القيادة أخطر مراحل الإدارة والحكم
القيادة أخطر مراحل الإدارة والحكم
تصادف أن كنت أشاهد إحدى قنوات الإرسال العالمية, وأتيح لي أن أشهد ندوة غاية في الروعة والإمتاع, تضم ثلاثة ومعهم مترجم, كانوا: جورج بوش, ومارجريت تاتشر, وميخائيل جورباتشوف. هذا مع حفظ الألقاب ودون ترتيب. كان موضوع الحديث هو العالم, نفس العالم الذي لعب كل منهم دورا أساسيا في جعله يبدو كما هو الآن. معروف عن السيدة الحديدية ـ كما أسموها ـ أنها تتصف بالحدة, أمر طبيعي من الوجهة الاشتقاقية على الأقل. وقد سمعناها منذ فترة تعلق على احتفال الفرنسيين بعيدهم القومي, 14 يوليو, وهو ذكرى سقوط الباستيل, بقولها إن أمرهم يحيرها, كيف يحتفلون بذكرى عمل بهذه الدرجة من الدموية والوحشية ؟ وهو ما يتفق مع كتابات المؤرخين والأدباء الإنجليز عن تلك الحقبة طبعا, من تشارلز ديكنز في (قصة مدينتين) إلى البارونة أوركزي ومغامرات (الزهرة القرمزية) في إنقاذ أسر النبلاء الفرنسيين من المقصلة الشهيرة, ومن هؤلاء أسلاف الكاتبة الإنجليزية الفرنسية الأصل (دافني دي مورييه). كل هذا يعجب يمينية صرفة مثل تاتشر طبعا. ومما تكشف أخيرا أن الفرنسيين كانوا أصحاب الفضل في انتصارها على غزاة جزر فوكلاند! وقد رأيت صورة لها وهي تصافح الرئيس الراحل فرانسوا ميتران, عند مدخل قصر الإليزيه, وهي نصف منحنية و(عيناها في عينيه, وقدماها في قدميه) ضارعة له أن يمدها بأسرار الصاروخ الفرنسي (إكسوسيت), الذي تتسلح به الأرجنتين والذي استخدمه أسطولها في إغراق فرقاطة بريطانية. صحيح أن بريطانيا أقوى من الأرجنتين ولكنهم كانوا يحاربون بـ (تجريدة ( دارت حول كوكب الأرض وقطعت آلاف الأميال لتواجه عدوا في قواعده الرئيسية, ولو خذلها ميتران لكان حزب المحافظين بأكمله قد عانى نكسة حقيقية ولكانت هي أول ضحية لها, فالإنجليز لا يتمتعون بهذه القدرة الهائلة على تأليه قادتهم والتي ننعم بها نحن. أما(جوربي), كما أسموه, فقد كانت تربطه بتاتشر صداقة وطيدة, هذا بقدر ما يمكن لهؤلاء أن يمارسوا عواطفنا, نحن (الناس). وكانت هي تستمتع جدا بزيارتها له وحفاوته الفائقة التي كانت مادة خصبة للفكاهة الصحفية. وقد أقام لها مرة حفل إفطار في حديقة مكسيم جوركي في موسكو, لم يسموه إفطار عمل, كالمعتاد, بل (إفطار فودكا) (تصور أن يصحو الإنسان من نومه في الصباح ليكوي أحشاءه بهذا السبرتو الأبيض, وإن كان هذا يذكرنا بالغبوق والصبوح عند عمرو بن كلثوم وأضرابه من الجاهليين والعباسيين)، اتجه الحديث في الندوة التلفزيونية نحو الموارد الطبيعية للمجتمعات, ولابد أن رومانسية الإفطار في حديقة جوركي لم تكن ماثلة في ذهن سيدة الحديد وهي تصوب لسانها السليط نحو داعية (البريسترويكا), و(الجلاسنوست), وتقول له ما مؤداه (فللأمانة, أنا لا أذكر حرفية هذه المقولة, إذ كنت مشاهدا لا قارئا): (لو كانت الرفاهية تأتي من الموارد الطبيعية أو كانت تصلح مقياسا لها لكانت روسيا أكثر بلدان الدنيا ترفا). لم يعلق جورباتشوف على ذلك, وكانت الندوة قد قاربت نهايتها, وكان يبدو طيلة الوقت كاسف البال, وكيف لا بعد أن وصل إلى القمة بشعاري (إعادة البناء), و(المكاشفة)إذا به يسقط على أم رأسه؟ وإن كانت الندوة قد طرحت العديد من السئلة مثل: لماذا تفلس المجتمعات وتعاني شعوبها وهدة الفقر وهي غنية بالنفط, تجيش به الأرض تحت أقدام شعوبها, وبالماء تضطرم بها أنهارها, وتربتها خصبة وشعبها متعلم ومكافح وأبناؤها أصحاء أشداء. ولماذا تفلس الشركات أو تغرق في الديون ومواردها مكتملة ومخازنها تفيض بالمستلزمات? هل هم القادة? أم المقودون؟ القيادة: علم?أم سحر? يقول مؤسس علم الاجتماع, الشيخ الجليل عبدالرحمن بن خلدون: القيادة إذن هي قدر الإنسان, والذي لايريد أن يقود أو ينقاد لابد أن ينهج نهج طرزان, يعيش بمفرده في الغابة, وهذا ليس سلوكا إنسانيا. وإذا كانت الإدارة هي (تنسيق استخدام الموارد من أجل تحقيق أهداف المؤسسة) وإذا كانت الموارد مادية وبشرية, فالقيادة, وهي ثالث مراحل الإدارة في مفهومها التقليدي: التخطيط, والتنظيم, والقيادة, والتحكم, القيادة إذن أكثر تعلقا بالبشر من غيرها من هذه المراحل, فالقائد ـ كقائد الكتيبة العسكرية أو الأوركسترا يكلف بمهمته وهي أن يدير المفتاح وينطلق. ومهما بلغ التخطيط والتنظيم فالقائد قد يكون ناجحا في تحقيق الهدف وقد يضل طريقه تماما. في جميع الحالات هو يقود البشر أساسا. من هنا كانت علوم الإدارة في بداية ظهورها إلى الوجود في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ـ منصبة على الموارد المادية في غالبيتها, فريدريك تايلور (معدلات العمل والقواعد العلمية في تنظيم الوظائف وشغلها) هنري فايول, (تقسيم العمل والمهارات التخصصية وهرمية التنظيم), ثم استتبت الأمور قليلا من حيث الجوانب المادية أو ربما (الملموسة) في الإدارة وآن أوان العناية بالبشر عند وضع المؤلفات وإجراء البحوث, وصاحب هذا نشوء علم النفس الصناعي وتطورات علمية أخرى عديدة. كما أن علوم الإدارة من نوع (مراقبة المخزون), أو (التحليل المالي) أو (جدولة الصيانة) مع احتوائها للعنصر البشري بدرجة أو أخرى, لا تستعصي على التجربة العملية أو (المعملية), بعكس الجانب الآخر من الموضوع. وقد كان للمرحوم الدكتور محمد كامل حسين, المفكر والرائد العالمي في جراحة العظام, مقالة بعنوان: (علمان ضالان, الكيمياء القديمة وعلم النفس الحديث), يقول فيها إن الكيمياء القديمة ضلت طريقها لأنها لم تجد ما تستند إليه من وسائل التجريب التي هي أساسية لكل علم من علوم المادة, ولذا فقد غرق علماؤها في البحث عن وسيلة لتحويل المعادن إلى ذهب, مما جعل كلمة (الكيمياء) العربية تدخل قواميس اللغات العالمية بهذا المفهوم. وكذلك علم النفس الحديث, المفروض أنه علم تجريبي, لأن العلم لا يكون إلا تجريبيا وإلا أصبح فلسفة, ومن هنا فأغلبه (فراسة). وحتى أواسط القرن العشرين كانت المؤلفات في علوم الإدارة وفروعها يمكن أن ترص كلها على رف متوسط الحجم. أما الآن فإن السلاسل والدوريات التي تقدم للمدير (المشغول) خلاصة ما يصدر منها لم تعد تلاحق سيول المؤلفات, والقدر الأكبر منها يتناول قيادة البشر. وفي كتابه "فن الإدارة" (1591، منتصف القرن تماما) يقول أوردواي تيد: (القيادة هي ممارسة التأثير في