قصاصون من مصر... الفرجة!

قصاصون من مصر... الفرجة!

الفرجة!
قصة
عبدالفتاح رزق

كان العقاب الذي أستحقه, ووافقتهم عليه, أن تأخذني طائرتهم الخاصة, وأنا معصوب العينين, ومعي زاد وزواد عشرة أيام فقط, إلى مكان يعرفونه ولا أعرفه, ويتركوني هناك, ويعودوا بالطائرة, ولايرجعوا ثانية!نسيت الذنب الذي ارتكبته, ونسيت ما وافقت عليه, وحاولت بكل ماعندي من فضول أن أعرف المكان الذي سيطيرون بي إليه, وفشلت, وعندما حلقت الطائرة جربت أن أتبين اتجاهها, وفشلت. هل تخطينا الحدود? لابد. صعب جداً أن تعرف اتجاه الطائرة حتى وأنت مفتوح العينين, وأنا كنت في وضع مختلف. أكذب لو قلت إنني غضبت تماماً عندما اختاروا ذلك العقاب, فربما أجد نفسي في مكان تمنيت منذ وقت طويل أن أسافر إليه.. أدغال إفريقية.. جزر فوكلاند.. القطب الجنوبي.. جزر القمر.. جبال التبت.. فهل تتحقق أمنيتي ويذهبون بي إلى أحد تلك الأماكن? لا أعرف. نادراً ماكان العقاب يحقق الأمنيات, وهم ليسوا بالسذاجة التي تسمح لي بالاستمتاع, أو حتى التفاهم باللغة التي أجيدها. كل ما أتوقعه أنهم سيختارون مكاناً أعاني فيه كل المعاناة. وربما تنتهي حياتي هناك. فكيف وافقت على تلك النوعية الغريبة من العقاب?

سمعت الأصوات التي تشير إلى أن الطائرة تستعد للهبوط. علت دقات قلبي. تماسكت فدائماً تعلو دقات قلبي عندما تهبط أية طائرة أكون من ركابها. تمت طقوس إنزالي من الطائرة ومعي حقائبي القليلة. بعد لحظات خاطفة اقتحمت مسامعي فرقعة عجلات الطائرة للإقلاع. تذكرت أن يدي أصبحت حرة وأنني أستطيع نزع الرباط من فوق عيني. غشاني ضوء باهر فلم أستطع تمييز المكان.

أشم رائحة أرض رطبة, وأتنسم هواء كان مبللاً بالمطر. تفاءلت. فات وقت طويل قبل أن أتلمس بعض المعالم حولي.

صعد الدم إلى رأسي..

هل من المعقول أن يكونوا قد اختاروا هذه البقعة بالذات?!

غشاني إحساس طاغ بأن هذه البقعة هي مكان جئت إليه من قبل بمحض إرادتي. هذه الغابة من أشجار السنط العالية تقول ذلك, وهذه الأرض المنداة بمياه المطر, وهذا السكون الموحش, وتلك الأسراب من الغربان. أطلقت صيحة عالية لم أدرك إذا ماكانت صيحة فرح, أم صيحة استئناس, أم صيحة خوف. ربما كانت لكل تلك المعاني مجتمعة. وبالطبع عادت أصداء الصيحة بلا أي معنى!

حاولت أن أعرف الوقت واكتشفت أنهم قد نزعوا ساعتي من معصمي. الغيوم السوداء تحجب السماء فوق قمم الأشجار. ترى في أي وقت من اليوم أنا الآن?

الفجر قبل مقدم النهار? أم الغروب قبل نزول الليل? بدأت مطارق القلق تدق جنبات رأسي. مثل هذه الأماكن تتشابه في أحيان كثيرة, ربما أكون في أوربا, أو في آسيا, أو في أية قارة من القارات. لن ينقذني إلا مصادفة إنسان يجيب عن كل أسئلتي. عاودت الصياح من جديد. بعد أكثر من محاولة انتابني اليأس. ليس أمامي الآن سوى أن أبحث عن الركن الذي أنزوي فيه. فتحت الحقائب القليلة حقيبة بعد حقيبة. كلها معلبات وبعض زجاجات المياه. لاتوجد ملابس بديلة لما أرتديه. ماذا سأفعل لو تساقطت الأمطار والثلوج?.. ماذا سيكون مصيري لو هاجمني حيوان مفترس?.. كيف أتصرف عندما يفرغ ما معي من طعام ومياه?

غلبني النوم. تعمدت أن أحلم بالحكايات المشابهة لحكايتي. ربما أصادف (جمعة) كما حدث لروبنسون كروزو, وربما أصادف ابنة الأمير كما تكرر كثيراً مع (سندباد).. تجاهلت الحركات الدائبة للحيوانات الصغيرة حولي. لن أخاف من الأرانب والفئران والسنجاب ولن تفزعني الثعابين. بطل الحكايات أقوى من كل تلك المخلوقات. عندما أسدلت الستار على أحلامي غلبني الخوف. جمعت مافي كل حقائبي داخل حقيبة واحدة حملتها فوق ظهري لأتجول في أرجاء الغابة. الغيوم السوداء باقية. لا ليل ولانهار. لابد أن ينتهي بي المطاف إلى مكان يعيش فيه إنسان. أدركني التعب فجلست تحت أقرب شجرة. خطر لي على الفور أن أشعل راكية نار محدودة حتى ينتبه أحد.. أي أحد.. إلى وجودي وينتشلني من الغموض الذي يحيط بي. أشعلت النار بأعواد قليلة وبعيداً عن جذور الأشجار. لو اشتعلت الغابة كلها فسأكون أول المحترقين. انطفأت النار برغم حرصي على إضرامها بأعواد جديدة. هل أستحق هذا العقاب حقيقة? من الضروري أن أتناسى ما فعلته وكان السبب وراء كل ما أعانيه وما سوف أعانيه من متاعب. بدأ هطول الأمطار, من يخبرني عن الأماكن التي تسقط فيها الأمطار فوق الكرة الأرضية كلها? هل مشكلتي الآن أن أعرف أين أكون, أم انتظار ما سيحدث لي? لا أجد ما أحتمي به من السيل المتواصل من المياه. يكفيني هنا أنني لن أحس بالعطش, أدخل في حضن شجرتين متلاصقتين. لن أكترث بما سيحدث لي بعد ذلك. أنا لست في سنوات البداية لتربيني وتشكلني الذئاب. ولست في عنفوان الشباب لتفتح لي ذراعيها فتاة الأساطير. لقد اختاروا كل شيء بعناية وهم يدركون كل مايتعلق بي حتى عدد مافي فمي من أسنان. بعد توقف هطول الأمطار قررت ألا أغادر هذا الحضن الدافىء بين الشجرتين.. هذا هو بيتي الذي سأعيش فيه!

خيل لي أنني لمحت حركة لظل بعيد. هل اهتديت إلى من يعيش معي في هذا المكان الموحش, الغريب? أتوق لمقابلة من أتكلم معه. لن أطارده بالأسئلة التي تطاردني. لا أستطيع القول إني تأقلمت تماماً مع المكان. بعد نفاد المعلبات أصبح كل أكلي من النوع النباتي, لم أجد صعوبة في العثور على شجيرات تطرح الكرز الأحمر, الشهي. ربما يكون نوعاً آخر ولكني استطعمته. مخاوفي من ذلك الظل البعيد تفوق فضولي. كنت قد أيقنت أنني أمارس طقوس النهاية. ولكني برغم مشاهدتي للهيكل العظمى,لا أعرف إذا ماكان في الحلم أم في الحقيقة,دب في أوصالي حماس مثير للبقاء. للبداية من جديد. كان الهيكل العظمي مطروحاً في مزنق من مزانق الغابة. عرفت من زحام ضلوع الصدر ومن اتساع الحوض أنها امرأة. ترى ماذا كانت تفعل هنا? وكيف واجهت الموت? عندما اقتربت أكثر كان الظل قد اختفى. تصورته كلباً ضالاً يدور حول نفسه. يظهر ثم يختفي. ربما كان هدفه هو ذلك الهيكل العظمي ولكن لماذا انتظر كل ذلك الوقت الطويل?

أصبحت على دراية كاملة بالمكان وإن كنت لا أعرف أين مكانه على الأرض. أعرف المساحة والتفاصيل ولا أعرف اسم الموقع وفي أي البلاد يكون. بدأت ملابسي تلتصق بجسدي وتسيبت الأنسجة, تحسنت صحتي كثيرا, وعادت ملامح عضلاتي القديمة بعد ترهل طويل. ليتني أصادف امرأة الآن!

رحت أسلي نفسي بالصورة التي ستكون عليها المرأة. هل هي فارسية مثل الفرسة? أم باريسية مثل المانيكان? هل هي هندية مثل التوابل? أم ألمانية مثل الإبل? هل هي صينية مثل القطاط? أم لاتينية مثل البركان?

أيا كانت فسأجد أنيسة أصبحت في أشد الحاجة إليها. ظهورها المفاجىء سيكون الإجابة عن كل الأسئلة, وسيكون الحل لكل المشاكل. أخيراً تكون المرأة حلاً للمشاكل لا سبباً لها! هذا الأرنب الأسود الذي يشاغبني بين وقت وآخر لايعرف أنني لا أحب الأرانب حية كانت أم مطبوخة. فاض بي الكيل, لابد أن يظهر أحد, من غير المعقول أن يكون كل شيء للطبيعة وحدها. هل هو مكان للصيد ولم يحن بعد الموسم? ربما شمال موسكو وفي منطقة قريبة من مدينة صغيرة قديمة اسمها, "فلاديمير" رأيت غابة مثل هذه الغابة. قالوا لي إنها زاخرة بالغزلان. كانت الأكشاك الخشبية متناثرة في أماكن متفرقة من الغابة. هنا لم أشهد واحداً من تلك الأكشاك. لعل هذه الغابة مخصصة لصيد الأرانب. طار بي تفكيري من انتظار ظهور امرأة إلى انتظار ظهور هواة الصيد. هواة الصيد عادة مايظهرون فجأة كما يختفون فجأة. يقولون إن أحسن شيء يفعله الإنسان عندما يكون وحيداً هو أن يغني. لايهم أن يسمعه أحد. أوهمت نفسي أن صوت غنائي يتجاوب في أنحاء الغابة كلها. كلماتي عن الظلال, وعن الأنيسة المرتقبة, وعن كل من سأقابلهم هنا برغم أني لا أعرف شيئاً, لا الاسم, ولا العنوان!

قررت أن أصادق الأرنب الأسود. فلا أنا أريده ولاهو خائف مني. لم يعد يظهر وحده. تفاهم مع أسرته أن يقتربوا مني دون أي إحساس بالخطر. بعد تعبي من الغناء سألتهم عن مدى رضاهم. حدقت في وجهي عشرات العيون فتعالت ضحكاتي وكأني أعتذر لهم. انتبهت إلى أنني أمارس حريتي في أن أفعل ما أشاء. كان هدفهم عندما أتوا بي إلى هنا أن أنتهي إلى مثل ذلك الهيكل العظمي. فأين هم ليروني وأنا أولد من جديد?

لم تعد تثيرني حركات الظلال البعيدة. أصبحت الأصوات المفاجئة, الغريبة, غير المألوفة بعد أيام كئيبة هي التي تصدم انتباهي وتطلق كل نوازع الفضول داخلي. هل هو حيوان? هل حان موعد ظهور بني آدم يكلمني وأكلمه?

أتبين مصدر الصوت. أحاول تجاوز دقائق الصمت. أزيل الصمت من مسامعي. وعندما يعود كل شيء إلى ماكان عليه أرتاح برغم عدم راحتي. في غابة "كيوبنيك" شرق "برلين" وهي أيضاً تشبه هذه الغابة إلى حد كبير, كنا قد تمرسنا على أقرب المسالك التي تقود إلى نهر "سبراي" فلماذا لم يخطر ببالي أن أبحث عن نهر مماثل في هذه البقعة الغامضة, وربما يكون نفس النهر, وبذلك أكون قد عرفت كل شيء عن المكان. تواصلت رحلاتي لاكتشاف النهر, أي نهر, وكما كنت أبدأ كنت أعود. أرتمي في حضن الشجرتين. أكتفي بصداقة الأرنب الأسود وأسعد معه بتبادل النظرات!

أتخيل نفسي وقد تحولت ملامحي كلها إلى علامة استفهام مكدودة. بأي مكان في العالم أتعايش الآن? لو كنت عند الحدود بين دولتين لا أعرفهما. فأين الحرس? وأين الدوريات?. لو كنت في بطن أي دولة فأين السكان? وأين رجال الشرطة? كنت متفائلاً إلى مايفوق الجنون عندما تمنيت مصادفة امرأة. المرأة الوحيدة هنا عبارة عن هيكل عظمي أسفل شجرة باسقة. كان يجب أن أتمعن في الجمجمة لأعرف أصلها, هل هي قوقازية أم إفريقية أم من بلاد الإسكيمو? هطول الأمطار في أوقات كثيرة من اليوم يلغي الاحتمالين الثاني والثالث, فلاتوجد هنا شمس حارقة ولاتوجد ثلوج, فهل هي قوقازية? هل هبطت الطائرة في قلب آسيا أم في طرف من أطرافها?

كنت بين النوم واليقظة عندما رأيت, وسمعت ماسمعت, انتفضت من بين الشجرتين ووقفت مشدوها تتسابق دقات قلبي مع ما أريد أن أقوله, وما أنوي أن أفعله فارتبكت وكدت أقع على الأرض.

كانت مجموعة كبيرة من الفتيان والفتيات في مقتبل العمر, وجوههم تنفجر بالحيوية وبالحمرة الدافقة. يرتدون الملابس العادية التي نرتديها في مصر. يتضاحكون ويتشاكسون ويتخلصون من كل الهموم. كنت أتوقع توقفهم, أو توقف أحدهم عندما يروني ويرون الحالة التي أنا عليها. ربما يظنون أنني إنسان من العصر الحجري, أو مقاتل قديم لم يعرف بعد بانتهاء الحروب. توالى انصرافهم من أمامي وكأن لاوجود لي. اندفعت نحو الفتاة الأخيرة في الطابور. طويلة ممشوقة القوام قصيرة الشعر الذهبي. رفعت اليدين للتوقف. واصلت سيرها دون أن تلحظني. صحت بأعلى صوت وبكل اللغات التي أعرفها منادياً, ومخاطباً, ومتوسلاً. ابتعدت كما ابتعد الطابور الطويل من الفتيان والفتيات. ماذا حدث? ألقت بي الصدمة في بئر عميق لا قرار له. تجمدت مكاني والدموع تطفر من عيني. لم تعد الحكاية حكاية اسم المكان أو عنوانه. الحكاية حكايتي أنا, حكاية وجودي قبل كل ماعداها من أسئلة ومن علامات استفهام. ماذا فعلوا بي قبل أن تهبط طائرتهم بي هنا? ماذا دسوا في طعامي وشرابي? إلى أي مدى يصل العقاب الذي اختاروه لي?

يقترب مني الأرنب الأسود ويبتعد. يتبادل معي النظرات فأوشك أن أفهم مايقوله. أنا أوجد هنا بكل ما كنت أوجد به من قبل. تغشاني نفس الرغبات. يدهمني نفس الخوف. أجوع وأعطش وأتوق لاحتضان امرأة فلماذا لم يلتفت ناحيتي ذلك الطابور من البشر? نعم. لقد عرفت السر. لقد فعلوا ما اتفقوا عليه مع أصحاب العقاب. خطتهم أن يدفعوا بي إلى الجنون. في البداية مكان موحش, مجهول, ثم بعد ذلك هيكل عظمي موضوع بعناية في طريقي, وهذا الأرنب الأسود بالذات كيف لم أتنبه إلى أن وده معي لايتفق مع الطبيعة الحقيقية للأرانب? نعم. كل شيء متفق عليه حتى ظهور هؤلاء الشياطين العابثين وتجاهلهم لي. لقد قلتها ومازلت أقولها في إصرار. هنا بين الشجرتين بيتي وهنا أولد من جديد!

