واحة العربي

القط مرة أخرى
في حركته من كونه كان معبوداً حتى أصبح علاجاً

كل هذه الحيوانات مفترسة وأليفة وأجزاء الجسد وأكوام النباتات والظواهر الجوية والموسيقى والماء، تملأ الواحة دون أن يكون فيها قط واحد، وكان لابد أن يكون في المقدمة منذ سبتمبر 1992، إذ لا يوجد موقع به جماعة من الناس دون أن يكون مواء القط جزءاً أصيلاً من عالمهم، ويبز القط الكلب في الألفة والتسلل إلى الفراش الشخصي الشتوي، وكان هرير القطة في صدري إشارة أمان في ليالي الريف ذات الزوابع، ويزعم المؤرخون أن القط الأليف لم يظهر أليفاً وأنيساً للإنسان إلا في العصور الوسطى من التاريخ الفرعوني، آية ذلك أن مقابر بني حسن "المنيا" تحظى بعدد وافر من رسومات عادات وتقاليد فراعنة العصر القديم، حيث ظهرت كل الحيوانات والطيور المعروفة بألفتها على الحوائط دون القط، كان القط البري النافر "النفور" المتوحش الشرس يكمن على حافة وادي النيل الصحراوية ليهاجم أي مخلوق حي، وهذا القط "النفور" معروف حتى الآن في الصعيد والذي لا يتورع عن الهجوم على الإنسان الذي كثيراً ما تتردد حيوانات أخرى مفترسة في مداهمته. وفي قريتنا - ديروط الشريف - حدث ذلك مرات متباعدة كان من ضحاياها أختي التي تكبرني مباشرة، وقد ترك القط المهاجم من فوق أسوار حديقة كالغابة: آثار خرابيش دموية في بطنها وفخذها مع تمزيق ملابسها، ولولا تجمع الناس الذين هرعوا إلى صراخها لكان قد فتك بها، والقط البري المفترس أكبر وأضخم من أي قط معاصر، ويكشر عن أنيابه حتى في حالة سيره العادي، رأيت ذلك في "عالم الحيوان" - البرنامج التلفزيوني الشهير، وربما يكون هذا المتوحش هو الذي عبده القدماء قبل عصر الرسالات السماوية، وكان يسمى " شاوس" وتعني المخلوق الكاسح، وهو ما استعاره جبابرتنا الأشاوس اليوم.

وأنواع القطط الأليفة - حاليا - متعددة، أشهرها الفيتنامي الطيب الذي قد يهجرك نهائيا ويعود إلى الشارع هائما إذا ما وقع عليه اعتداء منك، وهو قابل للتوجيه في النوم وقضاء الحاجة والبعد عن مواطن الدنس، رأيت واحداً منها عند صديق لا يقرب الأكل إلا إذا كان في طبق، أي أنه لا يقرب ما قد يلقى على الأرض، كما أن القط الرومي يميل إلى المصادقة مصاحبة لحركة صاحبه - بعض الكلاب المدربة تفعل ذلك - ويشتهر القط - عموما - بالخيانة، ذلك لأن بعض أنواعه لا تقيم وزنا لأصحابها حين يتشممون رائحة الغذاء "مثل القط: يأكل وينكر"، وفي جميع الحالات يظل الفأر - والحشرات وأيضا - مهوى لذة القط، يطاردها في البيوت وعلى الحوائط وفي الحدائق والمزارع، بل ويحاول التقافز طيرانا لأعلى كي يلتقطها ويمسك بما في الجو، وفي بلاد كثيرة يحوز القط الرعاية من الناس حتى أنه اقتسم خرافة التوأم الراحل، وخلاصتها أن التوأمين اللذين يعيشان فترة من العمر، ثم يموت أحدهما، فإن الثاني الذي يظل حياً يتحول إلى قط ليلي، يسرح هائماً في الشوارع والبيوت بحثاً عن "نصفه الآخر"، وقدم لي أحد الأقارب ابنه التوأم - وهو طفل - الذي عاش دون الشق الآخر الذي هو أخوه الراحل، وكشف لي عن رقبته ورأسه لأرى الخرابيش الواضحة الناجمة عن العراك الدائم مع القطط الأخرى، كما أن ثمة خرافة أخرى ترتبط بالزوجة العقيم التي تلد في سن متأخرة، إنهم يراعون المعاملة الطيبة الحنون - والمبالغ فيها- لما قد يكون موجوداً من قطط في المنزل ساعة الولادة، إن القط هنا حارس الأرواح، ولعل ذلك راجع إلى الأحقاب المصرية القديمة التى كان فيها هذا الحيوان معبوداً، حتى أنه كان اسماً لوالدة أحد وزراء الملك أمنحتب الأول: نعم اسمها "قطة"، وكان ذلك وراء كثير من التماثيل الصغيرة والعديدة التي اكتشفت في معبد القطة بمدينة بوباسطة "تل بسطة بالشرقية"، ولبعض هذه التماثيل جسم امرأة ورأس قطة، ويمثل بعضها قططا آدمية ترضع قطيطات عادية، وبعضها كان في صورة الملكة منتصبة القامة ولها هيبة ووقار، وهي جالسة على عرشها متحلية بالجواهر وعلى أهبة الوثوب أو الهجوم، وكانت هذه التماثيل - التي يحتفظ المتحف المصري القديم ببعضها - من البرونز، وذات تشكيل متقن، قطعة فنية رائعة - كما يقول جورج بوزنر وزملاؤه واضعو كتاب معجم الحضارة المصرية القديمة، والذي ترجمه أمين سلامة.

والقطة مشهورة بانزعاجها على ولائدها، تنقلها - فور الولادة من موقع لآخر، ثم يؤدي بها الاضطراب إلى التهامها، ورأيت أمي وهي تحمي القطيطات من تلك الحالة الدموية النابعة من الحب الأموي القوي العارم أصلاً، كما أن كثيرا من القطات الوالدات قد تفتك بذكرها بعد الولادة حينما يحاول مداعبة أبنائه منها، يظل القط نائما قريباً من المخبأ وعيونه متوجهة نحو أولاده دون الاقتراب أكثر. وفي الحقيقة القائمة على التجربة فإن كون هذا النوع من الحيوانات في حجرك أو تحت لحافك - في البرد ليلا - يثير في النفس قدرا مذهلاً من الحنو والحب والإشفاق، يصلح جزء منه - ولو قليل - للتصالح الجميل مع العالم.