الناس بحيث يتعاونون في سبيل تحقيق هدف يتوصلون إلى إدراك أنه مرغوب فيه), وقد كان تيد هو أول من دعا إلى إدراك المسئولية الاجتماعية لمؤسسات العمل, وإلى تطبيق الديمقراطية داخل الشركات, وقد حظيت * علوم القيادة* بجهود كبيرة من عقول وكفاءات كرست نفسها للصناعة والأعمال. إبراهام مازلو: هايرارقية الحاجات المادية والمعنوية عند بني الإنسان وأثرها في قيادتهم ـ فريديريك هيرتزبرج: خلق الدوافع عند العاملين وإخصاب الوظائف, ـ دوجلاس ماكريجور, صاحب النظرية س والنظرية ص: هل البشر بطبيعتهم كارهون للعمل ولابد من قسرهم? أم أن العمل متعة كالرياضة والقادة ـ كأغلبية الآباء والأمهات ـ يفسدون المواهب ويضيعون المقدرات بممارساتهم الخاطئة? ثم السؤال الذي هو أكثر أهمية: من أين تأتي أحقية القائد في القيادة في المؤسسات, ثم ـ بصورة أشمل ـ في المجتمع ككل ? في المؤسسة, يهمنا أن نرى ما لدى ماكس فيبر, الذي سبق من ذكرناهم (4681 ـ 0291), وهو ألماني المولد والنزعة, وكان عالما في الاجتماع والاقتصاد السياسي, ويرى أنه لكي يحقق التحكم الجبري نجاحا لابد من وجود درجة ما من (الاستعداد للانقياد) وهو ما يشابه نظرية التقبل عند خلفه تشستر بارنارد (6881 ـ 1691), وهو لا يفرق بين السلطة والقوة أو السطوة, ويرى أن السلطة الشرعية لها ثلاثة أنماط, فهي عقلانية قانونية (كرؤساء المؤسسات والجنرالات), والأمثلة على الدكتاتورية في الشركات لاحصر لها, ثم السلطة التقليدية, والتي تقوم على تقديس العادات المتبعة (ملوك أوربا في القرن الماضي, والبابوات) ثم السلطة الكاريزمية, وهذه تختلف في كونها شخصية, وتشبه السحر, ويرى فيبر أنها تأتي إلى الوجود بسبب فشل الصور الأخرى من السلطة. أما رنسيس ليكرت (6091 ـ 4691) فيصنف القيادة في المؤسسات إلى: (1) التسلط المستغل, يعتمد على التخويف (2) التسلط الخير ويشبه علاقة الأب بالابن (3) السلطة المستشيرة حيث القادة يتحكمون ولكنهم يستمعون لرأي أتباعهم قبل اتخاذ القرار, ثم (4) الإدارة التشاركية, وتقوم على ثقة الرؤساء وإشراكهم لأتباعهم في عملية اتخاذ القرار. وهذا هو الاتجاه السائد في هذه الأيام, لا من حيث سلامته أخلاقيا واجتماعيا بل من حيث فاعليته وقدرته على تحقيق أفضل نتائج لأنه يتيح قدرا أعظم من العقول والمواهب. ومن أشهر دعاته الحاليين وارين بينيس الذي عمل مستشارا لعدد من الرؤساء الأمريكيين وأصدر منذ سنة كتابا عنوانه: (اختراع القيادة من جديد) وسبق أن أصدر (المجتمع المؤقت), و(المهندس الاجتماعي), و(أن يصبح المرء قائدا) ـ أما تشستر بارنارد, وهو رجل أعمال وفيلسوف, فيرى أنه لا السلطة ولا النفوذ يتمثل في المركز الذي يشغله القائد وإنما في استعداد من يقودهم لأن يتبعوه, ويقسم السلطة (والسطوة) إلى: حافزة, وقسرية, وشرعية, وانتسابية (وتأتي من الانتساب لمن لديه السطوة, كالحاشية) ثم مهارية, وهي التي يكتسبها القائد من كونه ممتلكا لمقدرات فريدة أو نادرة. مؤسسة الأعمال: منذ سنوات طلع إدجار شاين, فيلسوف في الإدارة وعالم نفساني وتلميذ ماكريجور, طلع على العالم بتعبير (CORPORATE CULTURE) البعض يترجمونها