مستقبل حركات الإسلام السياسي

مستقبل حركات الإسلام السياسي

حديث الشهر
غموض في الرؤية .. وقصور في فهم شكل الدولة

مع اقتراب سنوات القرن العشرين من أفولها تزدهر الكتابات والبحوث التي تتناول محاولات المجتمعات المسلمة الخروج من أزمتها السياسية والاقتصادية, بعض هذه الكتابات محلية وضعها أشخاص عرب أو مسلمون أرقتهم تلك الحلقات المحكمة في التخلف وازدياد الفقر والفاقة في المجتمعات, وكتابات أخرى قام بها مفكرون غربيون تنازعتهم دوافع شتى للنظر إلى هذا الموضوع أهمها أزمة الأمة الإسلامية المستحكمة, أو ما يسميه بعضهم التهديد الذي يمثله الإسلام للغرب.وتبحث بين هذه الكتابات المتراكمة فترى الكثير منها يبتعد عن الموضوعية وهي تقع إما في وهدة تضخيم الذات وتجاوز الأخطاء وإظهار التجارب وكأنها نتائج نهائية, أو في تضخيم الخطر الإسلامي ـ كما تسميه هذه الكتابات ـ على الحضارة الغربية. ولعل آخر ما يمثل التوجه الأخير كتاب صموئيل هنتنجتون الأخير: (صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام الدولي) الذي صدر أخيرا, وعرضنا في حينه لجزء من أفكاره في (العربي).

أما تلك الدراسات والأبحاث الغربية التي تتناول محاولات العرب والمسلمين في بناء الدولة الحديثة واللحاق بالركب العالمي بتجاربه العديدة الاقتصادية والسياسية, بنظرة موضوعية أو قريبة من الموضوعية, فهي قليلة وتظهر في أوقات متباعدة ,ولعل الكتاب الذي وقع في يدي أخيرا يقوم بهذه المهمة, وهي عرض عقلاني ـ ولا أدعي أنه نهائي وقاطع ـ للعقبات التي تواجه المجتمعات والحركات الإسلامية السياسية في العالم الإسلامي من أجل إيجاد صيغة سياسية واقتصادية نابعة من المفاهيم الإسلامية وتساير في الوقت نفسه متطلبات الدولة الحديثة, وهي معادلة تحتاج إلى كثير من الجهد والعناء.

الكاتب الفرنسي هو أوليفر روي Oliver Roy وعنوان الكتاب يشد القارىء المهتم, فقد اختار له عنوانا لافتا للنظر هو (فشل الإسلام السياسي). وقد ترجم إلى الإنجليزية أخيرا, وأهمية وجهة النظر التي يطرحها الكاتب تأتي من كونه قد عايش الحركة الإسلامية السياسية من أفغانستان حتى الجزائر, وقرأ أدبيات هذه الحركات المتاحة, وقابل بعض قادتها, فهو إذن قد أمضى وقتا ليس فقط في مطالعة الكتب والنشرات عن بعد, بل والمعايشة المباشرة, والاختبار الميداني .وحقا عندما ينتهي القارىء من قراءة الكتاب يجد أمامه شخصا ـ سواء اتفق أو اختلف مع مستخلصاته ـ قد خبر الموضوع المدروس من معظم جوانبه, وألقى نظرة شمولية على القوى السياسية الإسلامية من وسط آسيا حتى الجزائر مرورا بكل الدول الإسلامية تقريبا مشرحا ومقارنا ومفسرا للأحداث ورابطا بين الحوادث, لذلك فليس من الغريب أن يحظى الكتاب ـ في الغرب ـ باستقبال إيجابي واسع خاصة لدى المتخصصين والمهتمين, فقد قال عنه مثلا وليم كونت ـ مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر والمهتم بالشئون الشرق أوسطية منذ ذلك الحين :(إنك لو قرأت كتابا واحدا عن الإسلام السياسي, كان يجب أن يكون هذا الكتاب, فقد اهتم أولفر روي بظاهرة الإسلام الراديكالي ووصل إلى نتائج لافتة للنظر, وتقريبا في كل صفحة يجد القارىء تفسيرا أو ملاحظة مثيرة وعميقة في آن).والكتاب ليس بالحجم الكبير, فهو لا يتعدى المائتين والثلاثين صفحة من الحجم المتوسط, ويحتوي على أحد عشر فصلا صغيرا مع تمهيد ومقدمة ونهاية, ولكن هذه الفصول تبحث في قضايا حيوية, منها على سبيل المثال الإسلام والسياسة, مفاهيم الإسلاميين, مأزق الإسلاميين الأيديولوجي, استراتيجية الإسلاميين الجغرافية, المفاهيم الاقتصادية للإسلاميين, مع عدد من الفصول يخص بها أفغانستان وإيران.

الموضوعية التعددية

يحذرنا الكاتب من البداية حتى لا نخطىء فهم ما يريده من كتابه فيقول: (هذا الكتاب ليس عن الإسلام, ولا عن موقع السياسة في الثقافة الإسلامية, إنما هو عن نظرة الحركات الإسلامية المعاصرة, خاصة الجماعات النشطة منها التي ترى في الإسلام أيديولوجية سياسية بقدر ما هو دين, والذين يختلفون عن تقاليد وتراث ما عرف عن الإسلام, هذه الحركات التي تشكلت في العقود الأخيرة تحديا للغرب من جهة وللأنظمة التي تعيش في ظلها من جهة أخرى). بهذا الوضوح يحدد الكاتب إطار عمله العلمي هذا, أي أن موضوع التساؤل الرئيسي في الكتاب هو:هل يقدم منظور الحركات السياسية الإسلامية المعاصرة خيارا للمجتمعات الإسلامية?