أصبحت أتجاهل الأرنب الأسود وعائلته كلها. لايثيرني ظل متحرك سواء أكان بعيداً أم قريباً. ولا أكترث لأي صوت عادي أم مفاجىء. أكثر من ذلك, أصبحت غير تواق لمعرفة كل ما أجهله عن هذا المكان. لقد وافقت على المجيء ووافقت على البقاء وليس أمامي إلا أن أوافق على إلغاء كل مافات ونسيانه. لابد أن أتعامل مع كل الأمور على أنها بداية جديدة, جميلة, ونعمة من السماء. في الماضي كنت أتعذب بما أريده ولا أقدر عليه, والآن ستكون سعادتي في أن أسعد بكل ما أقدر عليه. ألم أكن أحلم بالمكان الهادىء? ألم أكن أتمنى الخلاص من متاعب ومشاكل الآخرين? تحقق الحلم, ودانت الأمنية, فما هو أبعد من ذلك لأطمع فيه?

يتواصل هطول الأمطار فأختزن في العلب الفارغة ماقد أحتاج إليه من مياه. تزدهر شجيرات الكرز وتتساقط ثمرات أستطيب طعمها. أمارس الصمت بالحوار من طرف واحد. أفوت عليهم فرص الإمعان في تعذيبي!فات وقت طويل, شهر, شهران, لا أعرف. كنت أدندن بالغناء وحينما اقترب الظل, واتضح الصوت. انتبهت نصف الانتباه. كان رجلاً وحيداً يقوده كلب ضخم. يظهر من الصورة التي يسير بها أنه كفيف. نبح الكلب بشدة عندما رآني. رأيت الرجل يشد طوق الكلب بقوة ليوقفه مكانه. صحت أقدم نفسي بعد أن تضاءل رعبي. ظل الرجل ثابتاً والكلب أمامه. توهمت أنه لم يسمعني أو لم يفهم كلامي. أخذت خطوة ناحيته لأشرح كل شيء. انفجر الكلب بالنباح فتراجعت على الفور. لافائدة. فرصة أخرى تضيع مني للتعرف على أحد هنا. للتعرف على أي شيء. فقدت الأمل في الرجل وفقد الرجل الأمل في. ملامحه تقول إنه يقاربني في العمر. الملابس التي يرتديها آخر موضة وتوحي بالثراء. ياه. كم أنا في حاجة إلى ملابس أخرى غير التي التصقت بجسدي وبليت ولم تعد تسترني. تساءلت في يأس, ماذا كان سيحدث لو أن الكلب لايقف بيني وبينه? هل كنت سأفعلها? هل, هل كنت أرغمه على خلع ملابسه أو على الأقل بعضها? أفعال ماكنت أتصور أني أفكر فيها يوماً من الأيام. ولكن هم السبب. هم الذين أرغموني على ماأصبحت عليه, وماقد أفكر فيه. أشار الرجل بيده مودعاً وبدأ السير وراء الكلب. رددت على إشارته بإشارة أعرف أنه لن يراها. زمجرة الكلب انتزعت من رأسي أية فكرة للسير وراءه ومتابعته وسؤاله أن يعطيني شيئاً من الملابس أو على الأقل يعدني بإحضارها لي في مرة تالية. حينما اختفى واختفى الكلب معه قلت إن الأمل لم يضع تماما. ربما يظهر إنسان غيره لايكون كفيفاً, ويفهم كلامي, ولا يصاحبه كلب شرس!

حينما انفردت بنفسي ثانية صحت في فرح غامر, هذه هي الحقيقة, الشياطين الملاعين الذين تجاهلوني كانوا على اتفاق معهم, أما هذا الرجل, أما هذا الكلب, فأمرهما مختلف, لقد رآني الكلب وزمجر, ونبح, إذن فأنا موجود, ربما, ربما يكون الأمر مقصوراً على الكلب وحده, ولكن الرجل توقف, وأشار بيده عند الرحيل, لايهم أن يكون تصوره أن نباح الكلب كان لظهور حيوان من حيوانات الغابة, ثعلب أو ذئب وربما دب, لايهم, يكفيني إحساس الكلب بوجودي. نبح الكلب إذن أنا موجود, تشكيل جديد لقضية الفيلسوف الفرنسي ديكارت, أنا أفكر إذن أنا موجود. ينضم الكلب إلى قائمة الذين اعترفوا بوجودي مثل الأرنب الأسود وعائلته. لا أكترث أن القائمة لاتضم غير الحيوانات.

تعودت ألا يشعر "البني آدمين" بوجودي. استفدت أكبر استفادة من تلك الحكاية عندما حصلت على ملابس جديدة دون أي عناء. كنت عائداً بعد جولة البحث عن طعام, وقبل أن أدرك احتضان الشجرتين, بيتي, رأيتهما. شاب وفتاة في مقتبل العمر يسيران في حالة وجد طاغية. ذراعه حول كتفها وذراعها حول وسطه, قلت أجرب معهما ووقفت في مكان قريب منهما وانطلقت كالعادة أغني, ومرا بجانبي دون أن يلتفت أحدهما ناحيتي أو يهتم بغنائي, ضحكت ربما صوتي هو السبب, أعجبتني اللعبة, أن أرى الناس ولايروني, حدوتة مثل طاقية الإخفاء زمان, ولكن لا أضع شيئا فوق رأسي, كما أن جسدي يوشك أن يصبح عارياً, لم يواصل الاثنان سيرهما, توقفا فجأة ورأيت الفتاة تطرح نفسها على الأرض, ورأيت الشاب يخلع ملابسه في سرعة خاطفة, لم يشغلني مايفعلانه بعد ذلك, كانت عيوني على القميص والبنطلون, لم أتسلل, سرت في خطى واثقة تجاههما وأخذتهما وأسرعت بهما إلى بيتي, أخفيتهما جيداً في ركن غير ظاهر, ربما لايرياني ولكن من السهل عليهما أن يريا الملابس, عندما عدت بنظراتي إليهما كان حال الشاب يدعو للرثاء, وكانت الفتاة سعيدة للغاية, وهي تراه يبحث عن ملابسه ولايجدها, تضرب الأرض برجليها وتتوالى ضحكاتها, في النهاية رأيتها تقوم من رقدتها لتعطيه قميصها وهو يتطلع حوله في ذهول, فهمت من حركة يديها الدائرية, أنها تقول له إن سيارتهما في مكان قريب, سارت وهو وراءها يلملم نفسه في خجل ظاهر برغم أنه يعرف أنهما وحيدان في الغابة, ولايعرف أنني رأيت كل شيء!

أسرعت إلى ملابسي الجديدة لأرتديها, كانت لحسن حظي مناسبة لي. خطوت بضع خطوات منتشياً ثم توقفت مرة واحدة. ماذا لو عاد الشاب ثانية ليبحث عن ملابسه? ماذا لو رآها فوقي? لايهم, إنها فرصة لينتبه لوجودي, لايعقل أن تكون معلقة في الهواء دون إنسان داخلها, انتظرت وطال انتظاري ولم يظهر أحد, يكفيه ماحدث له اليوم من متعة, ومن عراء!

ضحكت عندما جفل الأرنب الأسود مبتعداً عندما رآني بالملابس الجديدة. لابد أن يفوت وقت طويل قبل أن يتقبلني على هذه الصورة. بدأ يغلبني يقين طاغ بأنني في مكان ما بأوربا, ملامح الذين رأيتهم هنا تؤكد ذلك, ولو كنت تتبعت الشاب والفتاة حتى سيارتها لعرفت من اللوحة المعدنية لأرقامها اسم البلدة, ولكن ما الفائدة ولا أحد يريد أن يلتفت ناحيتي? سأعرف كل شيء وسأتعذب بعدها في تقديم نفسي. علقت ماتبقى من ملابسي القديمة لتغسلها الأمطار ثم تجف. مكتوب علي الوحدة لا صديق ولا رفيقة. هذا هو العقاب الحقيقي أيها السادة. ليتكم وضعتموني في زنزانة لها حارس أحاوره. وليتكم أرحتموني من الدنيا كلها بإطلاق الرصاص. انتفضت قبل أن يدهمني اليأس تماماً. أمامي أشياء كثيرة أفعلها قبل أن أخلد إلى النوم. أمامي أن أكف عن التفكير!

تحولت المساحة المطروحة أمامي من الغابة إلى مايشبه خشبة مسرح كبيرة يتوالى ظهور الممثلين عليها دون أن يكسروا البعد الرابع ويتجاوبوا معي, المتفرج الوحيد, اكتشاف جديد فرحت به وكنت أتولى وحدي عملية إزاحة وإسدال الستار. مسرحيات كثيرة كلها ذات فصل واحد ونهاية واحدة!. مسرحيات قليلة هي التي أثارت انتباهي مثل حكاية الشاب والفتاة التي غنمت منهما الملابس التي أرتديها الآن. غلبني الملل بعد ذلك حتى توالت أحداث مسرحية مثيرة, جريمة قتل!فاق حزني على القتيل حزني على نفسي. فأنا شاهد عيان. أستطيع التعرف على القاتل بسهولة. حاولت جهدي عند مجيء الشرطة ومعاينة مكان الجريمة. تجاهلوني جميعاً كالمعتاد برغم أني أرتدي ملابس مألوفة لهم. راقبتهما في البداية بغير اهتمام. قلت إنها مسرحية مكررة قد تصيبني بالمزيد من الغثيان. رأيتهما يتصارعان ثم انتهى كل شيء سريعاً عندما أخرج أحدهما مطواة وطعن بها الآخر في معدته. رأيته يتحامل على نفسه ويحاول الإمساك به. أعاد طعنه عدة مرات حتى رآه يسقط على الأرض دون حراك وتركه مكانه وجرى خارجاً من الغابة. بقيت واقفاً مكاني في ذهول. ماذا أفعل? لقد انتهى كل شيء ولم تكن هناك فرصة لإنقاذه: فكرت أن أقترب من القتيل ولكني أدركت أن هذه المرة لن تكون مناسبة للتعرف عليّ, هذا إذا ماكانوا سيتعرفون عليّ ويعترفون بوجودي. توالت بقية أحداث المسرحية بعد وقت قصير, لا أعرف من الذي أخبرهم عن الذي حدث. ربما الجاني نفسه هو الذي أخبرهم. لا أعرف, وقد بقوا وقتاً طويلاً قبل أن يأخذوه بعيداً عن الغابة. ترى ماذا سيحدث بعد ذلك? أنا لا أقصد تلك الجريمة أو غيرها من الأحداث. أنا أقصد ماذا سيحدث لي? وماهي نهاية المطاف. لايمكن أن أظل هكذا مثل الصبر موجود ومالي وجود. لابد أن هناك خطأ ما في أن أشاهد الناس وأرتدي ملابسهم والكل لايشاهدني. أقول ثانية إنهم دبروا كل شيء معي بعناية فائقة, ومهما كانت غرابة الأحداث, فلماذا أنا دائما المتفرج الوحيد?

لم تعد بي أية رغبة للخروج من حضن الشجرتين. لن أكابر وأقول هذا هو بيتي وهنا أولد من جديد. كيف ولا أحد يناديني باسمي أو يناديني على الإطلاق? فليكن المكان فوق الأرض أو تحتها. ضاع كل شيء مافعلته وماعوقبت عليه. يجب أن أعترف أنه لافائدة من اسمي القديم. ولكن, أنا حتى لا أعرف اسمي الجديد.

أتمنى أن أعرف اسمي الجديد!!

صنعة لطافة
قصة: سلوى بكر

فاض الكيل بالنقطة ولم تعد تحتمل الحياة مع الخط, لأنها تمضي جل وقتها لاهثة تدور وراءه طالعة نازلة وكأنها في دوامة لاتنتهي, فهو يصير حروفاً في بعض الأحيان, ويكون عليها أن تلبي أوامره سريعاً, بأن تقبع تحته تارة, أو تستقر فوقه تارة أخرى. أما عندما يتدور أو يتثلث أو يتربع, أو يتخذ أياً من الأشكال الأخرى فإن النقطة تبلغ حينئذ ذروة غيظها وغضبها منه, إذ إنه يكون متجاهلاً لها تماماً, ولايعيرها اهتماماً وكأنها غير موجودة بالمرة في هذه الدنيا.

عند الغروب ذات يوم, وبينما كانت الشمس تودع النهار على أمل اللقاء في اليوم التالي, كانت النقطة واقعة أسفل الخط وقد تشكل على هيئة علامة استفهام فداخلها شعور مريع بأنها موشكة على الانهيار, كما لو أنها صخرة كبيرة ستقع وتنفصل عن جبل شاهق, لذلك قررت أن تضع حداً لعذاباتها وتحسم ماجال برأسها طويلاً فقالت للخط مباشرة دون مواربة وفي صرامة وحزم:

ـ لقد تعبت بسببك بما يكفي, وسئمت الحياة معك, لذلك سأفارقك ولن أعيش معك بعد اليوم. سأرتحل بعيداً, ولن أكون لك. سأصير حرة أرتع كما أشاء في فضاء الصفحات. سأحيا من الآن فصاعداً لذاتي وأوليها ماتستحقه من العناية والاهتمام, فأنا فريدة, خاصة, مميزة, لامثيل لي في الكون, ساحرة, فاتنة, صغيرة, كبيرة, متكتلة, مصمتة, مغلقة, غامضة, مبهمة, مدملكة, مثيرة, رزينة, مستقرة, ساكنة, متحفظة, ملمومة, مضمومة, ولن أسمح لأي كان أن يستغلني ويحط من قدري, أو يعاملني باستعلاء واستخفاف. أية فرادة هي أنا, وأية عظمة مستحيلة في الخلق أكون.

نظر الخط إلى النقطة بدهشة, وهو يتأملها جيداً, فلطالما تبرمت وتذمرت, لكن في كلامها, هذه المرة, نغمة جديدة غريبة, لم يسمعها منها من قبل أبداً, لذلك فكر مستغربا وهو يسأل نفسه:

ـ الآن.. تتحدث عن الحرية? أتفكر في ذاتها بعد كل تلك السنوات? لو قالت ذلك منذ زمن طويل لقلت: أجل, إنها متأثرة بهوجة الأفكار المنتشرة في كل مكان, ولكن الآن, كلام عن الحرية? هل تظن هذه العبيطة أن العالم مازال يعيش زمن حركات التحرر, ويرفع شعارات الاستقلال? ألم تسمع عن النظام العالمي الجديد?! ألا تعرف أن كلمة الحرية صارت من الكلمات الشاذة الغريبة الموشكة على الانقراض تقريباً?

ابتسم الخط للنقطة ابتسامة صفراء مستخفة, لحظتها النقطة فزاد غيظها وصارت تغلي في داخلها أكثر, لكن تلك الصفراء لم تحل دون استمرار هواجس الخط أيضاً فاستمر مسائلاً نفسه:

ـ ولكن من أين لمثل هذه المفعوصة بمثل هذه الأفكار? إنها لاتغيب عن عيني, وتدور حولي كالثور في الساقية طوال الوقت, فكيف يتسنى لها التلفظ بكلمات من هذا النوع? لعلها تغافلني عندما أنعس وأنام فتذهب سراً إلى ندوات حقوق الإنسان أو علها تنتمي ـ دون علمي ـ إلى جمعية من جمعيات النساء الجديدة المنتشرة في كل مكان الآن.

راح الخط يتأمل النقطة جيداً, ويتمعن فيها طويلاً عله يكتشف متغيرات جديدة طرأت عليها, فلما توصل إلى أنها مازالت كما هي مجرد نقطة صغيرة, لا أزيد ولا أقل, تنهد بارتياح وطرطق أصابعه في رضا وملل, ثم قال لروحه:

ـ اتركها يا ولد تبعبع وتفضفض عن روحها قليلاً, فكم من مرة هبت وثارت وزوبعت وعفّرت وغضبت وحزنت لكنها في النهاية تطلع, تطلع لفوق, ثم تهبط على لاشيء. إنها صغيرة ضعيفة, حمقاء, رعناء, هوجاء, لاحول لها ولاقوة, تظن أنها قادرة على العيش بمفردها بعيداً عني, لكن هيهات, فهي لاتستطيع التحرك قيد أنملة من مطرحها إلا بإذني ومشيئتي, فلتسكت ياولد حتى تهمد نارها وتصفو وحدها.