إلى (ثقافة الشركة), وأنا أفضل (حضارة الشركة), فالتعبير بالإنجليزية يؤدي المعنيين في الواقع ولكن مفهوم الحضارة يشمل الثقافة وجوانب أخرى كثيرة يقصدها شاين وغيره من استخدام التعبير, كما أن الثقافة صفة في الفرد والجماعة ولكن ليس هناك مؤسسة مثقفة وأخرى ليست كذلك. المقصود هنا هو مجموع الممارسات والتقاليد والأعراف المتبعة في الشركة, والتي تحكم العلاقات بين (حكومتها), و(شعبها), ونحن هنا نستخدم التعبيرين مجازا بالطبع, وإذا أخذنا مثالا اجتماعيا فإنه يمكننا أن نقول (حضارة قبلية مثلا) ولكن ليس ثقافة قبلية, وإذا قلنا هذه فسيكون مقصودنا مختلفا. مؤسسة الأعمال إذن مجتمع صغير فيه كل مكونات المجتمع الكبير والنظائر واضحة تصادف أن أتيح لي في يوليو 1994 أن أزور واحدة من (نمور آسيا) هي سنغافورة, كنت قد سمعت عنها كثيرا ولكن إعجابي بهذا الأنموذج في (إدارة المجتمع كما تدار المؤسسة), فاق ما كنت أتوقع. وتصادف أيضا أن هذا تزامن مع (رحيل) الزعيم العظيم كيم إيل سونغ, وأذكر لحظة وقفت في غرفتي بالفندق أطل على طرقات هذه اللؤلؤة وأرى على شاشة التلفزيون فرقة من جنرالات كوريا الشمالية يجلسون في غرفة تشبه غرف الحجز في أقسام الشرطة, مصطفين على أرائك خشبية متوازية, يولولون كالثكالى, يصرخون في لوعة تمزق القلوب, لا حزنا على الزعيم العظيم, بل على البشرية, لا أظن أحدا منهم يعيش الآن بعد فضيحة غواصة التجسس. قلت لنفسي يبدو أن صيحة أبي القاسم الشابي نفذت من باطن الأرض إلى سطحها في شرق آسيا, وفهموها بشكل ما! وتتمثل في تاريخ المؤسسات أنظمة الحكم التي تشيع الآن في المجتمعات: الحقيقة العلمية: هل هناك من ينكر أن مرور تيار كهربائي في ملف معدني يحدث حوله مجالا مغناطيسيا? من هذا المنطلق, يقول فريدريك أنجلز, وكأنه مايكل فاراداي: نعم, عقل الإنسان هو نفسه مادة, هي المخ, وأشعار بوشكين ليست سوى تفاعلات كيميائية في خلايا مخه تحدث تفاعلات مماثلة في أمخاخ القراء. قد تقدمت الفيزياء في القرن العشرين وغاض العلماء في أعماق الذرة وأعماق الفضاء وجاءت النسبية والكوانتم لتثبت لنا أن مكونات العالم المادي: المادة والفضاء والزمن.. ليست مادته, وأننا حتى الآن برغم ما يقولونه من أن جميع حقائق الكون قابلة للمعرفة, لا نعرف بالضبط ما هو الضوء أو المجال المغناطيسي. نحن نستخدم هذه الأشياء لصالحنا, أما (كنهها) فلا يزيده البحث إلا غموضا, وقد بدأت بحوث المادة تتقدم بسرعة في الوقت الذي رسخ فيه النظام الشمولي في روسيا ومعه عقائد المادية والحتمية التي كانت جذورها تمتد إلى أيام لابلاس, القائل بحتمية كل شيء حتى سلوك البشر. بل إن نظرية الكوانتم جاء بها ماركس بلانك سنة (1900) ثم جاء ألماني آخر سنة (1926), فيرنر هاينسبرج, بما يعرف بمبدأ عدم الوثوق, هذا وذاك يدلان بوضوح على أن الحتمية ليست حتمية إطلاقا, لا في دنيا البشر وحركة التاريخ, بل في عالم الذرة والفيزياء الجسيمية, وقد كان علماء الروس يبحثون طيلة الوقت في نفس الأمور: ألكسندر فريدمان سنة (1922) مرورا إلى ليفشتز وخالاتنيكوف سنة 1963 ـ عصر خروشوف ـ ولكن من الذي يجرؤ على