يحاول الكاتب أن يطمئن الغرب بإثبات ما يقوله بالشواهد أنه ليس هناك (إسلام سياسي) معاصر واحد, كما يعتقد بعض المستشرقين والسياسيين في الغرب, صحيح أن هناك أربعة عشر قرنا من الاستمرار العقائدي والثقافي لدى المسلمين, إلا أن الممارسات السياسية التي أصبحت تتخذ من الإسلام مظلة أيديولوجية هي ممارسات عديدة ومعقدة وتختلف اجتهاداتها وتصوراتها باختلاف المجتمعات الإسلامية وظروفها الاقتصادية والسياسية والثقافية.

لقد اجتهد بعض الدعاة الأوائل مثل المرحوم حسن البنا (في مصر), والمرحوم أبو الأعلى المودودي (في القارة الهندية), لإظهار الإسلام وكأنه نظام سياسي, إلاأن هذه الاجتهادات ـ في نظر المؤلف ـ ترفض أو تتجاوز المراحل التاريخية التي شهدتها الدولة الإسلامية وكذلك خصوصية البيئات المختلفة التي نشأت فيها, وبعيدا عن الثورة الإسلامية في إيران, فالحركات الإسلامية السياسية المعاصرة لم تؤثر في المسرح السياسي للشرق الأوسط, فحتى الوقت الحالي مازالت الدولة التي كانت موجودة في السبعينيات والثمانينيات قائمة, ويرى المؤلف أن مرد ذلك هو الفشل من قبل هذه الحركات السياسية في تقديم نموذج لمجتمع جديد, وحتى الثورة الإيرانية التي طرحت مشروع هذا المجتمع الجديد ـ كما أعلنت عن ذلك أدبياتها المتفائلة والمثالية في بدء قيامها ـ ما لبثت أن امتزجت في نسيج الدولة الإيرانية ذات الثقافة والمنطلقات القومية الراسخة والقديمة.كثير من المحللين والكتّاب يعتقدون أن نهاية هذا القرن سوف تشهد نهاية عصر الحركة الإسلامية السياسية, فإدخال الإسلام في الساحة السياسية هو محض مفارقة تاريخية, فكيف يمكن في نهاية القرن العشرين العودة إلى الحكم الديني, والفرق بين الدولة الإسلامية والحكم الديني هو أن الأخير يستلزم وجود (رجال دين) على رأس السلطة السياسية, الأمر الذي لم يحدث في تاريخ المسلمين باستثناء تجربة الثورة الإسلامية في إيران أخيراً.

ينتقد الكاتب النظرة الغربية المقولبة بأفكار عصر التنوير الأوربي, بأن هناك شكلا واحدا من أشكال التقدم ـ كما يراه الغربيون ـ وهو الحداثة السياسية, التي تتمثل في ديمقراطية برلمانية تتزامن مع نمو اقتصادي وتخفيف للقواعد الأخلاقية الشخصية, في هذا المقام فإن ذاكرتنا التاريخية قصيرة المدى وانتقائية, فكم ثورة غربية كانت مثالية وصافية وحتى دينية من كرومل (الثائر الإنجليزي) إلى روبسير (خطيب الثورة الفرنسية), وكم من التحديث الصناعي حدث تحت حكم الدكتاتورية من نابليون الثالث حتى موسوليني وصولا إلى بعض تجارب دول جنوب شرق آسيا المعاصرة, وكم دكتاتورية كانت علمانية بل ومعادية للدين من المكسيك حتى الاتحاد السوفييتي السابق.لذلك فليس غريبا أن تحاول تيارات الحركات الإسلامية السياسية أن تقدم خطابا جديدا يهدف إلى بناء دولة مختلفة لم تعرف في السابق.

معضلة هذا الخطاب ـ كما يراها المؤلف ـ ليست في محاولة التجديد برفض القائم ولكن في عدم وجود تصور محدد واضح وعقلاني ومقبول أيضا للمؤسسات السياسية التي تزمع إنشاءها لإدارة هذا الدولة. فكل التفسيرات والاجتهادات التي قدمتها لم تخرج, في الواقع الموضوعي ,عن إطار الحزب الواحد والسلطة المركزية التي عرفتها الأنظمة الشمولية وإن ارتدت هذه المرة عباءة الدين, حتى لو تبنت هذه الدولة الشكل الخارجي للديمقراطية كما حدث في إيران, فإن القوانين الصادرة من البرلمان المنتخب من قبل الشعب لابد أن تمر على لجنة من رجال الدين لتأخذ مباركتها قبل أن تصبح ناموسا, كما أن المرشح لعضوية البرلمان أو لأي منصب سياسي آخر لابد أن يمر اسمه أيضا على (لجنة) للموافقة عليه أو رفضه.

يؤكد المؤلف أن الإخوان المسلمين في المشرق, بتياراتهم المختلفة (مؤسس الجماعة هو المرحوم حسن البنا 1906 ـ 1949), والجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية (مؤسسها أبو الأعلى المودودي 1903 ـ 1978), والفكر الثوري الشيعي, كل هذه الحركات تتشارك في الكثير من العناصر وإن جاهرت بما بينها من فروق, بمعنى المحتوى الانقلابي على الوضع القائم, ولاتخفي ذلك الأدبيات الرئىسية لمفكري هذه الحركات.