لكن النقطة نجحت في إقلاق الخط بعد أن حاول طمأنة نفسه, وجعلته يتوتر فعلاً, فلقد استمرت في ثورتها, ولم تكف عن الكلام وراحت تقول:

ـ ثم إنك بدوني تفتقد كل معنى, وينتفي منك المبنى, فأنت محكوم وموسوم بي, ولايمكن أن تكون إلا إذا كنت أنا. سبحان المتجلي الجبار, يضع رزقه في أضعف خلقه.

زفر الخط بمرارة وضيق وهو يهمس لروحه: "اللهم صبرك يا روح", اسكت ياولد وامسك نفسك فهي نقطة, مجرد نقطة تافهة لاراحت ولاجاءت فلا تنسق وراء استفزازها.

تثاءب بملل وفضل أن يتجاهل الأمر كله ويتركها لينام قليلاً حتى تهدأ, فتكور راسماً من نفسه دائرة صغيرة, وراح يصفّر لحنا خفيفاً هادئاً لينسيه مهاترات النقطة وشغبها ويجلب له النعاس. اغتاظت النقطة أكثر من سكوت الخط ولامبالاته بالرد عليها, وجاءت حركة نومه كدليل جديد على قلة احترامه لها واحتقاره واستخفافه بها, لذلك اندفعت تقول حانقة:

ـ ثم إنني سبب وجودك, وسر حياتك, فأنا البيض وأنت الفيض, إذ أنبعث فأنشطر فأتكاثر فأتلاصق فأتماسك فتكون أنت, فأنت بعض من بعضي, وأنا التي جسدتك لتكون من مبتدأ أساسك حتى منتهى رأسك.

انتفض الخط منتصباً حاداً كالعصا, فقد أخذ الغضب منه كل مأخذ ولم يستطع تحمل المزيد من استفزازات النقطة, والسكوت على كلامها المتكبر المهين, وانطلقت كلماته كالحمم وهو يقول:

ـ اسمعي أيتها البائسة المغرورة, لم أكن أرغب في أن أرد عليك في البداية, أما الآن وقد سمعت منك ماسمعته, فلسوف أواجهك بحقيقة وضعك في هذا العالم, فوجودك لامعنى له إلا بوجودي يامهملة, يامبهمة, يامحدودة, يا مسدودة, يا كئيبة, يامريبة, يا غريبة, ياوصمة ـ إذا كنت وحيدة دوني ـ على بياض أية صفحة. أنا الذي يحميك ويذود عنك ويقول خلوها, لاتزيلوها, فهي مهما كان شكلها نافعة لاتغيب عنها الضرورة, ولها بعض من الكينونة, حتى وإن كانت فقيرة, صغيرة, لاتستبين. ثم عن أية حرية تتحدثين? وهل لك من خيار حتى تختاري, وتبتعدي? أنت لاحرية لك ولا انتقاء, أنا الحر الذي يمكنه الصعود شمالا أو الهبوط جنوباً, السريان شرقاً أو التوجه غرباً. أنا المربع, المثلث, المستدير, المفرود, الممدود, الملموم, المضموم, المعلوم, القوي, الضعيف, الشاطر, المشطور, المستوي, المنحني, الرفيع, العريض, القصير, الطويل, القائم, المائل, الرأسي, الأفقي, الفاصل, القاطع, الباتر, الصارم, الحاد, المنساب, المستقيم, الرقيق, الدقيق, اللين, الطيع, الواضح, الجليّ, المحدد, الواصل, المانع, الحائل, الدال, السلس, المرن, المتعرج, القافل. أنا الذي أكون حرفاً, فأتجسد ألفاً وهاءً وحاءً, أنا المتحول السرمدي تحير في كنهي الفلاسفة, وتغنى بي المنشدون, ألم تسمعي من قال: الحرف يسري حيث القصد? ألا تدركين أنني المتجلي ببهاء المعاني, والقادر على التجسد والتسامي? أنا الذي أكون شموساً وأقماراً وبحاراً وأنهاراً, أنا الورد والأشجار, والمتجسد بهيئات الذوات, مني تتكون الجبال والتلال والبشر والأسماك والطيور. أنا من حفظ ذاكرة الزمان, ورسم معالم المكان, أجرد الأشياء في جوهرها فتبقى أبداً إذا مافنيت وغاب مظهرها.

ابتسمت النقطة ساخرة في تشفٍ وهي تتمدد قليلاً لتتضح وتستبين ثم قالت:

ـ تحدثني عن الغرور! وأنت لاتكف عن قول أنا, أنا, أنا, أعوذ بالله منك ياشيخ ومن قول: أنا, ألاتعرف أنها سبيل الشيطان? ألم يبلغك قول من قال: "ذواتنا ناقصة, وإنما تكملها الصفات. وأما ذات الله فهي كاملة, لاتحتاج في شيء إلى شيء, إذ كل مايحتاج في شيء إلى شيء فهو ناقص" .

غضب الخط كثيراً لسخريتها منه, وعيبها فيه, فقرر أن يفحمها ويرد لها الصاع صاعين, فرد عليها بلؤم شيطاني ـ ربما لأن إبليس تمكن منه بعد أن غافله ودخل حلقة عندما كان يتثاءب لينام ـ قائلاً وقد تحشرج صوته بحنق التوتر والانفعال:

ـ أصرت تردين عليّ? ترفعين صوتك في حضوري, وتسخرين مني? ماشاء الله! ماشاء الله! والله جاء خيرك يانقطة, والله عشنا وشفنا! لكن بما أنك نسيت أن العين لاتعلو على الحاجب فصرت تنتقدينني وتصفينني بالغرور, بل وتتفلسفين في المعنى والمبنى, وتخوضين في حديث الصفات والكمال والنقص, فلتعلمي أنك فسيفسة من ضلال الظلمات, ووجود تعز عليه الصفة. أنت كئيبة, مريبة, عديمة المبتدأ والمنتهى, لاوجه لك ولا قفا, دوامة في الدجى, ومتاهة من العجز وقلة الحيلة, أنت عين عمياء بلا رامش, ووجودك بمنزلة هامش الهامش, لاتملكين من أمرك أمراً ومع ذلك تتشدقين بالبقاء والذهاب, والحضور والغياب, ألا تعلمين أنه مامن ضرورة لوجودك إلا بوجودي, وأنك لاتملكين أن تجودي, فأنت بلا فعل, بلا حركة, وأنا المجسد المتجسد حيثما كنت, أما سمعت من قال: "الحركة حياة فلاسكون فلاموت ووجود فلا عدم"?(2) وأنت العجز وغاية السكون.

شعرت النقطة بمرارة الذل تجتاح حلقها. إذن هاهو الخط يعيرها بما غاب عنها من حظ في الطبيعة وينكر عليها كينونتها المحدودة المتواضعة. لايتقبل منها نقداً, ولايسمع لها احتجاجاً. ينكر عليها مشاعرها وكأنها قدت من صخر بلا إحساس. ودت لو تبكي, لو تصرخ, بعد أن استجارت منه بالله, لكنها قررت ألا تستسلم أو تتراجع, فعلى الخط أن يفيق من سباته ويدرك أن الدنيا تغيرت والزمن يسري بروح جديدة فلايمكن أن تستأثر القوة وحدها بهذا العالم, ولايمكن للتفوق أن يكون معياراً للوجود, ففي الكون متسع للجميع, وعلى الكل أن يتعايش مع الكل. لذلك تماسكت, وراحت تبتلع الإهانة, مصممة على خوض المعركة حتى النهاية, وردت عليه بهدوء قائلة:

ـ مشكلتك أن ذاتك متورمة, تحجب عنك رؤية ماحولك, لذلك فأنت جاحد وناكر للجميل, تعيرني برسمي وكسمي, بينما لاتنظر إلى الشمس أمامك وهي تفترش الأفق كنقطة ضخمة رائعة من الضياء. أنت لاترى نقطة الأرجوان البهيجة وهي تبتعد, بينما تعيرني بكسمي ورسمي, وأنت الذي لايستقيم وجودك ـ إلا بوجودي, أنسيت أنك لست إلا المسافة التي بيني وبيني? أنسيت أن أصلك منبعه أصلي? ولاتكوين لك إلا من تكويني? صحيح أنني صغيرة, محدودة, مسدودة, لا أروح ولا أجيء لكنك لاتستطيع الاستغناء عني, فعندما تتجسد في كلمات أكون أنا ملح الكلام وأساس الإفهام, أما سمعتهم يقولون عندما يكتمل المعنى برسمي: وهكذا وضعت النقاط فوق الحروف, ثم إني بابك الساتر إذا أمسكت وانتهى منك المقال, فإذا كنت بعدك فهم أنك أوفيت وأكملت. لقد كنت أظنك من إخوان الصفاء وخلان الوفاء, لاتبخس الصديق ولاتعير الرفيق, فما بالك وأنا أجود عليك بفضلي, أنسيت أنك واحد, وأنا التي أجعلك عشرة ومائة وألفاً وآلافاً? أنسيت أنني أحل عليك بركتي التي هي من بركة الله, فتزيد وتتكاثر إلى ماشاء الله? لن أسترسل في الحديث عن نفسي, ولكن عليك أن تعلم أن الدنيا تغيرت, وعصر العبيد قد ولى وراح, فليس لنفس أن تتسلط على نفس, ومهما كان ضعفي, أو فقري, أو قلة حيلتي, فإن جبروتك وتكبرك لن يجدي معي بعد اليوم, ولن تستقيم حياتي معك أبداً, إذا ظل الحال كما هو عليه.

تمطى الخط وتمدد في استرخاء وهو يقول لها بعد ما أدرك هزيمتها وتراجعها من الهجوم إلى الدفاع:

ـ إن ماتقولينه ماهو إلا بعض من حلاوة الروح المتبقية لك. اجري يا شاطرة, العبي بعيداً عني كما تشاءين, ولكن قبل أن تذهبي انتظري قليلاً فسوف أريك شيئاً.

صعد الخط عالياً, بسرعة فوق السطر, فرسم ألفاً, ثم انزلق سريعاً إلى أسفل فعمل راءً وبعدها تلاعب بجسده فخلق ميماً فسيناً فعيناً فدالاً, ولما انبعج بظرف كانت الصاد فالطاء أما الحاء فقد سحبها بصنعة لطافة سرت إلى اللام واللام ألف وأخيراً تلولب ليستقر هاءً في مطرحه مرة أخرى.

كادت النقطة أن تنفجر غيظاً وهي تشاهد كل هذه القدرات المدهشة الباهرة الساحرة للخط, التي لاتستطيع لأي منها سبيلاً, فلم تتمالك نفسها وشرعت تبكي بمرارة بينما الخط يسألها ضاحكاً, ساخراً, متشفياً:

ـ هه? مارأيك? تفضلي واعملي شيئاً واحداً مما عملته ثم تحدثي بعد ذلك عن الحرية. مشكلتك هي مشكلة كثيرين من أمثالك في هذه الدنيا, يتشدقون بعبارات طنانة لامصداقية لها, ويتبنون نظريات لايقدرون على تنفيذها وإثباتها في الواقع. من البديهي يا عزيزتي أن نفعل مانستطيعه, لا أن نتشدق بما لانستطيع, ولكن كم من البديهيات غابت عن هذا العالم, إن أمثالك كثيرون, أفنوا أعمارهم في سبيل كلمات ظنوا أنها قادرة على تغيير العالم, والحقيقة أنها لم تغير إلا مصائرهم التي سارت من بؤس إلى بؤس. أنت صغيرة يلزمك الكثير لكي تعرفي وتدركي.

بدت النقطة وكأنها لم تسمع حرفاً واحداً مما قاله الخط, فقد انكمشت على نفسها تبكي بكاءً متواصلاً. كانت خلال هذه اللحظات تفكر في تاريخها, عذاباتها, آلامها الدائمة التي لاتنتهي في هذه الحياة. لم تكن تفكر في النظريات ولا في تغيير العالم كما يظن الخط. فقد كانت تتمنى أن تستريح قليلاً, أن تشعر بوجودها ككائن حر يتحقق مرة بمفرده في فضاء فسيح, خال, بلا صراع.

أخذ حجم النقطة يتناقص شيئاً فشيئاً كلما سكبت مزيداً من الدموع. كان لونها يبهت, ومساحتها تتلاشى وقد تشوهت صفاتها وفقدت ليونتها وتكوينها الجميل. تجمد الخط في مكانه مرتعباً وهو يلحظ غيابها وتضاؤلها المتزايد أمامه. شعر بخطورة الموقف ومدى المصيبة التي ستحل به لو أن النقطة استمرت على هذا الحال. إنها تتلاشى, تختفي, تضيع, وستأتي اللحظة التي لاتبين فيها أبداً. فكر ماذا سيفعل دونها, وما الذي سيحل به لو غابت أو اختفت, كيف سيتخلق ويتكون ويتحول? كيف سيتمكن من أن يصبح باءً أو ثاءً? كيف يرتسم شيناً أو ضاداً أو قافاً أو فاءً أو تاءً مربوطة?! وفكر أيضاً ماذا سيكون مصيره عندما يكون أرقاماً. إنه لن يستطيع بعدها أن يكون عشرات ومئات وألوفا وألوف ألوف. لن يتمكن من الاستفهام, ولن يتيقن من معانيه. كاد هو الآخر أن يبكي وهو يستعرض في رأسه صورته دونها, وحيداً ضائعاً, عاجزاً, بعيداً عن الاكتمال. تضرع صوته وهو يناجيها ويرجوها ويناشدها قائلاً:

ـ لا.. لا.. أرجوك.. كفى, كفى, أنت تضيعين روحك بالنواح, جسدك صغير, ضعيف, لايحتمل كل هذا الحزن والانفعال. وفري دموعك. أنا لا أستطيع الاستغناء عنك أبداً. هل فكرت كيف سأكون وحيداً بعدك? كيف ستكون حياتي وأيامي دونك ومستقبلي في غيابك?

راحت النقطة تراجع مع نفسها كلماته وتتساءل: هل هو صادق حقاً فيما يقول, هل هو يتراجع ويراجع نفسه في علاقته بها? وهل نبرات الصدق التي سمعتها لتوها منه كافية لأن تجعلها تعيد النظر فيما قررته? ثم أنها فكرت في مصيرها هي أيضاً. إلام ستئول حياتها? وكيف ستعيش وحيدة في هذا العالم? لقد اكتشفت أن الرباط بينهما هو نوع من القدر الأبدي الذي لايمكن أن ينفصم أبداً, ولكن آه لو يفهم. آه لو يفهمها هذا الخط ولو مرة واحدة ويتمثل مشاعرها وأحاسيسها.

بعد صمت طويل نطقت النقطة ترد على الخط قائلة:

ـ إذا كنت جاداً في كلامك, فيجب أن تعترف بفضلي عليك, وضرورتي لك, وأن بقائي معك يجب ألا يخل بكينونتي, فلقد سئمت الحياة مع الحب والكره في آن, فإما تفاهم فحب فاحترام, فاستمرار, وإما اختلاف, فبغض, فازدراء, ففراق, فأنا لا أحب شعرة معاوية, لكنني أصبو إلى حبل الوداد المتين الذي يمتد ـ لو شاء الله ـ إلى يوم الدين.

تأملها مجدداً بإعجاب وافتتان, ثم هز رأسه وتبسم وكأنه يرى وردة تتفتح, وبدت له بالفعل جميلة, قوية, مؤثرة, بالرغم من صغرها وضعفها, لكن إلى أي مدى سيمتد تمردها هذا? وما الذي سيترتب عليه? مد لها ذراعيه ليحتويها بينهما, واستجابت هي برغم مافي داخلها من تساؤلات فتلاقيا وهما يشكلان على نحو غاية في الروعة حرف النون اللازم بداية لرسم كلمة نور.