القول بنظرية علمية تتعارض مع ما في مانفستو الحزب? كان ليسنكو يقول بوراثة الصفات المكتسبة لأن ستالين أمره بذلك, يذكرنا هذا بالفيلسوف بيركلي الذي لم يوافق على قوانين نيوتن لأنه كان يعتقد أن المادة والفضاء والزمن كلها (تهيؤات), وكان من مفكري عصره الدكتور جونسون, الذي خبط الأرض بقدمه صائحا: (وما هذا إذن?) كان يمكنه أيضا أن يخبطها برأسه دون أن ينفي هذا حقيقة أنه في الحالتين لم يخرج الأمر عن تنافر بين مجالين كهربيين! على الجانب الاجتماعي, يقول ليون تروتسكي: (عندما تسود الشيوعية, سيصبح الإنسان أعظم قوة وأكبر عقلا وأحد ذكاء, سيزداد جسمه اتساقا وصوته عذوبة, وسيجد الفرد العادي نفسه قادرا على أن يحلق في الآفاق التي صعد إليها أرسطو وجوته وماركس). لنستمع إلى سولزتسين الذي عاش هذه التجربة: (كان الواحد منا يوقن أن السجين الراقد إلى جواره قد مات عندما لا يستطيع أن يرى وجهه, لأن أسراب القمل قد انحدرت من رأسه لتغطي ملامحه تماما). إرادة الأغلبية أمتعني وأنا أقلب صفحات مجلة عالمية أن أقرأ أن قادة حركة الطالبان في أفغانستان دخلوا العاصمة كابول, وكان أول ما رأوا أنه يستحق منهم الاهتمام هو وأد النساء جميعا, فلا حاجة لهن بتعليم ولا تريض, وإن هذه العورة المسماة الأنثى يجب إخفاؤها وإضمارها ومنعها حتى من التنفس إذا أمكن, اللهم إلا إذا كانت ستنضم إلى حريم السلطان. وأنه لا يجوز لامرأة أن تغادر بيتها إلا بصحبة بعلها, بمن في ذلك من بعلها مشلول غير قادر على الحركة (وهذا واحد من أمثلة عديدة أوردتها المجلة) أو من تجري على معاش صغار لا عائل لهم سواها, فهي مثلا أرملة أو مطلقة. ولسنا ندري أيهما أشد فتكا بالديمقراطية وهو ما يسميه علماء السياسة Toleration of the intolerant يعني (طاقة من لايطيق), إذ يبدو أن التعددية الحزبية تحمل في طياتها بذور دمارها, وقد رأينا كيف جاءت الانتخابات الديمقراطية بالشيوعيين إلى الحكم في شيلي أيام سالفادور الليندي, برغم إيمانهم بأن التحول الاشتراكي يأتي بالثورة, ورأيناها أيضا تأتي بالطالبان أو أشباههم إلى الحكم في الجزائر, وفي كلتا الحالتين كان لابد من التدخل العسكري لإنقاذ البلد من الشيء الوحيد الذي هو أسوأ من حكم العسكريين, والذي أسوأ ما فيه أنه خليق بأن يقود لهذا أو ذاك. فالحرية معناها الحرية للجميع. بمن في ذلك أعداء الحرية! ولذلك فإن دساتير بعض دول العالم الثالث ـ حيث يسهل التغرير بالناخبين سواء كانوا رؤساء جامعات أو راسبي ثانوية عامة ـ تمنع قيام الأحزاب على أسس دينية وتحرم الممارسة الشيوعية أيضا, وهو أمر منطقي لا يتعارض مع مبدأ حرية تكوين الأحزاب, فكيف يسمح لفرقة كرة أن تدخل الأوليمبياد مثلا بينما شعارها المعلن هو هدم قواعد اللعبة? وليس هذا هو العيب الوحيد فيما يجب أن نسميه الديمقراطية الغربية فقد فقدت هذه الكلمة معناها ومعها ذلك التعبير الظريف (الاشتراكية) ففي وقت واحد كانت ألمانيا الشرقية هي ألمانيا الديمقراطية, وكان الحزب الحاكم في كل من ألمانيا الشرقية والغربية هو الحزب الاشتراكي (أيام برانت وشميث) وعندما طحنت الدبابات أجسام الشباب في