ويرى الكاتب أن الإسلام السياسي في العالم الإسلامي يتوجه إلى ثلاث مناطق جغرافية/ ثقافية: عرب الشرق الأوسط, وشبه القارة الهندية, وشيعة إيران, أما تركيا فلها تنظيماتها الخاصة. هذه الجماعات الثلاث الأولى مختلفة سياسيا بقدر بعدها الجغرافي, لذلك فإن الأحوط هو عدم الحديث عن وحدة دولية للحركات السياسية الإسلامية المعاصرة.

ولاشك أن أكبر تنظيم للحركات الإسلامية المعاصرة هو جماعة الإخوان المسلمين الذين يعتمدون بصورة خفية على قياداتهم المصرية بحكم النشأة والميلاد, ولكنهم في الحقيقة ليسوا فقط منتظمين على أساس قطري (عربي) بل إن منهم جماعات منشقة في نفس القطر ذات توجه إلى العنف, متأثرة بأفكار المرحوم سيد قطب الذي أعدم داخل السجون المصرية عام 1966.

وقد كتب سيد قطب العديد من المؤلفات تحت تأثير عاملين ظهرا بوضوح في كتاباته المتأخرة, الأول هو مأساته الشخصية داخل السجن, ثم تأثير ما ترجمه أبوالحسن علي الندوي تلميذ أبوالأعلى المودودي من كتاباته الأخير التي فرضت عليه هذا النوع من التفكير بسبب خوض الصراع ضد المستعمر في الهند والضغوط الثقافية والديانة الهندوسية السائدة, تلك الأفكار كانت تدعو لهجرة المجتمع الكافر بما تعنيه الأوضاع في القارة الهندية المختلطة.

من هذه الدعوات المفرطة في المُفارقة والفرز نشأت أحزاب مثل حزب التحرير, والجهاد الإسلامي, والفرق المختلفة والمتشددة التي ظهرت بعد ذلك , كلها من نتاج ذاك الفكر المُفارِق, كما ظهر ذلك في مجتمعات القارة الهندية وفي باكستان وبنجلاديش وأخيرا إسلاميو شمال إفريقيا, جماعة الإنقاذ في الجزائر وحزب النهضة في تونس, وأحزاب التثوير في البلدان الإسلامية التي استقلت حديثا في وسط آسيا بعد أن كانت خاضعة لسطوة الاتحاد السوفييتي.

الحركة الثورية الإسلامية الوحيدة التي وصلت إلى الحكم هي الثورة الإيرانية ولكنها ما لبثت أن تداخلت مع سلطة الدولة الإيرانية واستخدمت الدولة شعارات الثورة للحصول على نفوذ إقليمي, ولم تُوحد تعددية المجموعات الشيعية السياسية والتي هي انعكاس في حقيقتها لهويات محلية في كل من لبنان وأفغانستان والعراق, كما أن صراعات التيارات المختلفة في طهران نفسها تشير إلى عدم القدرة على (التوحد). ويدلل الكاتب على وجهة نظره بأن الثورة في إيران نشأت وظلت إيرانية لعدم قدرتها على الاستقطاب الأيديولوجي الواسع لبقية فصائل الشيعة وأقربهم شيعة العراق التي خاضوا ضدها حربا ضارية لمدة ثماني سنوات, حارب فيها الشيعة العراقيون في معظمهم كونهم مواطنين عراقيين, وكذلك فشلها في تثبيت مرجعية شيعية شاملة في طهران لكل الشيعة.

أما الحركة الإسلامية السياسية في الشرق فقد تطورت على مدى نصف قرن منذ أن بدأت من الأربعينيات عندما وفقت مفهوم الربط بين الديني والسياسي, ثم انقسمت وتنوعت بل واختصمت, ولكنها احتفظت بخاصيتين هما قالب مفاهيمي متقارب, وخلفية سوسيولوجية (اجتماعية) متشابهة.

البعد المفاهيمي

أصول التيارات والتنظيمات الإسلامية السياسية المشرقية يمكن إرجاعها إلى جماعة الإخوان المسلمين التي أسسها الشيخ حسن البنا في مدينة الإسماعيلية على ضفاف قناة السويس في مصر وكان وقتها مدرسا, كما ترجع بأصولها أيضا إلى الجماعة الإسلامية في باكستان والتي أسسها أبوالأعلى المودودي في سنة 1949. وعلى الرغم من أن الحركتين تطورتا بشكل مستقل إحداهما عن الأخرى, فإن الأفكار المشتركة بينهما تثير الانتباه, ولذلك لم يكن غريبا أن يتم الاتصال الثقافي بين الحركتين عن طريق تلميذ المودودي ـ كما ذكرنا سلفا ـ أبو الحسن علي الندوي الذي عكف على ترجمة أفكار أستاذه إلى العربية, والمرحوم سيد قطب. كما تداخلت أفكار حركة الإخوان في تيارات إيرانية خاصة تلك التي كانت في المنفى في النجف الأشرف. مصير الجماعة الإسلامية في الهند كان أفضل قليلا من مصير حركة الإخوان في المشرق لأنها لم تواجه ما واجهته الحركة المشرقية من عسف السلطة السياسية في الستينيات نتيجة تعاليم سيد قطب وأفكاره خاصة التي ضمنها كتابه (معالم على الطريق).

مفاهيم هذه الحركات ـ كما يقرر الكاتب ـ هي البعد عن التفسيرات التقليدية والمفاهيم التي يقول بها العلماء التقليديون في المؤسسات الرسمية, والقول إن المجتمع لا يصبح مسلما إلا من خلال العمل الاجتماعي والسياسي, لذلك تدخلت الحركة الإسلامية السياسية في الحياة السياسية والاقتصادية والعلاقات الاجتماعية,ولم تعد هذه النشاطات ثانوية بل أصبحت ساحات رئيسية للسباق على السلطة السياسية.