يا ميت
قصة: محمد عبدالسلام العمري

أزاحت عن أنفاسها كابوسا ثقيلاً, بدت مبانيها فقيرة وقمينة, شوارعها مليئة بالحفر والكتل والتراب, تسيطر عليها الكآبة, كأنها لم تفق بعد من آثار الحرب ورائحة اليهود ومضارباتهم وحذرهم, ود لو يضبط الفرحة على وجوه الناس. القائمون فيها, والقادمون إليها, يجوبون الشوارع, تختلط بينهم المشاعر فيظهرون كما لو أن ظلما ما وقع عليهم, يمشون بلا فرحة, يبيعون بهدوء واسترخاء, لاتكاد تسمع صيحة أو عتابا أو مشادة, ينزوون بعد قضاء احتياجاتهم, كأنهم يعيشون مرحلة انتقالية.

أثناء قدومهم رأوا مزارع الزيتون التي انتشرت في مساحات كبيرة, آخذة لونا أزرق مائلا للرمادي أو لونا زيتيا داكنا, رأوا بداية المدينة الأولى, أخصاص لها أسقف معرشة من البوص أو السمر, أسسها صيادون بدو جاءوا فيما مضى.

عندما توقف التاكسي أمام الفندق, طلب السائق مبلغاً ضخماً, لايتناسب مع المدة الزمنية والمسافة التي قطعها قائلا: لن تأتي طائرة أخرى قبل ثلاثة أيام. استقبلوهم استقبالا باهرا, أحاطوهم برعاية وعناية فائقتين, التف حولهم جمع غفير, قدموا إليهم كركديه مثلجاً, عدد المقيمين قليل بالنسبة لعدد العاملين, يسيطر على وجوههم في لحظات راحتهم هم وكدر.

عرفوا من خلال التحذيرات المنتشرة أن المياه عالية, وغير نظيفة, الامتداد الأفقي للفندق أعطاه شاطئاً طويلاً, ورمالاً بيضاء ناعمة, وأمواجاً مرتفعة تحدث صخباً, وزمجرة لاتهدأ, وبدا أن حمام السباحة الخاص ملاذ الجميع, تمددوا حوله في اتفاق صامت.

عندما يحين موعد الغداء يذهب إلى السوق ليحضر سمكاً مشوياً, وجبة مفضلة يحبها أولاده, أيام تمضي متشابهة ومملة, ود لو تنتهي, راودته فكرة قطع إجازته, اكتشف أنه لم يبق إلا يومان, قرروا مشاهدة الأماكن المشهورة التي يتحدثون عنها.

أعد لهم الرحلة مدير الفندق, اتفق مع سائق التاكسي, عرفوا أن زيارتهم ستكون إلى الشيخ زويد والصخرة الحمراء, وياميت, ورفح.

تتشابه الطرق الصحراوية, أسفلت أسود يشق رمالاً على الجانبين, ينبت منها زرع شيطاني أو شجر أخضر يتكيف مع الصحراء ولونها الكئيب, وتربتها المليئة برائحة الموتى وجثثهم المتراكمة, لم يشاهدوا آثاراً للحرب, أو الدبابات المحترقة.

استوقفتهم نقطة مرور, لم ينتظر السائق قطع التذكرة, وضع مبلغاً في يد رجل, شد الرحال, تكرر ذلك, بدت المدينة على البعد عادية, شوارع مليئة بالروث والحفر والضجيج, تقاطع المارة والدراجات والعربات الكارو, بيوت منخفضة وذباب, وجوه بليدة مستسلمة بقدرية ورضا.انتابته حالة من الاستفسارات والأسئلة خاصة عندما رأى موقع المدينة الجميل, ورأى الناس, بدا أنه امتداد لتبلد صحراوي, وهدوء قدري, تساءل: لماذا لايندهشون?

ترتاد شاطئها الوحيد بعض السيارات التي تحمل قليلاً من السياح, هؤلاء الذين جاءوا لمشاهدة الصخرة الحمراء, قطعة حجرية ذات كتلة واحدة اقتطعها اليهود من جنوب سيناء ليضعوها في هذا المكان.

كانت شاهدا, اختاروا لها مكاناً عالياً, أعدوه سلفاً, أقاموا له سلالم خرسانية ضيقة, مريحة النسب والارتفاعات, رآهم بآلاتهم الحديثة يحملون الصخرة, يرفعونها بالأوناش الأمريكية, ثبتوها على قاعدة سداسية من الخرسانة, بدا الزلط أعلى سطحها طبيعيا, آخذا شكلاً جماليا, لمح من الناحية الأخرى أسماء بعض القتلى اليهود واضحة وأخرى مكشوطة, وعلما مصريا, وأسماء مدن مصرية.

قطعوا مسافات على طرق صحراوية, رأوا على الجانبين بعض المحاصيل الزراعية المؤقتة, كالفراولة والكوسة والقثاء والخيار, يشاهد أشجار النخيل الباسقة بزهو, يجدها كحارسه الخاص في أي مكان يرتاده, يطمئن إليها, يراها واقفة بشموخ, كبرياؤها شجعه على قضاء إجازته هناك, إضافة إلى رغبة المشاهدة الأولى للقرية التي كلما اقتربوا منها ارتفعت المستويات المختلفة للطرق والصحارى, بدت حول أنقاضها هضاب خضراء, تبرز في روعة مساحات شاسعة من أراض جرداء ومزارع. من مبعدة شاهد علماً للأمم المتحدة, ونقطة تفتيش, وبعض الدبابات المتناثرة, وجدوا براميل مخططة بألوان عدة متخذة وضعاً منحنياً عدة انحناءات.

بالقرب من ياميت بدت سباطات النخيل نحاسية ثقيلة, تكاد من فرط ثقلها تثني هامات النخيل وجريده الأخضر المورق.

جاءتهم نسمات باردة, تتناسب طرديا مع الاقتراب من المكان والارتفاع عن سطح البحر الذي بدا قريبا, بدا اختيار المكان دقيقاً, سبقته دراسات عدة, الآثار المتبقية من إزالة المستعمرة تمتد إلى مساحات كبيرة كأنها آثار مدينة ضخمة.

فور أن انتهوا من بنائها أحاطوها باحترام غريب, ممزوج بالرعب الخرافي, بدا كأنه احترام مقدس تجاه شيء أسطوري لاينتمي إلى الكون العادي, هالات ألق نوراني, اطلع عليها العالم كله من خلال أجهزته الإلكترونية والمرئية وأقماره الصناعية, بدت كمعبدمن المعابد اليهودية المنسية التي لم تكتشف إلا حديثاً. شد اليهود الرحال إليها من كل أنحاء العالم, تعلو روءسهم طاقياتهم المميزة بصغرها, وألوانها المختلفة, يمارسون طقوس صلواتهم وديانتهم, جاءت أنواع من الأجانب في رحلات إثر أخرى.

كانت الرؤية مشهداً عبثياً, أبنية مهدمة, أنقاض في اتجاهات مختلفة ومتضاربة, تم هدمها ونسفها بطريقة منظمة, فأفرزت منظراً عشوائياً, تحيطها أشجار خضراء معتنى بها, وبدا أن الحياة لايمكن أن تتولد إلابدءا من حياة أخرى يضحى بها.

كانت المساحة الشاسعة لأنقاض المستعمرة خالية إلا من بعض الزائرين, بعضهم كانوا يقيمون معهم في الفندق, ظهر عن بعد مبنى مازال قائما على ربوة, عرف أنه المعبد اليهودي, بدا من تصميمه مفتوحاً إلى السماء فخماً, شوهدت آثار عبقرية التصميم مبدعة, قوية وراسخة تعيش أجيالا قادمة, راعى فيه المصمم متطلبات وشروط الديانة اليهودية, كما راعى موقعه في صحراء محاطة بالأعداء, فبدا كقوة دفاعية بشكله العام, وحوائطه السميكة, وشبابيكه الصغيرة المحاطة بالأشكال السداسية الحديدية, تظهر لغته واضحة, ففراغ المعبد الداخلي سداسي الأضلاع, حوائطه سداسية, دورات مياهه سداسية, القبة سداسية, أخذت إنارته من أعلى نفس اللغة, ظهر المعبد مزيجاً غريباً متداخلاً بين الدين والحياة والحرب متوسطاً مباني المستعمرة, شاهداً على أطلالها, منازل تم نسفها منزلاً إثر الآخر بتأن عجيب, وبفنية مدروسة, إذ إن كل مساحة لمنزل تقبع أشلاؤه عليه, المهتم يستطيع أن يحدد مساحته, والطرق الكثيرة والمتعددة والتي وضحت واسعة, ناعمة وسهلة, يرتسم عليها الخوف والاندفاع والهرب.

شيء ما لفت نظره في أحد المنازل, لم يظهر في بعضها الآخر, كانت مغطاة بآثار الهدم الذي محا تلك الملاجىء من بعض المنازل, فعندما شاهد غطاء حديدياً مسدس الشكل رفعه من مقبضه, رأى سلالم حديدية, نزل فوراً, المكان ضيق لايسع إلا فرداً واحداً, قال لزوجته وأولاده انتظروا, أراد الصغير أن ينزل فمنعه, وقفت خائفة ومرعوبة, ناصحة له بعدم النزول, المكان مهجور, مليء بالمتفجراء والثعابين, كانت تتكلم وهو ينزل, لم يأبه لنصائحها.

وجد مساحة كبيرة محصنة تحصيناً قوياً, بدت كأنها مستطيلة الشكل, آخذة مساحة بلوك كامل من المنازل المتراصة أعلاها, وجد جدراناً من الشكائر الرملية, آثار مزاغل في الارتفاعات التي تصنع فروق مناسيب علوية بين الشارع وأسقف الملاجىء, أساسات قوية ومتينة تتحمل مدينة تعيش عشرات السنين, بقايا معلبات فارغة, وعلب سجائر, وأوراقاً كثيرة متطايرة, الإضاءة واضحة وطبيعية, بعض السحالي والأبراص تنظر إليه من الزوايا والأركان, مرق ثعبان ضخم أوقف نبضات قلبه, لكن الشيء الذي حيره أنه وجد فئرانا أيضا, تذكر فأرة خزائن اليهودي التي تحفر حفرة ضيقة بجوار الجدار عادة, لايراها أحد, مظلمة, آخذة أشكالاً تمويهية مختلفة, تختلس يوما بعد الآخر قطع ذهبه الصغيرة, ونقوده التي لاتلفت انتباهه, تضعها قطعة بجوار الأخرى, تأخذ نفس شكل الحفر, وعندما يهبط الظلام تلعب وأقرانها لعبتها المفضلة, تقرضها وتدحرجها, ولاتعيدها, وهو في تفقده لهذا المكان لم يجد شيئا ذا قيمة أو فائدة, أو أي أثر لروائح سرورهم.

وضح أنها ملاجىء حربية محصنة تحصيناً قوياً, تهويتها مدروسة دراسة جيدة, إذ كانت تأتيه من خلال فتحات غير مرئية نسمات رقيقة وعذبة, ونقية, وعنّ له أن يتتبع خط سيره, من أين تأتي هذه التيارات التحتية, وجد أثناء بحثه دائرة مخرمة خروما صغيرة, آخذة شكل الحائط المركبة فيه, تتراص الدوائر بجوار بعضها بطول الضلع الأصغر للمستطيل.

كان أسفل الدائرة في منسوب سطح الأرض الواقف عليها, فور انتزاع الغطاء جاءه تيار قوي, وبصيص من الضوء البعيد, وجدها ماسورة اسطوانية من الخرسانة نظيفة ولامعة من الداخل, انتابته فكرة الدخول فيها, تأنى وتفكر قليلا, لم يتراجع, تمدد فيها وزحف, كلما قطع مسافة توقف, جاءه هاجس غريب, إذ ربما يغلقها أحد, أو يدخلها الثعبان, إلا أن نفس الهاجس طرح لسؤاله طرحا معاكسا.

تأكد أن الماسورة متجهة إلى البحر لامحالة, وأن منسوبها أعلى من منسوبه, تساءل عن عدم اكتشافها حتى الآن, وبدا أن اختيار المكان والفكرة مدروس, ينم عن خبرة ومعرفة, هل تلك المواسير إحدى وسائل الهروب? أم هي إحدى وسائل التهوية? هل تكرر ذلك أسفل كل بلوك من البلوكات السكنية? ولماذا ترك اليهود هذه الدلائل إذا كانوا حريصين على هدم المستعمرة وعدم السماح باستغلالها? هل بناة الملاجىء غير بناة المستعمرة?

لم يدر بمرور الوقت, وقلق الأولاد والزوجة, والسجائر الكثيرة التي دخنها السائق, ثمة شيء غامض يود أن يعرفه, ثمة شيء يود أن يقوله لهؤلاء الذين قد نسوا, تسلق السلم راجعا, خرج من تلك الفوهة, وضح بعد تدقيق أن غطاءها على شكل سداسي, تذكر الأشكال السداسية للمباني التي كان يراها من شباك الطائرة ولم تلفت نظره.

تتراص الوفود الشبابية التي جاءت وتوقفت أمام تل الحوائط التي لم يشاهد مثلها من قبل الآن, فهو بحكم تخصصه وخبرته قد صمم وبنى بيوتا, وفللا وقصورا, وعمارات بحوائط سابقة التجهيز, وحوائط سابقة الإجهاد أيضا, تلك التي بنى بها اليهود مستعمرتهم.

بقايا الحوائط المتناثرة تحتوي على نسب من الحديد يتعدى المسموح به مرتين, ظهرت مكونات الخرسانة قوية ومتماسكة, الحوائط مكسوة بزلط الفينو الرفيع الناعم ذي السوك الكثيرة التي تعطي مساحة كبيرة لزيادة قوة التماسك.

وفي تجواله وعائلته قصد المعبدالذي وجد فيه الوفود الشبابية واقفة بجوار الحوائط, يقف المسئول عنهم في الوسط على مكان عال, بدا طويلاً وسميناً, تجاوز الأربعين, يبرز كرشه من أزرة القميص, يلقي المعلومات التي يشرحها بلا حماس, مبتسرة وموءودة, ظهرت قلة المعرفة والإحاطة بأسرار هذا النصر من خلال تخبطه واهتزازه, تستعصي عليه المعلومات التي يناديها حتى يبرز حدثا باهراً ليثير الدهشة.

شاهد هؤلاء الشباب الذين بدوا رغم عدم إلمام قائدهم بثقافة النصر كاملة وعدم معرفة دقيقة عن الحرب فخورين ومتحمسين ومبهورين, وفي شوق حقيقي لمعرفة أبعاده, والقرب من الرجال الذين صنعوه, تأكد أنهم يبحثون عن دور لهم.

لم يطق ثرثرة هذا المسئول التي لاتتعدى الفخر والحماس وأفعل التفضيل, نبهه إلى أهمية الدور الفعال الذي تم قبل الحرب, والاستعداد الضخم والتدريب المتواصل وحرب الاستنزاف, وحوائط الصواريخ, سلاح المهندسين, مضخات المياه, غلق أنابيب النابالم, ضربة الطيران الكبرى في وضح النهار.

انتاب جمع الشباب حماس فاق حد التصور, هتفوا, رأى ولديه وابنته مبهورين بما يقول, برغم أنهم سمعوا منه هذا الكلام مراراً, قال أحدهم: نريد أن نتعرف عليك, ورد الآخر: أنا من الذين شاركوا في الحرب, أكد آخر أنه شارك أيضا, صفقوا لهما, كلما قال كلاما طلبوا مزيداً, وضح أنهم راغبون في تكرار هذا النصر وتأكيده, بدا أن لاشيء أسعدهم وجمع قلوبهم قدر استعادة الذكرى.

لم يقلقوا, لم يتحركوا, لم يرغبوا في الرحيل, وضحت على الجميع فرحة حقيقية, وتساءل: لماذا هي هكذا فرحة?

تذكر أن الأصدقاء الذين حاربوا معه يبحثون الآن عن دور لهم خاصة الملازم المعوق الذي مازال محتفظا بهدوئه ووداعته وصمته ,وبدوا غير راغبين في الرحيل, لم يقلق غير سائق التاكسي, يطل بوجهه كل فترة مدخنا سيجارته, ناظرا في ساعته, وبدا لهم أنه قد سمع كثيرا, وشارك أيضا, وعندما أحس أن طاقة شحنته وهنت وعلى وشك النفاد, أخذ عائلته وانصرف صامتا, تبعته وفود الشباب بحيوية.