ميدان السلام السماوي في بكين, كان ذلك عقابا لهم على المطالبة بالديمقراطية في (جمهورية الصين الديمقراطية). نقول ليس هذا هو عيبها الوحيد, فهناك المساواة ـ أو عدم المساواة, كما في المثال السابق ذكره ـ في الحقوق الانتخابية, وكيف يتساوى رئىس جامعة, رجلا كان أم امرأة ـ مع طالب (بني خيبان)? كل هذه خواص في هذه المنظومة معروفة من قديم, وقد علق عليها بطل العالم الديمقراطي في الصراع العالمي مع النظم الفاشية, ونستون تشرشل, بقوله: أنا لا أجادل في أن الديمقراطية هي أسوأ نظام سياسي واجتماعي. ثم أخذ يتفرس في وجوه الحاضرين, وأضاف: هذا إذا استبعدنا بقية الأنظمة! ربما. فقط في رأينا المتواضع أن ضوابط عديدة يجب أن ينص عليها القانون قبل أن يتسنى لدول العالم الثالث أن تمارس أفضل السيئات, ويظل هذا واحدا من مبررات الوصول إلى السلطة وممارسة القيادة: (الشعب يريدني!) في دنيا الأعمال كان كل من جون روكفلر وهنري فورد قائدين في قمة الاستبداد بالسلطة والاستئثار بالقرار, هذا مع إقرارنا بفضل كل منهما على المجتمع الأمريكي من حيث رعاية الحريات والحث على حرية الرأي والقول وحماية الديمقراطية الأمريكية. قد بدأ هذا النمط من العباقرة الطغاة يتوارى في دنيا الأعمال مفسحا الطريق لفلاسفة الإدارة المحدثين مثل أ.ف. شوماخر (1911 ـ 1977) طوم بيترز (1935) اللذين دعيا إلى التمكين "Empowerment" وإشراك القوة العاملة في صنع القرار وتسطيح التنظيم, بمعنى إنقاص طبقات الإشراف "Flattening", وإلى عقيدة أنه إذا كان الضخم قويا, فالصغير جميل, وهو شعار مستمد من اليابان ونماذجها, ومن ذلك تفتيت الشركات العملاقة إلى إدارات أو وحدات مستقلة تزود مديريها بحرية الحركة وأيضا تسهل تحديد مواضع النجاح والفشل. هكذا تدخل الديمقراطية إلى دنيا الأعمال من أوسع أبوابها. إلا أننا مازلنا نرى أن القضية ـ سواء هنا أو هناك ـ ليست مسألة (حقوق) بقدر ماهي (كفاءة), ولاتزال (الكفاءة) بمعنى نسبة الانتفاع بالموارد, والفاعلية (نسبة تحقيق الأهداف) ثم الإنتاجية (نسبة المخروجات إلى المدخولات) لاتزال هذه هي أدوات البقاء في وجه منافسة طاغية وحامية الوطيس, والديمقراطية التي تمارس في بيئة أغلبيتها تفتقر إلى هذه العناصر ستكون طريقا إلى المعاناة ثم الفشل. إذا نحينا الأخلاق جانباً ثانية واحدة, فإن أحدا لن يستطيع أن ينكر أن أدولف هتلر رفع ألمانيا من حضيض الفوضى والإفلاس إلى قمة الكفاءة في زمانه وبنى لها آلة حربية لم يعرف لها التاريخ مثيلاً لها في القوة وخفة الحركة. وكان في سبيل ذلك يحسن اختيار القادة ويعرف كيف يكتسب ولاءهم (إلى أن وقعت الواقعة بعد ذلك طبعا وهو مالا ينفي حقائق هذه التجربة, التي تمت في أربع سنوات) وهو في ذلك كان نقيضا لحليفه الخائب موسوليني. والتاريخ مليء بمثل هذه التجارب. وقد حكم البطالمة مصر قرونا وكان عصرهم قمة في الرخاء والإبداع في العلوم والفنون مع أنهم لم يكونوا فقط مستبدين بل كانوا أجانب, ولكنهم ـ كما وصفهم إدوارد مايز ـ ملوكا موهبين. إلا أن هذا شيء والشمولية شيء آخر. وقد تميز النظام السوفييتي بوجود (قوميسار سياسي) في