وتبرر جماعات الإسلام السياسي تدخلها في السياسة بقولها إن الإسلام نظام عالمي, فليس كافيا أن يكون المجتمع مكونا من أفراد مسلمين, بل لابد أن يكون معتمدا على الشريعة الإسلامية في أساسياته وفي بنائه, لذلك ظهرت مفاهيم الاختلاف بين المسلم والإسلامي, وأصبح من حق الإسلامي أن يثور ضد الدولة المسلمة لأنها فاسدة في نظره.من ظواهر الحركة الإسلامية السياسية أنها ليست تحت قيادة رجال الدين , وفيما عدا إيران, فإن معظم قيادات هذه الحركات من شباب متعلم في مدارس حديثة, ومعظم الذين يدعون بأنهم (مفكرون إسلاميون) أبعد ما يكونون عن الشكل التقليدي من العلماء والملالي و(المطاوعة) كما تعودنا على أشكالهم في السابق. ولم تعد هذه القيادات مشغولة بتفسير تعاليم الدين بقدر ما كان همهم الرئيسي إظهار الروابط بين الإسلام والسياسة, وقد قادت هذه الأفكار بعض المتطرفين إلى اغتيال رجال الدين كما حدث لوزير الأوقاف المصري الأسبق محمد حسين الدهبي الذي اغتيل سنة 1977, ومدير الوقف في مدينة حلب محمد المصري في 1979. وقد انتشرت هذه الأفكار المتطرفة حتى في الأدبيات الإيرانية حيث نشأ تيار يرى عدم صلاحية رجال الدين للقيادة, قال ذلك المفكر الإيراني علي شريعتي, وتظهر نداءات حتى اليوم في إيران تؤيد هذا التوجه.

الحركات الإسلامية السياسية بنت أفكارها الأساسية ووسعت تنظيماتها خارج جمهرة العلماء التقليديين وخارج الجامعات الإسلامية التقليدية مثل الأزهر الشريف, وقد نشأت مع الوقت عناصر معتدلة داخل تيارات الإسلام السياسي ووجدت لها مكانا داخل هذه المؤسسات المنغلقة. لقد كان اعتراض الحركات الإسلامية السياسية على مجاميع الفقهاء التقليديين أنهم يفسرون الشريعة خارج الإطار الاجتماعي والسياسي القائم, وانصب اتهامهم الرئيسي على شيئين,الاول: مسايرتهم للسلطة القائمة مهما كان نوعها واستعدادهم لتبرير كل ما تقوم به, والثاني: مسايرتهم للأفكار الغربية وقبولهم للحداثة, فالمجتمعات الإسلامية من وجهة نظر الإسلاميين لا تحتاج إلى حداثة أو استعارة من المجتمعات الأخرى.

كما اهتمت الحركة الإسلامية السياسية بالعدالة الاقتصادية وقد كتب مصطفى السباعي وسيد قطب مقالات عدة أذاعها الأول في الإذاعة في الخمسينيات, وأصدرها الثاني على هيئة مؤلفات أهمها (العدالة الاجتماعية في الإسلام) التي كان أهم أركانها التوزيع العادل للثروة, كانت كلها اجتهادات جديدة بالنسبة للكتابات الإسلامية التقليدية, كما أن هناك نقطتين أخريين فرقتا بين حركات الإسلام السياسي وتفسيرات التقليديين من رجال الدين , أولاهما: قضية تعليم النساء ومشاركتهن في العمل وفق شروط معينة, وثانيتهما :مشاركتهن في النشاط الاجتماعي والسياسي, وقد وافقت هذه الحركات على نشاط المرأة والسماح لها بالتعلم والعمل في المدارس والجامعات, وتقبل الدستور الإيراني مساهمة المرأة بالتصويت والتمثيل, أما تطبيق الشريعة فهو شعار سياسي أكثر ما هو مطلب عاجل للإسلام السياسي كما هو بالنسبة للأصوليين. الإمام الخميني في إعلان مشهور في يناير 1989 أعلن أن منطق الثورة يأخذ أولوية على تطبيق الشريعة, سيد قطب تحدث عن (الفقه الحركي), والمقصود هنا أن الجماعات النشطة في الإسلام السياسي تعطي لنفسها حق الابتكار لما يلائم المظاهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية دون التقيد بالتقليد.هذه العناصر الثلاثة , وأعني بها مكانة السياسة ووضع المرأة وتطبيق الشريعة ,هي من أوضح العناصر لمعرفة الفروق الأساسية بين الراديكاليين الإسلاميين والتقليديين. لذلك تنظر هذه الحركة إلى نفسها كحركة اجتماعية سياسية مبنية على الإسلام كدين ونظام أيديولوجي في الوقت نفسه, وكدليل على ذلك ـ يقول الكاتب ـ إن المقارنة التماثلية التي يقوم بها الإسلاميون بين تفكيرهم والأفكار الأخرى لا يعقدونها مع ديانات أخرى بقدر ما تكون مع أيديولوجيات مخالفة مثل الماركسية والفاشية والرأسمالية وهي أيديولوجيات سياسية حديثة مهتمة أساسا بالأوضاع السياسية والاقتصادية للمجتمع. ويبقى السؤال كيف يمكن إقامة المجتمع الإسلامي? هناك فوارق في الاجتهادات بين المعتدلين والجذريين خلال تاريخ الحركات الإسلامية, كلهم متفقون على أهمية الوصول إلى السلطة ولكن المعتدلين متحمسون لأسلمة المجتمع من أسفل إلى أعلى كالدعوة وإنشاء المؤسسات والحركات المدنية في الوقت الذي يتم فيه الضغط على القيادات الحاكمة من خلال التحالفات السياسية, وكذلك الاهتمام بالشريعة في إصدار القوانين. هذه كانت الملامح الأساسية لسياسة المؤسس حسن البنا فهو لم يقبل بالثورة إلا في حالة إقدام الدولة على القيام بخطوات لاإسلامية, أما الجذريون, فإن التغيير يبدأ عندهم من القطيعة مع المجتمعات التي لاتحمل من الإسلام إلا اسمه ـ كما يعتقدون ـ ويقومون ببناء مفاهيمهم الخاصة. فقد بنى سيد قطب تحليله على مفهومين (الجاهلية) و(التكفير) ,وأضافت الثورة الإيرانية مفهوما ثالثا هو (الطاغوت). لذلك فمن رأي هذه المدرسة أن الجهاد ضد الحكومات هو جهاد مقبول ومبرر. ويبقى الأمر رهن التفسير.