نبه السائق إلى أهمية السير بتأن, كان الحر قد بدأ يحاصرهم عندما تركوا ياميت, رغبوا في مياه, ورغب الصغير في التين الشوكي الذي لم يعرف اسمه, عندما اقتربوا من رفح بدت نفس البيوت, بنفس أشكالها وألوانها, وتشطيباتها الفقيرة, كان الولد الكبير قد أبدى رغبة في مشاهدة أحد اليهود.

تنطرح البضائع في إهمال داخل أرففها المكدسة بالأتربة, على أبواب المحلات تتناثر أقفاص الجريد المليئة ببقايا خضراوات وفاكهة معطوبة, تمتلىء محلات التوابل الموجودة بين كل دكان وآخر بالنساء والرجال.

بالقرب من البوابة التي تؤدي إلى حائط الأسلاك الدائرية الشائكة المزدوج والتي تفصل بين رفح المصرية ورفح الفلسطينية وجدوا مكانا لانتظار سيارتهم, وجدوا أطفالا صغارا, باعة للمشروبات والأطعمة المختلفة, شاهدوا علما مرصعا بنجمة سداسية.

دخلوا من خلال البوابة بعد الوقوف في الطابور, استمعوا لأحد الضباط الشباب, استعاد بطولات عسكرية, كان يشرح ويشير مؤكدا, بدا أنهم قد اقتربوا كثيرا من الحائط, أشار الضباط المدنيون لهم بالابتعاد.

كانت الأسلاك دائرية ومتداخلة من معدن لامع, شائكة وثقيلة, عرض الحائط لايقل عن نصف متر, ارتفاعه لايقل عن مترين, بدت قمة الحائط الشبكي بارقة, والمبنى الذي يعتليه العلم السداسي قديما, تنز منه مياه المجاري, رأوا المساحة أسفل المبنى مستوية, نظيفة ومزروعة, يجاور الحائط الشبكي طريق ممهد ومرصوف في الأرض المصرية ذو اتجاه واحد.

انتابته رغبة حقيقية في مغادرة المكان, أحس أن عبئا ثقيلا قد انداح عن كاهله, انطلقوا في طريق العودة, بدا الصمت ثقيلا ومهينا ومحبطا, كانت المزارع الممتدة إلى مساحات عميقة ومتداخلة وكبيرة ترسل تيارات هوائية منعشة في الوقت الذي اندفع لاعنا هذه الرحلة, لأول مرة يبتسم السائق, ضغط على البنزين بتهور, نط المؤشر, انطلقت السيارة بغير هوادة, تهلل السائق عندما تحدث معه بلا حرج, أدرك لماذا هؤلاء الناس بهذا الحذر, وهذا الانطواء وهذا الانكسار.

ثم انفجر الصغير في البكاء عندما شاهد الصخرة الحمراء, أبدى رغبة في مشاهدتها ثانية, توقف السائق بجوارها, انتفض الصغير ناطا, جمع كمية من الزلط الصغير ملأت جيبه, صعد السلم, وعندما اقترب منها أخذ يقذف الصخرة بعنف وغضب إلى أن كلت ووهنت قوته ثم قذف ماتبقى دفعة واحدة, وعندما هدأ تبول.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات



قصاصون من مصر... الفرجة!

الفرجة!
قصة
عبدالفتاح رزق

كان العقاب الذي أستحقه, ووافقتهم عليه, أن تأخذني طائرتهم الخاصة, وأنا معصوب العينين, ومعي زاد وزواد عشرة أيام فقط, إلى مكان يعرفونه ولا أعرفه, ويتركوني هناك, ويعودوا بالطائرة, ولايرجعوا ثانية!نسيت الذنب الذي ارتكبته, ونسيت ما وافقت عليه, وحاولت بكل ماعندي من فضول أن أعرف المكان الذي سيطيرون بي إليه, وفشلت, وعندما حلقت الطائرة جربت أن أتبين اتجاهها, وفشلت. هل تخطينا الحدود? لابد. صعب جداً أن تعرف اتجاه الطائرة حتى وأنت مفتوح العينين, وأنا كنت في وضع مختلف. أكذب لو قلت إنني غضبت تماماً عندما اختاروا ذلك العقاب, فربما أجد نفسي في مكان تمنيت منذ وقت طويل أن أسافر إليه.. أدغال إفريقية.. جزر فوكلاند.. القطب الجنوبي.. جزر القمر.. جبال التبت.. فهل تتحقق أمنيتي ويذهبون بي إلى أحد تلك الأماكن? لا أعرف. نادراً ماكان العقاب يحقق الأمنيات, وهم ليسوا بالسذاجة التي تسمح لي بالاستمتاع, أو حتى التفاهم باللغة التي أجيدها. كل ما أتوقعه أنهم سيختارون مكاناً أعاني فيه كل المعاناة. وربما تنتهي حياتي هناك. فكيف وافقت على تلك النوعية الغريبة من العقاب?

سمعت الأصوات التي تشير إلى أن الطائرة تستعد للهبوط. علت دقات قلبي. تماسكت فدائماً تعلو دقات قلبي عندما تهبط أية طائرة أكون من ركابها. تمت طقوس إنزالي من الطائرة ومعي حقائبي القليلة. بعد لحظات خاطفة اقتحمت مسامعي فرقعة عجلات الطائرة للإقلاع. تذكرت أن يدي أصبحت حرة وأنني أستطيع نزع الرباط من فوق عيني. غشاني ضوء باهر فلم أستطع تمييز المكان.

أشم رائحة أرض رطبة, وأتنسم هواء كان مبللاً بالمطر. تفاءلت. فات وقت طويل قبل أن أتلمس بعض المعالم حولي.

صعد الدم إلى رأسي..

هل من المعقول أن يكونوا قد اختاروا هذه البقعة بالذات?!

غشاني إحساس طاغ بأن هذه البقعة هي مكان جئت إليه من قبل بمحض إرادتي. هذه الغابة من أشجار السنط العالية تقول ذلك, وهذه الأرض المنداة بمياه المطر, وهذا السكون الموحش, وتلك الأسراب من الغربان. أطلقت صيحة عالية لم أدرك إذا ماكانت صيحة فرح, أم صيحة استئناس, أم صيحة خوف. ربما كانت لكل تلك المعاني مجتمعة. وبالطبع عادت أصداء الصيحة بلا أي معنى!

حاولت أن أعرف الوقت واكتشفت أنهم قد نزعوا ساعتي من معصمي. الغيوم السوداء تحجب السماء فوق قمم الأشجار. ترى في أي وقت من اليوم أنا الآن?

الفجر قبل مقدم النهار? أم الغروب قبل نزول الليل? بدأت مطارق القلق تدق جنبات رأسي. مثل هذه الأماكن تتشابه في أحيان كثيرة, ربما أكون في أوربا, أو في آسيا, أو في أية قارة من القارات. لن ينقذني إلا مصادفة إنسان يجيب عن كل أسئلتي. عاودت الصياح من جديد. بعد أكثر من محاولة انتابني اليأس. ليس أمامي الآن سوى أن أبحث عن الركن الذي أنزوي فيه. فتحت الحقائب القليلة حقيبة بعد حقيبة. كلها معلبات وبعض زجاجات المياه. لاتوجد ملابس بديلة لما أرتديه. ماذا سأفعل لو تساقطت الأمطار والثلوج?.. ماذا سيكون مصيري لو هاجمني حيوان مفترس?.. كيف أتصرف عندما يفرغ ما معي من طعام ومياه?

غلبني النوم. تعمدت أن أحلم بالحكايات المشابهة لحكايتي. ربما أصادف (جمعة) كما حدث لروبنسون كروزو, وربما أصادف ابنة الأمير كما تكرر كثيراً مع (سندباد).. تجاهلت الحركات الدائبة للحيوانات الصغيرة حولي. لن أخاف من الأرانب والفئران والسنجاب ولن تفزعني الثعابين. بطل الحكايات أقوى من كل تلك المخلوقات. عندما أسدلت الستار على أحلامي غلبني الخوف. جمعت مافي كل حقائبي داخل حقيبة واحدة حملتها فوق ظهري لأتجول في أرجاء الغابة. الغيوم السوداء باقية. لا ليل ولانهار. لابد أن ينتهي بي المطاف إلى مكان يعيش فيه إنسان. أدركني التعب فجلست تحت أقرب شجرة. خطر لي على الفور أن أشعل راكية نار محدودة حتى ينتبه أحد.. أي أحد.. إلى وجودي وينتشلني من الغموض الذي يحيط بي. أشعلت النار بأعواد قليلة وبعيداً عن جذور الأشجار. لو اشتعلت الغابة كلها فسأكون أول المحترقين. انطفأت النار برغم حرصي على إضرامها بأعواد جديدة. هل أستحق هذا العقاب حقيقة? من الضروري أن أتناسى ما فعلته وكان السبب وراء كل ما أعانيه وما سوف أعانيه من متاعب. بدأ هطول الأمطار, من يخبرني عن الأماكن التي تسقط فيها الأمطار فوق الكرة الأرضية كلها? هل مشكلتي الآن أن أعرف أين أكون, أم انتظار ما سيحدث لي? لا أجد ما أحتمي به من السيل المتواصل من المياه. يكفيني هنا أنني لن أحس بالعطش, أدخل في حضن شجرتين متلاصقتين. لن أكترث بما سيحدث لي بعد ذلك. أنا لست في سنوات البداية لتربيني وتشكلني الذئاب. ولست في عنفوان الشباب لتفتح لي ذراعيها فتاة الأساطير. لقد اختاروا كل شيء بعناية وهم يدركون كل مايتعلق بي حتى عدد مافي فمي من أسنان. بعد توقف هطول الأمطار قررت ألا أغادر هذا الحضن الدافىء بين الشجرتين.. هذا هو بيتي الذي سأعيش فيه!

خيل لي أنني لمحت حركة لظل بعيد. هل اهتديت إلى من يعيش معي في هذا المكان الموحش, الغريب? أتوق لمقابلة من أتكلم معه. لن أطارده بالأسئلة التي تطاردني. لا أستطيع القول إني تأقلمت تماماً مع المكان. بعد نفاد المعلبات أصبح كل أكلي من النوع النباتي, لم أجد صعوبة في العثور على شجيرات تطرح الكرز الأحمر, الشهي. ربما يكون نوعاً آخر ولكني استطعمته. مخاوفي من ذلك الظل البعيد تفوق فضولي. كنت قد أيقنت أنني أمارس طقوس النهاية. ولكني برغم مشاهدتي للهيكل العظمى,لا أعرف إذا ماكان في الحلم أم في الحقيقة,دب في أوصالي حماس مثير للبقاء. للبداية من جديد. كان الهيكل العظمي مطروحاً في مزنق من مزانق الغابة. عرفت من زحام ضلوع الصدر ومن اتساع الحوض أنها امرأة. ترى ماذا كانت تفعل هنا? وكيف واجهت الموت? عندما اقتربت أكثر كان الظل قد اختفى. تصورته كلباً ضالاً يدور حول نفسه. يظهر ثم يختفي. ربما كان هدفه هو ذلك الهيكل العظمي ولكن لماذا انتظر كل ذلك الوقت الطويل?

أصبحت على دراية كاملة بالمكان وإن كنت لا أعرف أين مكانه على الأرض. أعرف المساحة والتفاصيل ولا أعرف اسم الموقع وفي أي البلاد يكون. بدأت ملابسي تلتصق بجسدي وتسيبت الأنسجة, تحسنت صحتي كثيرا, وعادت ملامح عضلاتي القديمة بعد ترهل طويل. ليتني أصادف امرأة الآن!

رحت أسلي نفسي بالصورة التي ستكون عليها المرأة. هل هي فارسية مثل الفرسة? أم باريسية مثل المانيكان? هل هي هندية مثل التوابل? أم ألمانية مثل الإبل? هل هي صينية مثل القطاط? أم لاتينية مثل البركان?

أيا كانت فسأجد أنيسة أصبحت في أشد الحاجة إليها. ظهورها المفاجىء سيكون الإجابة عن كل الأسئلة, وسيكون الحل لكل المشاكل. أخيراً تكون المرأة حلاً للمشاكل لا سبباً لها! هذا الأرنب الأسود الذي يشاغبني بين وقت وآخر لايعرف أنني لا أحب الأرانب حية كانت أم مطبوخة. فاض بي الكيل, لابد أن يظهر أحد, من غير المعقول أن يكون كل شيء للطبيعة وحدها. هل هو مكان للصيد ولم يحن بعد الموسم? ربما شمال موسكو وفي منطقة قريبة من مدينة صغيرة قديمة اسمها, "فلاديمير" رأيت غابة مثل هذه الغابة. قالوا لي إنها زاخرة بالغزلان. كانت الأكشاك الخشبية متناثرة في أماكن متفرقة من الغابة. هنا لم أشهد واحداً من تلك الأكشاك. لعل هذه الغابة مخصصة لصيد الأرانب. طار بي تفكيري من انتظار ظهور امرأة إلى انتظار ظهور هواة الصيد. هواة الصيد عادة مايظهرون فجأة كما يختفون فجأة. يقولون إن أحسن شيء يفعله الإنسان عندما يكون وحيداً هو أن يغني. لايهم أن يسمعه أحد. أوهمت نفسي أن صوت غنائي يتجاوب في أنحاء الغابة كلها. كلماتي عن الظلال, وعن الأنيسة المرتقبة, وعن كل من سأقابلهم هنا برغم أني لا أعرف شيئاً, لا الاسم, ولا العنوان!

قررت أن أصادق الأرنب الأسود. فلا أنا أريده ولاهو خائف مني. لم يعد يظهر وحده. تفاهم مع أسرته أن يقتربوا مني دون أي إحساس بالخطر. بعد تعبي من الغناء سألتهم عن مدى رضاهم. حدقت في وجهي عشرات العيون فتعالت ضحكاتي وكأني أعتذر لهم. انتبهت إلى أنني أمارس حريتي في أن أفعل ما أشاء. كان هدفهم عندما أتوا بي إلى هنا أن أنتهي إلى مثل ذلك الهيكل العظمي. فأين هم ليروني وأنا أولد من جديد?

لم تعد تثيرني حركات الظلال البعيدة. أصبحت الأصوات المفاجئة, الغريبة, غير المألوفة بعد أيام كئيبة هي التي تصدم انتباهي وتطلق كل نوازع الفضول داخلي. هل هو حيوان? هل حان موعد ظهور بني آدم يكلمني وأكلمه?

أتبين مصدر الصوت. أحاول تجاوز دقائق الصمت. أزيل الصمت من مسامعي. وعندما يعود كل شيء إلى ماكان عليه أرتاح برغم عدم راحتي. في غابة "كيوبنيك" شرق "برلين" وهي أيضاً تشبه هذه الغابة إلى حد كبير, كنا قد تمرسنا على أقرب المسالك التي تقود إلى نهر "سبراي" فلماذا لم يخطر ببالي أن أبحث عن نهر مماثل في هذه البقعة الغامضة, وربما يكون نفس النهر, وبذلك أكون قد عرفت كل شيء عن المكان. تواصلت رحلاتي لاكتشاف النهر, أي نهر, وكما كنت أبدأ كنت أعود. أرتمي في حضن الشجرتين. أكتفي بصداقة الأرنب الأسود وأسعد معه بتبادل النظرات!

أتخيل نفسي وقد تحولت ملامحي كلها إلى علامة استفهام مكدودة. بأي مكان في العالم أتعايش الآن? لو كنت عند الحدود بين دولتين لا أعرفهما. فأين الحرس? وأين الدوريات?. لو كنت في بطن أي دولة فأين السكان? وأين رجال الشرطة? كنت متفائلاً إلى مايفوق الجنون عندما تمنيت مصادفة امرأة. المرأة الوحيدة هنا عبارة عن هيكل عظمي أسفل شجرة باسقة. كان يجب أن أتمعن في الجمجمة لأعرف أصلها, هل هي قوقازية أم إفريقية أم من بلاد الإسكيمو? هطول الأمطار في أوقات كثيرة من اليوم يلغي الاحتمالين الثاني والثالث, فلاتوجد هنا شمس حارقة ولاتوجد ثلوج, فهل هي قوقازية? هل هبطت الطائرة في قلب آسيا أم في طرف من أطرافها?

