه مرة أخرى بين يدي بوليس السلطان حيث نجح الأصدقاء في تهريبه.

التمرد والتحول الكبير

في ذلك الوقت كانت هناك حركة أخرى تعمل ضد السلطنة العثمانية هي "حركة الاتحاد والترقي". وانتمى مصطفى كمال إلىها. وكانت أكثر نشاطا من "الوطن" وتحت قيادة مختلطة بين اليهود والإيطاليين والماسونيين والدونمة. وبعد سنة واحدة أصبح عضوا نشطا في محفل فادينا الماسوني. وفجأة أعلنت إيطاليا الحرب على تركيا في ولاية طرابلس الغرب. وأرسل مصطفى كقائد للدفاع عن السلطنة. وقد أثبت قدرة عجيبة في صد العدوان، وعندما انتهت حرب البلقنة الأولى أرسل في مهمات كثيرة خارج استانبول ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى جاءت المرحلة الثانية في تفتيت السلطنة، وبعد أربع سنوات وجد الباب العالي نفسه محاصرا من قوات الحلفاء. ومع قيام عدد من الحركات الانفصالية قرر السلطان إرسال مصطفـى كمال لضربها.

لقد وضع القدر مرة أخرى كل الأوراق بين يديه، فحين اتجه إلى البحر الأسود للالتحاق بالجيش الثالث، كان ينازعه شعور خبيث نحو التمرد ضد السلطان بعد أن شارك في إبادة الأرمن وحدث التحول الكبير في عقلية مصطفى كمال.

كانت هناك علاقة حميمة بين الاتحاد والترقي وبين الدونمة والماسونية، ودعي مصطفى لحضور أحد اجتماعاتهم في بيوت بعض اليهود المنتمين للجنسية الإيطالية وجمعياتها الماسونية. وكان هؤلاء على علاقة بالحكومة البريطانية التي كانت تستهدف العمل على إسقاط الدولة العثمانية. وبفضل نفوذ المخابرات البريطانية تحول القائد العسكري بعد انتصاراته ليلقب "بالغازي".

ويروي الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين في مذكراته أن اللورد كيرزون وزير خارجية بريطانيا أملى على مبعوث مصطفى كمال شروطا محددة للموافقة على استقلال تركيا عام 1921 هي: أن تقطع تركيا صلتها بالإسلام، وأن تلغي الخلافة الإسلامية، وأن تتعهد بإخماد كل حركة يقوم بها أنصار الخليفة، وأن تختار تركيا لها دستورا مدنيا بدلا من الدستور العثماني المستمد من أحكام الشريعة الإسلامية. واستجاب مصطفى كامل عندما أصبحت كل أمور الدولة بين يديه كرئيس للدولة. فاختار دستور سويسرا المدني ونفذ بقية الشروط البريطانية، فألغى استعمال الحروف العربية واستبدل بها الحروف اللاتينية، ومنع إقامة الأذان باللغة العربية، ومنع تعليم الدين والقرآن في المدارس. ثم فصل بين السلطنة عندما ألغاها، ثم أنهى الخلافة نفسها في الثالث من مارس 1924. وبعد يومين أبحرت السفينة الإنجليزية "ملكة الملايو" بعيدا حاملة السلطان المطرود عبد المجيد، ضحية الغازي "أتاتورك"..!

 

سليمان مظهر

 
  




مصطفى كمال