البعد الاجتماعي

بعد أن يلقي الكاتب الضوء على القالب المفاهيمي يسعى لتوضيح الجانب السوسيولجي أو الاجتماعي لهذه الحركات, فهو يقرر هنا أنه منذ ستينيات هذا القرن فإن التزايد السكاني وهجرة أهل الريف إلى المدينة في معظم دول الشرق الأوسط المسلمة, قد ضخم من هذه المدن في الوقت التي فشلت فيه الدولة في الحفاظ على حد أدنى من تقديم الخدمات العامة, أو محاولة تحضير هذه الجماعات ورفع مستواها المعيشي. تزامن ذلك مع إتاحة فرص التعليم المفتوح والمجاني لكل الفئات الاجتماعية مع الضغط في تخفيض النفقات الأمر الذي قلص من المتاح في الوظائف العامة, كل ذلك زاد من عدد المتعلمين الذين أجبروا على التراجع والتردي إلى الطبقات الأدنى اجتماعيا. كما أن تدهور الأوضاع في الجامعات قلص من فتح أذهانهم على التفكير النقدي والنسبي فوقعوا بسرعة تحت تأثير الجماعات النشطة المختلفة, وكلها تعبر عن الاحتجاج في وجه السلطة القائمة.النظام التعليمي في الغالب كان يتبع النمط الغربي وهو النمط التدويني, وقد مر هذا النمط من التعليم بفترة ازدهار بين الخمسينيات والثمانينيات من القرن يتبعها توقف وتراجع, إذا أخذنا مصر على سبيل المثال ففي عقد الستينيات فقط تضاعف عدد الطلاب بينما لم يتجاوز معدل التزايد السكاني أكثر من 2.8% في السنة, ويوجد في مصر الآن طبيب لكل 770 شخصا. ينطبق عليه ما ينطبق على بقية موظفي الدولة ذوي المرتبات المتدنية, كذلك فإن البلاد تخرج مهندسين أكثر مما تحتاج, ومازالت الأمية مرتفعة في إيران, وقت الثورة سنة 1979 كان 65% من السكان الذين يعيشون في المدن, كانوا يعانون من الأمية, وتصل هذه النسبة إلى 83% للرجال بين الخامسة عشرة والثلاثين من العمر, هؤلاء كانوا المشاركين الرئيسيين في الثورة, ومازالت هذه النسبة مرتفعة, فبرغم مرور عشر سنوات على الثورة أي في سنة 1988 فإن 54% من السكان في إيران أميون.في الوقت نفسه, فإن هذه الشهادات العليا التي حصل عليها هؤلاء المتعلمون بشق الأنفس لم تساعدهم على سد حاجتهم, فالدولة غير قادرة على استيعاب الخريجين الجدد بالرغم من سياسة (حق التوظيف) الذي أخذته العديد من الدول على عاتقها من مصر إلى أفغانستان قبل 1971, فقد كانت الدولة بشكل تلقائي تقدم فرص العمل للخريجين, ولكن هذه السياسة كان لها وجه آخر فقد أصبحت الدولة هي الملاذ الوحيد للخريج, في الوقت نفسه فإن الضغوط الدولية لتحرير الاقتصادات الوطنية من خلال توصيات صندوق النقد الدولي, أو سياسة الانفتاح ـ كما سميت شعبيا ـ التي بدأت أيضا في مصر سنة 1971 وسياسات الرئيس الاسبق الشاذلي بن جديد في الجزائر أدت إلى تراجع وضع المتعلمين في الجهاز البيروقراطي. تحرير الاقتصاد كان أساسا لصالح القطاع الخاص الضامر أصلا, وتآكلت المرتبات بسبب التضخم المالي, وأصبح على العاملين في الدولة أن يعملوا عملا إضافيا للإبقاء على مستوى معقول من الدخل, والكثيرون لم تكن تتوافر لهم هذه الوظيفة الثانية, لذلك تحول قطاع الأعمال المهنية ليكون أكثر أهمية من قطاع المثقفين والمتعلمين.