كنت بين النوم واليقظة عندما رأيت, وسمعت ماسمعت, انتفضت من بين الشجرتين ووقفت مشدوها تتسابق دقات قلبي مع ما أريد أن أقوله, وما أنوي أن أفعله فارتبكت وكدت أقع على الأرض.

كانت مجموعة كبيرة من الفتيان والفتيات في مقتبل العمر, وجوههم تنفجر بالحيوية وبالحمرة الدافقة. يرتدون الملابس العادية التي نرتديها في مصر. يتضاحكون ويتشاكسون ويتخلصون من كل الهموم. كنت أتوقع توقفهم, أو توقف أحدهم عندما يروني ويرون الحالة التي أنا عليها. ربما يظنون أنني إنسان من العصر الحجري, أو مقاتل قديم لم يعرف بعد بانتهاء الحروب. توالى انصرافهم من أمامي وكأن لاوجود لي. اندفعت نحو الفتاة الأخيرة في الطابور. طويلة ممشوقة القوام قصيرة الشعر الذهبي. رفعت اليدين للتوقف. واصلت سيرها دون أن تلحظني. صحت بأعلى صوت وبكل اللغات التي أعرفها منادياً, ومخاطباً, ومتوسلاً. ابتعدت كما ابتعد الطابور الطويل من الفتيان والفتيات. ماذا حدث? ألقت بي الصدمة في بئر عميق لا قرار له. تجمدت مكاني والدموع تطفر من عيني. لم تعد الحكاية حكاية اسم المكان أو عنوانه. الحكاية حكايتي أنا, حكاية وجودي قبل كل ماعداها من أسئلة ومن علامات استفهام. ماذا فعلوا بي قبل أن تهبط طائرتهم بي هنا? ماذا دسوا في طعامي وشرابي? إلى أي مدى يصل العقاب الذي اختاروه لي?

يقترب مني الأرنب الأسود ويبتعد. يتبادل معي النظرات فأوشك أن أفهم مايقوله. أنا أوجد هنا بكل ما كنت أوجد به من قبل. تغشاني نفس الرغبات. يدهمني نفس الخوف. أجوع وأعطش وأتوق لاحتضان امرأة فلماذا لم يلتفت ناحيتي ذلك الطابور من البشر? نعم. لقد عرفت السر. لقد فعلوا ما اتفقوا عليه مع أصحاب العقاب. خطتهم أن يدفعوا بي إلى الجنون. في البداية مكان موحش, مجهول, ثم بعد ذلك هيكل عظمي موضوع بعناية في طريقي, وهذا الأرنب الأسود بالذات كيف لم أتنبه إلى أن وده معي لايتفق مع الطبيعة الحقيقية للأرانب? نعم. كل شيء متفق عليه حتى ظهور هؤلاء الشياطين العابثين وتجاهلهم لي. لقد قلتها ومازلت أقولها في إصرار. هنا بين الشجرتين بيتي وهنا أولد من جديد!

أصبحت أتجاهل الأرنب الأسود وعائلته كلها. لايثيرني ظل متحرك سواء أكان بعيداً أم قريباً. ولا أكترث لأي صوت عادي أم مفاجىء. أكثر من ذلك, أصبحت غير تواق لمعرفة كل ما أجهله عن هذا المكان. لقد وافقت على المجيء ووافقت على البقاء وليس أمامي إلا أن أوافق على إلغاء كل مافات ونسيانه. لابد أن أتعامل مع كل الأمور على أنها بداية جديدة, جميلة, ونعمة من السماء. في الماضي كنت أتعذب بما أريده ولا أقدر عليه, والآن ستكون سعادتي في أن أسعد بكل ما أقدر عليه. ألم أكن أحلم بالمكان الهادىء? ألم أكن أتمنى الخلاص من متاعب ومشاكل الآخرين? تحقق الحلم, ودانت الأمنية, فما هو أبعد من ذلك لأطمع فيه?

يتواصل هطول الأمطار فأختزن في العلب الفارغة ماقد أحتاج إليه من مياه. تزدهر شجيرات الكرز وتتساقط ثمرات أستطيب طعمها. أمارس الصمت بالحوار من طرف واحد. أفوت عليهم فرص الإمعان في تعذيبي!فات وقت طويل, شهر, شهران, لا أعرف. كنت أدندن بالغناء وحينما اقترب الظل, واتضح الصوت. انتبهت نصف الانتباه. كان رجلاً وحيداً يقوده كلب ضخم. يظهر من الصورة التي يسير بها أنه كفيف. نبح الكلب بشدة عندما رآني. رأيت الرجل يشد طوق الكلب بقوة ليوقفه مكانه. صحت أقدم نفسي بعد أن تضاءل رعبي. ظل الرجل ثابتاً والكلب أمامه. توهمت أنه لم يسمعني أو لم يفهم كلامي. أخذت خطوة ناحيته لأشرح كل شيء. انفجر الكلب بالنباح فتراجعت على الفور. لافائدة. فرصة أخرى تضيع مني للتعرف على أحد هنا. للتعرف على أي شيء. فقدت الأمل في الرجل وفقد الرجل الأمل في. ملامحه تقول إنه يقاربني في العمر. الملابس التي يرتديها آخر موضة وتوحي بالثراء. ياه. كم أنا في حاجة إلى ملابس أخرى غير التي التصقت بجسدي وبليت ولم تعد تسترني. تساءلت في يأس, ماذا كان سيحدث لو أن الكلب لايقف بيني وبينه? هل كنت سأفعلها? هل, هل كنت أرغمه على خلع ملابسه أو على الأقل بعضها? أفعال ماكنت أتصور أني أفكر فيها يوماً من الأيام. ولكن هم السبب. هم الذين أرغموني على ماأصبحت عليه, وماقد أفكر فيه. أشار الرجل بيده مودعاً وبدأ السير وراء الكلب. رددت على إشارته بإشارة أعرف أنه لن يراها. زمجرة الكلب انتزعت من رأسي أية فكرة للسير وراءه ومتابعته وسؤاله أن يعطيني شيئاً من الملابس أو على الأقل يعدني بإحضارها لي في مرة تالية. حينما اختفى واختفى الكلب معه قلت إن الأمل لم يضع تماما. ربما يظهر إنسان غيره لايكون كفيفاً, ويفهم كلامي, ولا يصاحبه كلب شرس!

حينما انفردت بنفسي ثانية صحت في فرح غامر, هذه هي الحقيقة, الشياطين الملاعين الذين تجاهلوني كانوا على اتفاق معهم, أما هذا الرجل, أما هذا الكلب, فأمرهما مختلف, لقد رآني الكلب وزمجر, ونبح, إذن فأنا موجود, ربما, ربما يكون الأمر مقصوراً على الكلب وحده, ولكن الرجل توقف, وأشار بيده عند الرحيل, لايهم أن يكون تصوره أن نباح الكلب كان لظهور حيوان من حيوانات الغابة, ثعلب أو ذئب وربما دب, لايهم, يكفيني إحساس الكلب بوجودي. نبح الكلب إذن أنا موجود, تشكيل جديد لقضية الفيلسوف الفرنسي ديكارت, أنا أفكر إذن أنا موجود. ينضم الكلب إلى قائمة الذين اعترفوا بوجودي مثل الأرنب الأسود وعائلته. لا أكترث أن القائمة لاتضم غير الحيوانات.

تعودت ألا يشعر "البني آدمين" بوجودي. استفدت أكبر استفادة من تلك الحكاية عندما حصلت على ملابس جديدة دون أي عناء. كنت عائداً بعد جولة البحث عن طعام, وقبل أن أدرك احتضان الشجرتين, بيتي, رأيتهما. شاب وفتاة في مقتبل العمر يسيران في حالة وجد طاغية. ذراعه حول كتفها وذراعها حول وسطه, قلت أجرب معهما ووقفت في مكان قريب منهما وانطلقت كالعادة أغني, ومرا بجانبي دون أن يلتفت أحدهما ناحيتي أو يهتم بغنائي, ضحكت ربما صوتي هو السبب, أعجبتني اللعبة, أن أرى الناس ولايروني, حدوتة مثل طاقية الإخفاء زمان, ولكن لا أضع شيئا فوق رأسي, كما أن جسدي يوشك أن يصبح عارياً, لم يواصل الاثنان سيرهما, توقفا فجأة ورأيت الفتاة تطرح نفسها على الأرض, ورأيت الشاب يخلع ملابسه في سرعة خاطفة, لم يشغلني مايفعلانه بعد ذلك, كانت عيوني على القميص والبنطلون, لم أتسلل, سرت في خطى واثقة تجاههما وأخذتهما وأسرعت بهما إلى بيتي, أخفيتهما جيداً في ركن غير ظاهر, ربما لايرياني ولكن من السهل عليهما أن يريا الملابس, عندما عدت بنظراتي إليهما كان حال الشاب يدعو للرثاء, وكانت الفتاة سعيدة للغاية, وهي تراه يبحث عن ملابسه ولايجدها, تضرب الأرض برجليها وتتوالى ضحكاتها, في النهاية رأيتها تقوم من رقدتها لتعطيه قميصها وهو يتطلع حوله في ذهول, فهمت من حركة يديها الدائرية, أنها تقول له إن سيارتهما في مكان قريب, سارت وهو وراءها يلملم نفسه في خجل ظاهر برغم أنه يعرف أنهما وحيدان في الغابة, ولايعرف أنني رأيت كل شيء!

أسرعت إلى ملابسي الجديدة لأرتديها, كانت لحسن حظي مناسبة لي. خطوت بضع خطوات منتشياً ثم توقفت مرة واحدة. ماذا لو عاد الشاب ثانية ليبحث عن ملابسه? ماذا لو رآها فوقي? لايهم, إنها فرصة لينتبه لوجودي, لايعقل أن تكون معلقة في الهواء دون إنسان داخلها, انتظرت وطال انتظاري ولم يظهر أحد, يكفيه ماحدث له اليوم من متعة, ومن عراء!

ضحكت عندما جفل الأرنب الأسود مبتعداً عندما رآني بالملابس الجديدة. لابد أن يفوت وقت طويل قبل أن يتقبلني على هذه الصورة. بدأ يغلبني يقين طاغ بأنني في مكان ما بأوربا, ملامح الذين رأيتهم هنا تؤكد ذلك, ولو كنت تتبعت الشاب والفتاة حتى سيارتها لعرفت من اللوحة المعدنية لأرقامها اسم البلدة, ولكن ما الفائدة ولا أحد يريد أن يلتفت ناحيتي? سأعرف كل شيء وسأتعذب بعدها في تقديم نفسي. علقت ماتبقى من ملابسي القديمة لتغسلها الأمطار ثم تجف. مكتوب علي الوحدة لا صديق ولا رفيقة. هذا هو العقاب الحقيقي أيها السادة. ليتكم وضعتموني في زنزانة لها حارس أحاوره. وليتكم أرحتموني من الدنيا كلها بإطلاق الرصاص. انتفضت قبل أن يدهمني اليأس تماماً. أمامي أشياء كثيرة أفعلها قبل أن أخلد إلى النوم. أمامي أن أكف عن التفكير!

تحولت المساحة المطروحة أمامي من الغابة إلى مايشبه خشبة مسرح كبيرة يتوالى ظهور الممثلين عليها دون أن يكسروا البعد الرابع ويتجاوبوا معي, المتفرج الوحيد, اكتشاف جديد فرحت به وكنت أتولى وحدي عملية إزاحة وإسدال الستار. مسرحيات كثيرة كلها ذات فصل واحد ونهاية واحدة!. مسرحيات قليلة هي التي أثارت انتباهي مثل حكاية الشاب والفتاة التي غنمت منهما الملابس التي أرتديها الآن. غلبني الملل بعد ذلك حتى توالت أحداث مسرحية مثيرة, جريمة قتل!فاق حزني على القتيل حزني على نفسي. فأنا شاهد عيان. أستطيع التعرف على القاتل بسهولة. حاولت جهدي عند مجيء الشرطة ومعاينة مكان الجريمة. تجاهلوني جميعاً كالمعتاد برغم أني أرتدي ملابس مألوفة لهم. راقبتهما في البداية بغير اهتمام. قلت إنها مسرحية مكررة قد تصيبني بالمزيد من الغثيان. رأيتهما يتصارعان ثم انتهى كل شيء سريعاً عندما أخرج أحدهما مطواة وطعن بها الآخر في معدته. رأيته يتحامل على نفسه ويحاول الإمساك به. أعاد طعنه عدة مرات حتى رآه يسقط على الأرض دون حراك وتركه مكانه وجرى خارجاً من الغابة. بقيت واقفاً مكاني في ذهول. ماذا أفعل? لقد انتهى كل شيء ولم تكن هناك فرصة لإنقاذه: فكرت أن أقترب من القتيل ولكني أدركت أن هذه المرة لن تكون مناسبة للتعرف عليّ, هذا إذا ماكانوا سيتعرفون عليّ ويعترفون بوجودي. توالت بقية أحداث المسرحية بعد وقت قصير, لا أعرف من الذي أخبرهم عن الذي حدث. ربما الجاني نفسه هو الذي أخبرهم. لا أعرف, وقد بقوا وقتاً طويلاً قبل أن يأخذوه بعيداً عن الغابة. ترى ماذا سيحدث بعد ذلك? أنا لا أقصد تلك الجريمة أو غيرها من الأحداث. أنا أقصد ماذا سيحدث لي? وماهي نهاية المطاف. لايمكن أن أظل هكذا مثل الصبر موجود ومالي وجود. لابد أن هناك خطأ ما في أن أشاهد الناس وأرتدي ملابسهم والكل لايشاهدني. أقول ثانية إنهم دبروا كل شيء معي بعناية فائقة, ومهما كانت غرابة الأحداث, فلماذا أنا دائما المتفرج الوحيد?

لم تعد بي أية رغبة للخروج من حضن الشجرتين. لن أكابر وأقول هذا هو بيتي وهنا أولد من جديد. كيف ولا أحد يناديني باسمي أو يناديني على الإطلاق? فليكن المكان فوق الأرض أو تحتها. ضاع كل شيء مافعلته وماعوقبت عليه. يجب أن أعترف أنه لافائدة من اسمي القديم. ولكن, أنا حتى لا أعرف اسمي الجديد.

أتمنى أن أعرف اسمي الجديد!!

صنعة لطافة
قصة: سلوى بكر

فاض الكيل بالنقطة ولم تعد تحتمل الحياة مع الخط, لأنها تمضي جل وقتها لاهثة تدور وراءه طالعة نازلة وكأنها في دوامة لاتنتهي, فهو يصير حروفاً في بعض الأحيان, ويكون عليها أن تلبي أوامره سريعاً, بأن تقبع تحته تارة, أو تستقر فوقه تارة أخرى. أما عندما يتدور أو يتثلث أو يتربع, أو يتخذ أياً من الأشكال الأخرى فإن النقطة تبلغ حينئذ ذروة غيظها وغضبها منه, إذ إنه يكون متجاهلاً لها تماماً, ولايعيرها اهتماماً وكأنها غير موجودة بالمرة في هذه الدنيا.