كل وحدة مدنية أو حربية, وهذا ما أسماه تلامذتهم الخائبون: (أهل الثقة وليس أهل الكفاءة) ـ وقد أدى هذا بالجيش الروسي إلى مانراه اليوم: شراذم من الجياع الحفاة, يبيع الضباط أسلحة وحداتهم لمقاتلي الشيشان نظير رغيف من الخبز أو جرعة من نبيذ القوقاز عالمين بأن جنودهم سيقتلون بهذه الأسلحة. أما بأسهم في معركة ستالنجراد فقد كان الألمان إذ ذاك يقاتلون الحلفاء في جبهة والجنرال (البرد) في الأخرى, كما أن ضباط تلك الحقبة لم ينشأوا في ظل الشمولية ولم تكن حتى ذلك الوقت قد أحدثت أثرها في محو آدمية الإنسان مما دفع بعشرات من المفكرين والشعراء إلى الانتحار أو الموت كمدا. وسوف تظل الديمقراطية تستلزم أن يكون كل فرد في كل مؤسسة وفي كل مجتمع, مستحقا لما يسمى (حقوقه) وإلا فالنتيجة هي الفوضى. والمجتمع الذي يعاني من التضخم السكاني هو نظير المؤسسة التي تعاني من البطالة المقنعة, مصيره الإفلاس المحقق. وفيما نرى, فإن قضية الامتياز تظل تتعارض مع فكرة المساواة المطلقة. وفي مجتمع أثنيا القديم كانت الحقوق الديمقراطية مقصورة على (الصفوة), مما كان يعجب الخواجا باريتو لو أنه عاش تلك الأيام, ومرورا من أثينا إلى جنوب إفريقيا, سنجد أن الـ (ابارتيت) كانت نفس الشيء مما كان موضع الرضا من العجوز الاستعماري تشرشل. الحب, والحكمة نعم, هذه الكلمة المبتذلة: الحب! وضعناها في عنوان كل قصة وفي كل سطر من كل أغنية وفعلنا بها كل شيء إلا أن ندرك مضمونها ونضعه موضع التنفيذ) كل هذه الأنظمة في الإدارة والقيادة حققت نجاحا مدهشا في مختلف عصور التاريخ, وكلها أيضا جاءت بمحن وآلام ومآس لاتزال آثارها توجع الناس بعد أن مضت ألوف السنين على الحروب والمجاعات, التي تأتي من عجز الحكام عن الحب. ولسنا في حاجة إلى أن نستعرض تاريخ البشرية لكي نجد أن الديمقراطية لم تكن دائما هي النمط الذي حقق للناس قدرا من السعادة والرخاء, فهي تطور حديث نسيباً, ومحدود جدا, وإن كان لايفوتنا أن نذكر (الحلم الأمريكي), لقد أسهمت أمريكا بأمور كثيرة في تراث البشرية, منها فيما يزعم رالف ستوجديل, أحد فلاسفة القيادة الإدارية, شيئان: موسيقى الجاز, والقيادة> في ظني المتواضع أن تحقيق الحلم الأمريكي بدرجة أو أخرى, كان فتحا جديدا في تاريخ البشرية, مكن من إخراج شعب ينعم بقدر غير مسبوق من السعادة وبالتالي بقدر غير مسبوق من الطيبة وعدم الرغبة في ارتكاب الفظائع التي لاحصر لها في تاريخ الفتوحات, هذا مع إدراكنا لخطورة امتداح أي شيء أمريكي.إن أحقية القائد في القيادة تأتي من الحب), من أن يحب من يقودهم, مهما كانت سطوته عليهم, ثم من (الحكمة). ستجد كلمة (الحكم) تأتي في أكثر من موضع في الكتاب الكريم, بمعنى (الحكمة), في سورة يوسف: ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلماً, وفي سورة مريموآتيناه الحكم صبيا, لأن الحكم هو جس الحكم على الأمور, هو الحكمة, وليس التحكم في رقاب العباد وتسخير أولادهم في بناء أمجاد المتحكمين, بناء المعابد وبناء الحصون والموت في الحروب الحمقاء. نحن في حاجة إلى (مانيفستو) ينتهي بن داء أيضا (ياحكام العالم, اتقوا الله).
|
|