معظم العناصر المشاركة في الأحزاب الإسلامية من هؤلاء الشباب المتعلمين المحبطين, معظمهم تعلم في مدارس الدولة وفق مناهج غربية, ومعظمهم أيضا انحدر من صلب عائلات هاجرت من الريف إلى المدينة وعاشت في أحيائها الهامشية, وقد استطاع دعاة الحركات السياسية تعبئة وتجنيد أفراد من التخصصات العملية أكثر من التخصصات النظرية والأدبية عدا استثناء وحيد وهم طلبة كليات المعلمين, الشكل النموذجي لعضو الجماعات الإسلامية هو أن يكون مهندسا أو طبيبا ولد في وقت ما في الخمسينيات في المدينة, ولكن عائلته من الريف, بعض النخبة أكملوا دراستهم في الغرب. الولايات المتحدة على وجه الخصوص. مجلس الوزراء الإيراني مثال بارز لهذه الخلفية الاجتماعية فعدد منهم ـ كما يلاحظه الكاتب ويعرض بالأسماء ـ مهندسون وأطباء تعلموا في الولايات المتحدة, أربكان زعيم حزب الرفاه التركي خريج معهد ماستتوزت التقني في بوسطن, عبدالسلام الياسين زعيم الإسلاميين في المغرب مفتش اللغة الفرنسية في وزارة التعليم المغربية.

من ذلك فإن العودة إلى الإسلام السياسي ليست هي بأي حال من الأحوال العودة إلى العصور الوسطى,وليست رجال دين متحمسين يناضلون ضد الحداثة. الرفض الإسلامي اليومي هو رفض حضري شب من أواسط المدن في غزة والجزائر وجنوب لبنان وأحياء القاهرة العشوائىة. حالة الثورة المسلحة الوحيدة التي نشأت في الريف كانت فقط في أفغانستان, وذلك لأنها نشأت أساسا من أجل مقاومة الوجود الأجنبي, ولكن كوادرها الرئيسية جاءت من المدن, وهم أيضا يماثلون غيرهم من الإسلاميين فحكمت يار طالب سابق في مدرسة الهندسة, وأحمد شاه مسعود طالب سابق في الكلية الفنية التقنية, وفي الجزائر عبد القادر الحشاني المتحدث باسم الإنقاذ كان مهندسا للبترول. كل الدراسات للخلفية الاجتماعية للقيادات والمبرزين في حركات الإسلام السياسي المعاصرة توصل إلى نفس النتيجة, فهم يستقطبون من المتعلمين من أهل المدن, وهي جماعات حديثة بالمعنى الاجتماعي خرجوا من القطاع الحديث للمجتمع.

بدءا من السبعينيات أضيف جيل جديد من الإسلاميين بدأ في الظهور من خلال حوادث الإرهاب المتفرقة. جيل أقل تعليما من سابقه يضم أعدادا من الطلاب أضعف سوية في التعليم بشكل عام, ينبذون اللغة الأجنبية كالإنجليزية أو الفرنسية (التي هي لغة الاستعمار) لصالح اللغة القومية, والتي هي في بعض الأماكن ليست اللغة المحكية, لذلك يصعب فهمها ـ كاللغة العربية في الجزائر التي تختلف عن اللغة المحكية, وبالتالي يصعب فهمها للعامة ـ كل ذلك أنتج ما سماه الكاتب كتلة (المتعلمين الخُرق) أو الرثين, ويصفهم بأنهم قد قضوا وقتا في المدارس ليصفوا أنفسهم (بالمتعلمين) ولا يريدون العودة إلى الريف أو العمل في المصانع (إن كان ذلك متوافرا). ويعود ظهور هذه المجموعات بدرجة كبيرة إلى انهيار التعليم الجامعي. فقد تراجع تخصيص المال للدراسات الجامعية فأخذت المدارس الثانوية تقذف بعشرات الألوف من متوسطي التعليم في دول الكثافة السكانية دون أي نوع من التعليم الحقيقي, ودون إتاحة لأي فرصة عمل. وفي الثمانينيات بدأت الحركات الإسلامية السياسية تستقطب عددا أكبر من هؤلاء الطلاب حتى أصبحوا يمثلون لحمتها الأساسية, خاصة البعيدة عن الاعتدال.بدت هذه الملاحظة بشكل أوضح في باكستان والجزائر, فقد صعد هذا الجيل الذي أطلق عليه الكاتب (الأصوليون الجدد) وهم جذريون (راديكاليون) أكثر من الذين سبقوهم في صفوف الإسلام السياسي. لذلك فقد تقدمت حركة الإسلاميين السياسية بداية في الجامعات ثم لدى الجماهير. الانتخابات في الحرم الجامعي أظهرت تقدمهم الدائم في المراكز القيادية الطلابية في كل من باكستان ومصر وأفغانستان ثم تبعتها بعد ذلك دول شمال إفريقيا العربية. ولعل أسباب هذا التقدم ـ كما يرى المؤلف ـ أن قوى الاحتجاج الأخرى فاقدة لقدرتها على الاستقطاب سواء كانوا علمانيين أو قوميين أو ماركسيين, القوميون العرب استوعبوا من قبل بيروقراطية الدولة من الجزائر إلى مصر إلى العراق. منظمة التحرير الفلسطينية دخلت في متاهات المفاوضات الدولية الغامضة دون نتيجة فعلية تغير من حال السكان المحليين. الحركات اليسارية لم تكن قادرة على الخروج من شرنقتها, ومن المفارقات أن الحركات اليسارية كان لها قاعدة في الريف أكثر من المدن.