عند الغروب ذات يوم, وبينما كانت الشمس تودع النهار على أمل اللقاء في اليوم التالي, كانت النقطة واقعة أسفل الخط وقد تشكل على هيئة علامة استفهام فداخلها شعور مريع بأنها موشكة على الانهيار, كما لو أنها صخرة كبيرة ستقع وتنفصل عن جبل شاهق, لذلك قررت أن تضع حداً لعذاباتها وتحسم ماجال برأسها طويلاً فقالت للخط مباشرة دون مواربة وفي صرامة وحزم:

ـ لقد تعبت بسببك بما يكفي, وسئمت الحياة معك, لذلك سأفارقك ولن أعيش معك بعد اليوم. سأرتحل بعيداً, ولن أكون لك. سأصير حرة أرتع كما أشاء في فضاء الصفحات. سأحيا من الآن فصاعداً لذاتي وأوليها ماتستحقه من العناية والاهتمام, فأنا فريدة, خاصة, مميزة, لامثيل لي في الكون, ساحرة, فاتنة, صغيرة, كبيرة, متكتلة, مصمتة, مغلقة, غامضة, مبهمة, مدملكة, مثيرة, رزينة, مستقرة, ساكنة, متحفظة, ملمومة, مضمومة, ولن أسمح لأي كان أن يستغلني ويحط من قدري, أو يعاملني باستعلاء واستخفاف. أية فرادة هي أنا, وأية عظمة مستحيلة في الخلق أكون.

نظر الخط إلى النقطة بدهشة, وهو يتأملها جيداً, فلطالما تبرمت وتذمرت, لكن في كلامها, هذه المرة, نغمة جديدة غريبة, لم يسمعها منها من قبل أبداً, لذلك فكر مستغربا وهو يسأل نفسه:

ـ الآن.. تتحدث عن الحرية? أتفكر في ذاتها بعد كل تلك السنوات? لو قالت ذلك منذ زمن طويل لقلت: أجل, إنها متأثرة بهوجة الأفكار المنتشرة في كل مكان, ولكن الآن, كلام عن الحرية? هل تظن هذه العبيطة أن العالم مازال يعيش زمن حركات التحرر, ويرفع شعارات الاستقلال? ألم تسمع عن النظام العالمي الجديد?! ألا تعرف أن كلمة الحرية صارت من الكلمات الشاذة الغريبة الموشكة على الانقراض تقريباً?

ابتسم الخط للنقطة ابتسامة صفراء مستخفة, لحظتها النقطة فزاد غيظها وصارت تغلي في داخلها أكثر, لكن تلك الصفراء لم تحل دون استمرار هواجس الخط أيضاً فاستمر مسائلاً نفسه:

ـ ولكن من أين لمثل هذه المفعوصة بمثل هذه الأفكار? إنها لاتغيب عن عيني, وتدور حولي كالثور في الساقية طوال الوقت, فكيف يتسنى لها التلفظ بكلمات من هذا النوع? لعلها تغافلني عندما أنعس وأنام فتذهب سراً إلى ندوات حقوق الإنسان أو علها تنتمي ـ دون علمي ـ إلى جمعية من جمعيات النساء الجديدة المنتشرة في كل مكان الآن.

راح الخط يتأمل النقطة جيداً, ويتمعن فيها طويلاً عله يكتشف متغيرات جديدة طرأت عليها, فلما توصل إلى أنها مازالت كما هي مجرد نقطة صغيرة, لا أزيد ولا أقل, تنهد بارتياح وطرطق أصابعه في رضا وملل, ثم قال لروحه:

ـ اتركها يا ولد تبعبع وتفضفض عن روحها قليلاً, فكم من مرة هبت وثارت وزوبعت وعفّرت وغضبت وحزنت لكنها في النهاية تطلع, تطلع لفوق, ثم تهبط على لاشيء. إنها صغيرة ضعيفة, حمقاء, رعناء, هوجاء, لاحول لها ولاقوة, تظن أنها قادرة على العيش بمفردها بعيداً عني, لكن هيهات, فهي لاتستطيع التحرك قيد أنملة من مطرحها إلا بإذني ومشيئتي, فلتسكت ياولد حتى تهمد نارها وتصفو وحدها.

لكن النقطة نجحت في إقلاق الخط بعد أن حاول طمأنة نفسه, وجعلته يتوتر فعلاً, فلقد استمرت في ثورتها, ولم تكف عن الكلام وراحت تقول:

ـ ثم إنك بدوني تفتقد كل معنى, وينتفي منك المبنى, فأنت محكوم وموسوم بي, ولايمكن أن تكون إلا إذا كنت أنا. سبحان المتجلي الجبار, يضع رزقه في أضعف خلقه.

زفر الخط بمرارة وضيق وهو يهمس لروحه: "اللهم صبرك يا روح", اسكت ياولد وامسك نفسك فهي نقطة, مجرد نقطة تافهة لاراحت ولاجاءت فلا تنسق وراء استفزازها.

تثاءب بملل وفضل أن يتجاهل الأمر كله ويتركها لينام قليلاً حتى تهدأ, فتكور راسماً من نفسه دائرة صغيرة, وراح يصفّر لحنا خفيفاً هادئاً لينسيه مهاترات النقطة وشغبها ويجلب له النعاس. اغتاظت النقطة أكثر من سكوت الخط ولامبالاته بالرد عليها, وجاءت حركة نومه كدليل جديد على قلة احترامه لها واحتقاره واستخفافه بها, لذلك اندفعت تقول حانقة:

ـ ثم إنني سبب وجودك, وسر حياتك, فأنا البيض وأنت الفيض, إذ أنبعث فأنشطر فأتكاثر فأتلاصق فأتماسك فتكون أنت, فأنت بعض من بعضي, وأنا التي جسدتك لتكون من مبتدأ أساسك حتى منتهى رأسك.

انتفض الخط منتصباً حاداً كالعصا, فقد أخذ الغضب منه كل مأخذ ولم يستطع تحمل المزيد من استفزازات النقطة, والسكوت على كلامها المتكبر المهين, وانطلقت كلماته كالحمم وهو يقول:

ـ اسمعي أيتها البائسة المغرورة, لم أكن أرغب في أن أرد عليك في البداية, أما الآن وقد سمعت منك ماسمعته, فلسوف أواجهك بحقيقة وضعك في هذا العالم, فوجودك لامعنى له إلا بوجودي يامهملة, يامبهمة, يامحدودة, يا مسدودة, يا كئيبة, يامريبة, يا غريبة, ياوصمة ـ إذا كنت وحيدة دوني ـ على بياض أية صفحة. أنا الذي يحميك ويذود عنك ويقول خلوها, لاتزيلوها, فهي مهما كان شكلها نافعة لاتغيب عنها الضرورة, ولها بعض من الكينونة, حتى وإن كانت فقيرة, صغيرة, لاتستبين. ثم عن أية حرية تتحدثين? وهل لك من خيار حتى تختاري, وتبتعدي? أنت لاحرية لك ولا انتقاء, أنا الحر الذي يمكنه الصعود شمالا أو الهبوط جنوباً, السريان شرقاً أو التوجه غرباً. أنا المربع, المثلث, المستدير, المفرود, الممدود, الملموم, المضموم, المعلوم, القوي, الضعيف, الشاطر, المشطور, المستوي, المنحني, الرفيع, العريض, القصير, الطويل, القائم, المائل, الرأسي, الأفقي, الفاصل, القاطع, الباتر, الصارم, الحاد, المنساب, المستقيم, الرقيق, الدقيق, اللين, الطيع, الواضح, الجليّ, المحدد, الواصل, المانع, الحائل, الدال, السلس, المرن, المتعرج, القافل. أنا الذي أكون حرفاً, فأتجسد ألفاً وهاءً وحاءً, أنا المتحول السرمدي تحير في كنهي الفلاسفة, وتغنى بي المنشدون, ألم تسمعي من قال: الحرف يسري حيث القصد? ألا تدركين أنني المتجلي ببهاء المعاني, والقادر على التجسد والتسامي? أنا الذي أكون شموساً وأقماراً وبحاراً وأنهاراً, أنا الورد والأشجار, والمتجسد بهيئات الذوات, مني تتكون الجبال والتلال والبشر والأسماك والطيور. أنا من حفظ ذاكرة الزمان, ورسم معالم المكان, أجرد الأشياء في جوهرها فتبقى أبداً إذا مافنيت وغاب مظهرها.

ابتسمت النقطة ساخرة في تشفٍ وهي تتمدد قليلاً لتتضح وتستبين ثم قالت:

ـ تحدثني عن الغرور! وأنت لاتكف عن قول أنا, أنا, أنا, أعوذ بالله منك ياشيخ ومن قول: أنا, ألاتعرف أنها سبيل الشيطان? ألم يبلغك قول من قال: "ذواتنا ناقصة, وإنما تكملها الصفات. وأما ذات الله فهي كاملة, لاتحتاج في شيء إلى شيء, إذ كل مايحتاج في شيء إلى شيء فهو ناقص" .

غضب الخط كثيراً لسخريتها منه, وعيبها فيه, فقرر أن يفحمها ويرد لها الصاع صاعين, فرد عليها بلؤم شيطاني ـ ربما لأن إبليس تمكن منه بعد أن غافله ودخل حلقة عندما كان يتثاءب لينام ـ قائلاً وقد تحشرج صوته بحنق التوتر والانفعال:

ـ أصرت تردين عليّ? ترفعين صوتك في حضوري, وتسخرين مني? ماشاء الله! ماشاء الله! والله جاء خيرك يانقطة, والله عشنا وشفنا! لكن بما أنك نسيت أن العين لاتعلو على الحاجب فصرت تنتقدينني وتصفينني بالغرور, بل وتتفلسفين في المعنى والمبنى, وتخوضين في حديث الصفات والكمال والنقص, فلتعلمي أنك فسيفسة من ضلال الظلمات, ووجود تعز عليه الصفة. أنت كئيبة, مريبة, عديمة المبتدأ والمنتهى, لاوجه لك ولا قفا, دوامة في الدجى, ومتاهة من العجز وقلة الحيلة, أنت عين عمياء بلا رامش, ووجودك بمنزلة هامش الهامش, لاتملكين من أمرك أمراً ومع ذلك تتشدقين بالبقاء والذهاب, والحضور والغياب, ألا تعلمين أنه مامن ضرورة لوجودك إلا بوجودي, وأنك لاتملكين أن تجودي, فأنت بلا فعل, بلا حركة, وأنا المجسد المتجسد حيثما كنت, أما سمعت من قال: "الحركة حياة فلاسكون فلاموت ووجود فلا عدم"?(2) وأنت العجز وغاية السكون.

شعرت النقطة بمرارة الذل تجتاح حلقها. إذن هاهو الخط يعيرها بما غاب عنها من حظ في الطبيعة وينكر عليها كينونتها المحدودة المتواضعة. لايتقبل منها نقداً, ولايسمع لها احتجاجاً. ينكر عليها مشاعرها وكأنها قدت من صخر بلا إحساس. ودت لو تبكي, لو تصرخ, بعد أن استجارت منه بالله, لكنها قررت ألا تستسلم أو تتراجع, فعلى الخط أن يفيق من سباته ويدرك أن الدنيا تغيرت والزمن يسري بروح جديدة فلايمكن أن تستأثر القوة وحدها بهذا العالم, ولايمكن للتفوق أن يكون معياراً للوجود, ففي الكون متسع للجميع, وعلى الكل أن يتعايش مع الكل. لذلك تماسكت, وراحت تبتلع الإهانة, مصممة على خوض المعركة حتى النهاية, وردت عليه بهدوء قائلة:

ـ مشكلتك أن ذاتك متورمة, تحجب عنك رؤية ماحولك, لذلك فأنت جاحد وناكر للجميل, تعيرني برسمي وكسمي, بينما لاتنظر إلى الشمس أمامك وهي تفترش الأفق كنقطة ضخمة رائعة من الضياء. أنت لاترى نقطة الأرجوان البهيجة وهي تبتعد, بينما تعيرني بكسمي ورسمي, وأنت الذي لايستقيم وجودك ـ إلا بوجودي, أنسيت أنك لست إلا المسافة التي بيني وبيني? أنسيت أن أصلك منبعه أصلي? ولاتكوين لك إلا من تكويني? صحيح أنني صغيرة, محدودة, مسدودة, لا أروح ولا أجيء لكنك لاتستطيع الاستغناء عني, فعندما تتجسد في كلمات أكون أنا ملح الكلام وأساس الإفهام, أما سمعتهم يقولون عندما يكتمل المعنى برسمي: وهكذا وضعت النقاط فوق الحروف, ثم إني بابك الساتر إذا أمسكت وانتهى منك المقال, فإذا كنت بعدك فهم أنك أوفيت وأكملت. لقد كنت أظنك من إخوان الصفاء وخلان الوفاء, لاتبخس الصديق ولاتعير الرفيق, فما بالك وأنا أجود عليك بفضلي, أنسيت أنك واحد, وأنا التي أجعلك عشرة ومائة وألفاً وآلافاً? أنسيت أنني أحل عليك بركتي التي هي من بركة الله, فتزيد وتتكاثر إلى ماشاء الله? لن أسترسل في الحديث عن نفسي, ولكن عليك أن تعلم أن الدنيا تغيرت, وعصر العبيد قد ولى وراح, فليس لنفس أن تتسلط على نفس, ومهما كان ضعفي, أو فقري, أو قلة حيلتي, فإن جبروتك وتكبرك لن يجدي معي بعد اليوم, ولن تستقيم حياتي معك أبداً, إذا ظل الحال كما هو عليه.

تمطى الخط وتمدد في استرخاء وهو يقول لها بعد ما أدرك هزيمتها وتراجعها من الهجوم إلى الدفاع:

ـ إن ماتقولينه ماهو إلا بعض من حلاوة الروح المتبقية لك. اجري يا شاطرة, العبي بعيداً عني كما تشاءين, ولكن قبل أن تذهبي انتظري قليلاً فسوف أريك شيئاً.

صعد الخط عالياً, بسرعة فوق السطر, فرسم ألفاً, ثم انزلق سريعاً إلى أسفل فعمل راءً وبعدها تلاعب بجسده فخلق ميماً فسيناً فعيناً فدالاً, ولما انبعج بظرف كانت الصاد فالطاء أما الحاء فقد سحبها بصنعة لطافة سرت إلى اللام واللام ألف وأخيراً تلولب ليستقر هاءً في مطرحه مرة أخرى.

كادت النقطة أن تنفجر غيظاً وهي تشاهد كل هذه القدرات المدهشة الباهرة الساحرة للخط, التي لاتستطيع لأي منها سبيلاً, فلم تتمالك نفسها وشرعت تبكي بمرارة بينما الخط يسألها ضاحكاً, ساخراً, متشفياً:

ـ هه? مارأيك? تفضلي واعملي شيئاً واحداً مما عملته ثم تحدثي بعد ذلك عن الحرية. مشكلتك هي مشكلة كثيرين من أمثالك في هذه الدنيا, يتشدقون بعبارات طنانة لامصداقية لها, ويتبنون نظريات لايقدرون على تنفيذها وإثباتها في الواقع. من البديهي يا عزيزتي أن نفعل مانستطيعه, لا أن نتشدق بما لانستطيع, ولكن كم من البديهيات غابت عن هذا العالم, إن أمثالك كثيرون, أفنوا أعمارهم في سبيل كلمات ظنوا أنها قادرة على تغيير العالم, والحقيقة أنها لم تغير إلا مصائرهم التي سارت من بؤس إلى بؤس. أنت صغيرة يلزمك الكثير لكي تعرفي وتدركي.

بدت النقطة وكأنها لم تسمع حرفاً واحداً مما قاله الخط, فقد انكمشت على نفسها تبكي بكاءً متواصلاً. كانت خلال هذه اللحظات تفكر في تاريخها, عذاباتها, آلامها الدائمة التي لاتنتهي في هذه الحياة. لم تكن تفكر في النظريات ولا في تغيير العالم كما يظن الخط. فقد كانت تتمنى أن تستريح قليلاً, أن تشعر بوجودها ككائن حر يتحقق مرة بمفرده في فضاء فسيح, خال, بلا صراع.