يقدم المؤلف سببا آخر هو الأزمة الأيديولوجية, فقد خسرت الأفكار التقدمية اليسارية موقعها, كما فشلت (الاشتراكية العربية) وقد تركت مجالا لقوى جديدة تستقطب الناخبين الذين يبحثون عن أصول لهويتهم, ليس للعودة إلى الماضي, ولكن للتكيف مع الحداثة, لهذا السبب فإن الحركات الإسلامية السياسية تفضل التطور الصناعي, المدنية والتحضر, الابتعاد عن القبلية وتعلم العلوم, ما يلوحون به للمستضعفين هو حلم للدخول في عالم النمو والاستهلاك الذي يشعرون أنهم مستثنون منه, فالإسلاميون يقدمون الشريعة والكهرباء معا كما يقول المؤلف.

الدولة والأمة

ولكن الحلم شيء والواقع شيء آخر, فالحركات الإسلامية لا تقدم إلا نموذجا للدولة أقل ما يقال عنه إنه غير متسق ومتضارب منذ الكتابات الأولى لحسن البنا وسيد قطب ومصطفى السباعي وعلي شريعتي وروح الله الخميني و باقر الصدر ومرتضى مطهري, وفي الحديث عن الأمة ليس هناك أكثر من كراسات وشروح معقدة لمؤلفين مثقلين بالتفسيرات القانونية, ثم بعد ذلك هناك تضارب في المفاهيم.فبالنسبة للإسلاميين لا يتحقق وجود المجتمع الإسلامي إلا بالعمل السياسي, ولكن عمل المؤسسات السياسية لا يحصل على نتيجة إلا من خلال طهارة القائمين على إدارتها, الطهارة التي يمكن أن تنتشر إذا كان المجتمع إسلاميا قبل ذلك, إنها حلقة مفرغة, ولكن لا الثورة الإسلامية في طهران التي وإن قدمت دستورا أكثر قربا من الديمقراطية الحديثة, إلا أنها ولجت في أزمة اقتصادية شديدة وشجار بين الأجنحة المختلفة لها, ولا في المناطق المحررة في أفغانستان التي مزقت في حروب وصراعات عرقية وجهوية على السلطة والقوة, تقدم النموذج لما يجب أن يكون عليه المجتمع الإسلامي.

وكذلك الحال بالنسبة لجبهة الإنقاذ في الجزائر. إن كل السوابق التي تقدمتها لم تقدم الحلول ولن تجد أمامها أكثر من هذا المصير ولو وصلت إلى السلطة. الجماعات السياسية الإسلامية غير واضحة في مفاهيمها للمؤسسات السياسية, وذلك نتيجة للضعف الشديد في التفكير النظري بشكل مؤسسي مقارنة بما تعطيه هذه الحركات من أولية للعمل السياسي. ففي الوقت الذي تتفق فيه هذه الحركات على أن السلطة السياسية هي أمر لابد منه لإنشاء المجتمع الإسلامي, فإن الإصلاحات لا يمكن أن تكون مقصورة فقط على الشكل المظهري مثل الإمارة على المجموعات المختلفة. ليس الشعب ولاالبرلمان ولا الحاكم هو مصدر التقنين في المجتمع, بالنسبة للإسلاميين فإن النقاش حول الدستورية سريعا ما يتحول إلى نقاش تقرير الطهارة والقدرات الشخصية لأولئك المؤهلين للقيام بالمهمات القيادية المختلفة, بجانب قليل من الشروط الموضوعية تنصب في معظمها حول الذات, حيث تعتمد على الطهارة والإيمان والعلم, ولا يوجد هناك تفكير واضح المعالم حول المؤسسات السياسية, فالتفكير المؤسسي الديمقراطي مازال عصيا على كتابات الإسلاميين, ولا يوجد تحديث سياسي خارج المثال الأوربي في تفكير المجموعات الأكثر انفتاحا, فمفاهيم مثل أهل الحل والعقد ومفاهيم أخرى تعتمد على المعيار الأخلاقي النسبي وليس المؤسسي, تتمسك بها جماعات أخرى دون تفسير, وهناك مثالية لدى البعض تذهب إلى القول إن المجتمع الطاهر لا يحتاج إلى سياسة وسياسيين أو مؤسسات سياسية فكل فرد فيه يعرف واجباته.

هذا النقص الشديد في أدبيات الإسلام السياسي القائم تجاه المؤسسات السياسية المفترضة قد عرض هذه الأدبيات للنقد الشديد من هذا المنظور. كما أن عجز الممارسة النسبية أو المطلقة, كما هي في إيران أو أفغانستان والسودان يجعل السؤال قائما. ما هي مؤسسات الدولة وهل هي قطرية (وطنية) أم عالمية?

يخلص المؤلف إلى أن الشكل الاحتجاجي الذي تأخذه حركات الإسلام السياسي المعاصر هو نفس الشكل الاحتجاجي الذي أخذته الحركات الغاضبة واليسارية, ويقارن المؤلف بين تنظيمات جماعات الإسلام السياسي والتنظيمات السياسية الثورية, فأمير الجماعة يماثل السكرتير العام, والشورى بدلا من اللجنة المركزية, والعودة إلى الإسلام تعني تطهير هذه المجتمعات من رداءة الغرب التي أغرقها بقيمه.

والإسلاميون يستخدمون التقنية الحديثة في الاتصال وفي السلاح, كما يستخدمون أدوات علم النفس الحديث في حشد الجماهير, وآليات الإعلام في الإقناع.رفعهم لشعار تطبيق الشريعة, كما أنه قديم فهو أيضا جديد لأن هذا الشعار لم يطبق في السابق خاصة في الصورة التي يفسرونه بها في أدبياتهم, وهو شعار ضد الفساد وضد التأثيرات الأجنبية, وكذلك ضد الانتهازية السياسية والتفسخ الأخلاقي.

يرى الكاتب أن الجماهير التي تظاهرت في الخمسينيات تحت العلم الأحمر هي نفس الجماهير التي تظاهرت بعد ذلك تحت الراية القومية وتقريبا نفسها الغاضبة اليوم تحت العلم الأخضر, لأن هذه الجماهير لم تحصل على ما تطالب به مع الماركسيين ولا مع القوميين, فقد انفردوا بالسلطة أو أنها أفسدتهم, وفي السبعينيات حدث الطلاق لذلك أصبح شعار (الحكومة الإسلامية) هو قضية الجماهير في العالم الإسلامي, إلا أن الأزمات مازالت هي الأزمات الاقتصادية والثقافية والسياسية لم تتغير.

الإسلاميون وحرب الخليج

يلجأ الكاتب إلى ضرب مثل على التناقض المصاحب للموقف السياسي لدى حركات الإسلام السياسي المعاصرة وهو موقفهم من احتلال الكويت.

ففي خريف 1990 تحولت معظم تيارات الإسلام السياسي في الشرق الأوسط لمساندة عدوان النظام العراقي على الكويت, وكانت الحجة التي ساقوها هي مقاومة التدخل (الإمبريالي) الخارجي. تعللت بذلك الحركة السودانية تحت قيادة الترابي والحركة التونسية تحت قيادة الغنوشي, وأعضاء البرلمان الأردني من الإخوان, وحركة الجهاد تحت قيادة أسعد التميمي, وفي مصر عمر عبد الرحمن ,كذلك فعلت حركة الجهاد الإسلامي, أما حركة الإخوان المسلمين بقيادة مأمون الهضيبي, وقيادة الإخوان المصرية وقيادة حركة الإنقاذ الجزائرية بقيادة عباس مدني فقد حاولت في البداية الموازنة قبل أن تختار نهائيا الانضمام إلى صدام حسين, وتبريراتهم أن ذلك جاء نتيجة الضغوط الشعبية, فيما قامت حركة حماس التي كانت معارضة لموقف منظمة التحرير ـ كما يقول الكاتب ـ باختيار موقف آخر, جزء من الإخوان المسلمين السوريين جناح سعد الدين ناصر صدام حسين, حركة الطلاب المسلمين التابعة للإخوان في الولايات المتحدة اتخذت نفس الموقف, أما مجموعات الجهاد الإسلامي في أفغانستان فقد وقفت ضد صدام حسين ـ حكمت يار وسياف ورباني ـ وكان طبيعيا أن يخرج الإخوان المسلمون في الكويت في مواجهة هذا الموقف شبه الشامل والمضاد لبلادهم وحريتها, فأعلنوا انفصالهم عن الحركة العالمية للإخوان وتبعهم في هذا الموقف أيضا بقية حركات الإخوان المسلمين في كل دول الخليج. معظم قيادات الإسلام السياسي ناصرت العدوان وعقدت مؤتمرا إسلاميا حاشدا في بغداد في الحادي عشر من يناير 1991 كان من بين الحاضرين فيه وزير الشئون الدينية الأردني إبراهيم الكيلاني كعضو جديد في حركة الإخوان, ونائب رئيس الإنقاذ الجزائرية بن عزوز زبده وغيرهما, على أثر ذلك قامت الدول التي سمحت جزئيا للنشاطات الإسلامية بتهميش نشاطها.

ويتساءل المؤلف كيف لمثل هذه الحركات السياسية الإسلامية أن تلجأ لمناصرة نظام مثل نظام بغداد ـ فقط لأن لها موقفا ضد الغرب ـ في الوقت نفسه تبحث عن مظلة إيرانية هي عدوة لذلك النظام. وقد احتضنت إيران أكثر من مؤتمر شاركت فيه معظم قيادات الإسلام السياسي وكذلك حركات اليسار برغم اختلافهما الأيديولوجي كان أولها في 19 أكتوبر 1991.

ويتساءل المؤلف بعد ذلك: هل هذه الحركات السياسية هي على شاكلة الحركات السياسية للعالم الثالث, هل هي حركات احتجاجية تريد تغيير الشيء القائم إلى شيء آخر ليس بالضرورة معروفا أو محددا وواضحا أم أنها ذات رسالة لخلق مجتمع جديد? إن كانت الأولى فإنها لا تخرج عن مجمل الحركات السياسية في العالم الثالث, أما في الثانية فإن التساؤل هو: ما شكل المجتمع ومؤسساته السياسية والاقتصادية المزمع إنشاؤها?

كتاب يجب أن يقرأ

لعلي قد نجحت في تلخيص أهم الأفكار التي طرحها هذا الكتاب المهم في موضوعه, وسواء اتفقنا مع بعض أو كل ما طرح الكاتب أو اختلفنا معه فهو كتاب يستحق أن يقرأ لأن الكاتب ببساطة ألم بكل ما نشرته هذه الحركات الإسلامية السياسية ناظرا لها من منظور نقدي ليس بالضرورة معاديا, ولكنه متعاطف بحيث يتفهم مطالبها وينقد قصور مؤسساتها, ورسالته الواضحة هي أن هناك فشلا هيكليا في تفكير هذه الحركات في وضع تصور سياسي للدولة الحديثة, وأن عدم الالتفات لهذا الأمر ليس ضعفا في التنظير بقدر ما هو التفات إلى أولويات أخرى كالعدل واحترام النقاء الأخلاقي.

 

محمد الرميحي

 
  




غلاف الكتاب