أخذ حجم النقطة يتناقص شيئاً فشيئاً كلما سكبت مزيداً من الدموع. كان لونها يبهت, ومساحتها تتلاشى وقد تشوهت صفاتها وفقدت ليونتها وتكوينها الجميل. تجمد الخط في مكانه مرتعباً وهو يلحظ غيابها وتضاؤلها المتزايد أمامه. شعر بخطورة الموقف ومدى المصيبة التي ستحل به لو أن النقطة استمرت على هذا الحال. إنها تتلاشى, تختفي, تضيع, وستأتي اللحظة التي لاتبين فيها أبداً. فكر ماذا سيفعل دونها, وما الذي سيحل به لو غابت أو اختفت, كيف سيتخلق ويتكون ويتحول? كيف سيتمكن من أن يصبح باءً أو ثاءً? كيف يرتسم شيناً أو ضاداً أو قافاً أو فاءً أو تاءً مربوطة?! وفكر أيضاً ماذا سيكون مصيره عندما يكون أرقاماً. إنه لن يستطيع بعدها أن يكون عشرات ومئات وألوفا وألوف ألوف. لن يتمكن من الاستفهام, ولن يتيقن من معانيه. كاد هو الآخر أن يبكي وهو يستعرض في رأسه صورته دونها, وحيداً ضائعاً, عاجزاً, بعيداً عن الاكتمال. تضرع صوته وهو يناجيها ويرجوها ويناشدها قائلاً:

ـ لا.. لا.. أرجوك.. كفى, كفى, أنت تضيعين روحك بالنواح, جسدك صغير, ضعيف, لايحتمل كل هذا الحزن والانفعال. وفري دموعك. أنا لا أستطيع الاستغناء عنك أبداً. هل فكرت كيف سأكون وحيداً بعدك? كيف ستكون حياتي وأيامي دونك ومستقبلي في غيابك?

راحت النقطة تراجع مع نفسها كلماته وتتساءل: هل هو صادق حقاً فيما يقول, هل هو يتراجع ويراجع نفسه في علاقته بها? وهل نبرات الصدق التي سمعتها لتوها منه كافية لأن تجعلها تعيد النظر فيما قررته? ثم أنها فكرت في مصيرها هي أيضاً. إلام ستئول حياتها? وكيف ستعيش وحيدة في هذا العالم? لقد اكتشفت أن الرباط بينهما هو نوع من القدر الأبدي الذي لايمكن أن ينفصم أبداً, ولكن آه لو يفهم. آه لو يفهمها هذا الخط ولو مرة واحدة ويتمثل مشاعرها وأحاسيسها.

بعد صمت طويل نطقت النقطة ترد على الخط قائلة:

ـ إذا كنت جاداً في كلامك, فيجب أن تعترف بفضلي عليك, وضرورتي لك, وأن بقائي معك يجب ألا يخل بكينونتي, فلقد سئمت الحياة مع الحب والكره في آن, فإما تفاهم فحب فاحترام, فاستمرار, وإما اختلاف, فبغض, فازدراء, ففراق, فأنا لا أحب شعرة معاوية, لكنني أصبو إلى حبل الوداد المتين الذي يمتد ـ لو شاء الله ـ إلى يوم الدين.

تأملها مجدداً بإعجاب وافتتان, ثم هز رأسه وتبسم وكأنه يرى وردة تتفتح, وبدت له بالفعل جميلة, قوية, مؤثرة, بالرغم من صغرها وضعفها, لكن إلى أي مدى سيمتد تمردها هذا? وما الذي سيترتب عليه? مد لها ذراعيه ليحتويها بينهما, واستجابت هي برغم مافي داخلها من تساؤلات فتلاقيا وهما يشكلان على نحو غاية في الروعة حرف النون اللازم بداية لرسم كلمة نور.

يا ميت
قصة: محمد عبدالسلام العمري

أزاحت عن أنفاسها كابوسا ثقيلاً, بدت مبانيها فقيرة وقمينة, شوارعها مليئة بالحفر والكتل والتراب, تسيطر عليها الكآبة, كأنها لم تفق بعد من آثار الحرب ورائحة اليهود ومضارباتهم وحذرهم, ود لو يضبط الفرحة على وجوه الناس. القائمون فيها, والقادمون إليها, يجوبون الشوارع, تختلط بينهم المشاعر فيظهرون كما لو أن ظلما ما وقع عليهم, يمشون بلا فرحة, يبيعون بهدوء واسترخاء, لاتكاد تسمع صيحة أو عتابا أو مشادة, ينزوون بعد قضاء احتياجاتهم, كأنهم يعيشون مرحلة انتقالية.

أثناء قدومهم رأوا مزارع الزيتون التي انتشرت في مساحات كبيرة, آخذة لونا أزرق مائلا للرمادي أو لونا زيتيا داكنا, رأوا بداية المدينة الأولى, أخصاص لها أسقف معرشة من البوص أو السمر, أسسها صيادون بدو جاءوا فيما مضى.

عندما توقف التاكسي أمام الفندق, طلب السائق مبلغاً ضخماً, لايتناسب مع المدة الزمنية والمسافة التي قطعها قائلا: لن تأتي طائرة أخرى قبل ثلاثة أيام. استقبلوهم استقبالا باهرا, أحاطوهم برعاية وعناية فائقتين, التف حولهم جمع غفير, قدموا إليهم كركديه مثلجاً, عدد المقيمين قليل بالنسبة لعدد العاملين, يسيطر على وجوههم في لحظات راحتهم هم وكدر.

عرفوا من خلال التحذيرات المنتشرة أن المياه عالية, وغير نظيفة, الامتداد الأفقي للفندق أعطاه شاطئاً طويلاً, ورمالاً بيضاء ناعمة, وأمواجاً مرتفعة تحدث صخباً, وزمجرة لاتهدأ, وبدا أن حمام السباحة الخاص ملاذ الجميع, تمددوا حوله في اتفاق صامت.

عندما يحين موعد الغداء يذهب إلى السوق ليحضر سمكاً مشوياً, وجبة مفضلة يحبها أولاده, أيام تمضي متشابهة ومملة, ود لو تنتهي, راودته فكرة قطع إجازته, اكتشف أنه لم يبق إلا يومان, قرروا مشاهدة الأماكن المشهورة التي يتحدثون عنها.

أعد لهم الرحلة مدير الفندق, اتفق مع سائق التاكسي, عرفوا أن زيارتهم ستكون إلى الشيخ زويد والصخرة الحمراء, وياميت, ورفح.

تتشابه الطرق الصحراوية, أسفلت أسود يشق رمالاً على الجانبين, ينبت منها زرع شيطاني أو شجر أخضر يتكيف مع الصحراء ولونها الكئيب, وتربتها المليئة برائحة الموتى وجثثهم المتراكمة, لم يشاهدوا آثاراً للحرب, أو الدبابات المحترقة.

استوقفتهم نقطة مرور, لم ينتظر السائق قطع التذكرة, وضع مبلغاً في يد رجل, شد الرحال, تكرر ذلك, بدت المدينة على البعد عادية, شوارع مليئة بالروث والحفر والضجيج, تقاطع المارة والدراجات والعربات الكارو, بيوت منخفضة وذباب, وجوه بليدة مستسلمة بقدرية ورضا.انتابته حالة من الاستفسارات والأسئلة خاصة عندما رأى موقع المدينة الجميل, ورأى الناس, بدا أنه امتداد لتبلد صحراوي, وهدوء قدري, تساءل: لماذا لايندهشون?

ترتاد شاطئها الوحيد بعض السيارات التي تحمل قليلاً من السياح, هؤلاء الذين جاءوا لمشاهدة الصخرة الحمراء, قطعة حجرية ذات كتلة واحدة اقتطعها اليهود من جنوب سيناء ليضعوها في هذا المكان.

كانت شاهدا, اختاروا لها مكاناً عالياً, أعدوه سلفاً, أقاموا له سلالم خرسانية ضيقة, مريحة النسب والارتفاعات, رآهم بآلاتهم الحديثة يحملون الصخرة, يرفعونها بالأوناش الأمريكية, ثبتوها على قاعدة سداسية من الخرسانة, بدا الزلط أعلى سطحها طبيعيا, آخذا شكلاً جماليا, لمح من الناحية الأخرى أسماء بعض القتلى اليهود واضحة وأخرى مكشوطة, وعلما مصريا, وأسماء مدن مصرية.

قطعوا مسافات على طرق صحراوية, رأوا على الجانبين بعض المحاصيل الزراعية المؤقتة, كالفراولة والكوسة والقثاء والخيار, يشاهد أشجار النخيل الباسقة بزهو, يجدها كحارسه الخاص في أي مكان يرتاده, يطمئن إليها, يراها واقفة بشموخ, كبرياؤها شجعه على قضاء إجازته هناك, إضافة إلى رغبة المشاهدة الأولى للقرية التي كلما اقتربوا منها ارتفعت المستويات المختلفة للطرق والصحارى, بدت حول أنقاضها هضاب خضراء, تبرز في روعة مساحات شاسعة من أراض جرداء ومزارع. من مبعدة شاهد علماً للأمم المتحدة, ونقطة تفتيش, وبعض الدبابات المتناثرة, وجدوا براميل مخططة بألوان عدة متخذة وضعاً منحنياً عدة انحناءات.

بالقرب من ياميت بدت سباطات النخيل نحاسية ثقيلة, تكاد من فرط ثقلها تثني هامات النخيل وجريده الأخضر المورق.

جاءتهم نسمات باردة, تتناسب طرديا مع الاقتراب من المكان والارتفاع عن سطح البحر الذي بدا قريبا, بدا اختيار المكان دقيقاً, سبقته دراسات عدة, الآثار المتبقية من إزالة المستعمرة تمتد إلى مساحات كبيرة كأنها آثار مدينة ضخمة.

فور أن انتهوا من بنائها أحاطوها باحترام غريب, ممزوج بالرعب الخرافي, بدا كأنه احترام مقدس تجاه شيء أسطوري لاينتمي إلى الكون العادي, هالات ألق نوراني, اطلع عليها العالم كله من خلال أجهزته الإلكترونية والمرئية وأقماره الصناعية, بدت كمعبدمن المعابد اليهودية المنسية التي لم تكتشف إلا حديثاً. شد اليهود الرحال إليها من كل أنحاء العالم, تعلو روءسهم طاقياتهم المميزة بصغرها, وألوانها المختلفة, يمارسون طقوس صلواتهم وديانتهم, جاءت أنواع من الأجانب في رحلات إثر أخرى.

كانت الرؤية مشهداً عبثياً, أبنية مهدمة, أنقاض في اتجاهات مختلفة ومتضاربة, تم هدمها ونسفها بطريقة منظمة, فأفرزت منظراً عشوائياً, تحيطها أشجار خضراء معتنى بها, وبدا أن الحياة لايمكن أن تتولد إلابدءا من حياة أخرى يضحى بها.

كانت المساحة الشاسعة لأنقاض المستعمرة خالية إلا من بعض الزائرين, بعضهم كانوا يقيمون معهم في الفندق, ظهر عن بعد مبنى مازال قائما على ربوة, عرف أنه المعبد اليهودي, بدا من تصميمه مفتوحاً إلى السماء فخماً, شوهدت آثار عبقرية التصميم مبدعة, قوية وراسخة تعيش أجيالا قادمة, راعى فيه المصمم متطلبات وشروط الديانة اليهودية, كما راعى موقعه في صحراء محاطة بالأعداء, فبدا كقوة دفاعية بشكله العام, وحوائطه السميكة, وشبابيكه الصغيرة المحاطة بالأشكال السداسية الحديدية, تظهر لغته واضحة, ففراغ المعبد الداخلي سداسي الأضلاع, حوائطه سداسية, دورات مياهه سداسية, القبة سداسية, أخذت إنارته من أعلى نفس اللغة, ظهر المعبد مزيجاً غريباً متداخلاً بين الدين والحياة والحرب متوسطاً مباني المستعمرة, شاهداً على أطلالها, منازل تم نسفها منزلاً إثر الآخر بتأن عجيب, وبفنية مدروسة, إذ إن كل مساحة لمنزل تقبع أشلاؤه عليه, المهتم يستطيع أن يحدد مساحته, والطرق الكثيرة والمتعددة والتي وضحت واسعة, ناعمة وسهلة, يرتسم عليها الخوف والاندفاع والهرب.

شيء ما لفت نظره في أحد المنازل, لم يظهر في بعضها الآخر, كانت مغطاة بآثار الهدم الذي محا تلك الملاجىء من بعض المنازل, فعندما شاهد غطاء حديدياً مسدس الشكل رفعه من مقبضه, رأى سلالم حديدية, نزل فوراً, المكان ضيق لايسع إلا فرداً واحداً, قال لزوجته وأولاده انتظروا, أراد الصغير أن ينزل فمنعه, وقفت خائفة ومرعوبة, ناصحة له بعدم النزول, المكان مهجور, مليء بالمتفجراء والثعابين, كانت تتكلم وهو ينزل, لم يأبه لنصائحها.

وجد مساحة كبيرة محصنة تحصيناً قوياً, بدت كأنها مستطيلة الشكل, آخذة مساحة بلوك كامل من المنازل المتراصة أعلاها, وجد جدراناً من الشكائر الرملية, آثار مزاغل في الارتفاعات التي تصنع فروق مناسيب علوية بين الشارع وأسقف الملاجىء, أساسات قوية ومتينة تتحمل مدينة تعيش عشرات السنين, بقايا معلبات فارغة, وعلب سجائر, وأوراقاً كثيرة متطايرة, الإضاءة واضحة وطبيعية, بعض السحالي والأبراص تنظر إليه من الزوايا والأركان, مرق ثعبان ضخم أوقف نبضات قلبه, لكن الشيء الذي حيره أنه وجد فئرانا أيضا, تذكر فأرة خزائن اليهودي التي تحفر حفرة ضيقة بجوار الجدار عادة, لايراها أحد, مظلمة, آخذة أشكالاً تمويهية مختلفة, تختلس يوما بعد الآخر قطع ذهبه الصغيرة, ونقوده التي لاتلفت انتباهه, تضعها قطعة بجوار الأخرى, تأخذ نفس شكل الحفر, وعندما يهبط الظلام تلعب وأقرانها لعبتها المفضلة, تقرضها وتدحرجها, ولاتعيدها, وهو في تفقده لهذا المكان لم يجد شيئا ذا قيمة أو فائدة, أو أي أثر لروائح سرورهم.

وضح أنها ملاجىء حربية محصنة تحصيناً قوياً, تهويتها مدروسة دراسة جيدة, إذ كانت تأتيه من خلال فتحات غير مرئية نسمات رقيقة وعذبة, ونقية, وعنّ له أن يتتبع خط سيره, من أين تأتي هذه التيارات التحتية, وجد أثناء بحثه دائرة مخرمة خروما صغيرة, آخذة شكل الحائط المركبة فيه, تتراص الدوائر بجوار بعضها بطول الضلع الأصغر للمستطيل.

كان أسفل الدائرة في منسوب سطح الأرض الواقف عليها, فور انتزاع الغطاء جاءه تيار قوي, وبصيص من الضوء البعيد, وجدها ماسورة اسطوانية من الخرسانة نظيفة ولامعة من الداخل, انتابته فكرة الدخول فيها, تأنى وتفكر قليلا, لم يتراجع, تمدد فيها وزحف, كلما قطع مسافة توقف, جاءه هاجس غريب, إذ ربما يغلقها أحد, أو يدخلها الثعبان, إلا أن نفس الهاجس طرح لسؤاله طرحا معاكسا.

تأكد أن الماسورة متجهة إلى البحر لامحالة, وأن منسوبها أعلى من منسوبه, تساءل عن عدم اكتشافها حتى الآن, وبدا أن اختيار المكان والفكرة مدروس, ينم عن خبرة ومعرفة, هل تلك المواسير إحدى وسائل الهروب? أم هي إحدى وسائل التهوية? هل تكرر ذلك أسفل كل بلوك من البلوكات السكنية? ولماذا ترك اليهود هذه الدلائل إذا كانوا حريصين على هدم المستعمرة وعدم السماح باستغلالها? هل بناة الملاجىء غير بناة المستعمرة?

لم يدر بمرور الوقت, وقلق الأولاد والزوجة, والسجائر الكثيرة التي دخنها السائق, ثمة شيء غامض يود أن يعرفه, ثمة شيء يود أن يقوله لهؤلاء الذين قد نسوا, تسلق السلم راجعا, خرج من تلك الفوهة, وضح بعد تدقيق أن غطاءها على شكل سداسي, تذكر الأشكال السداسية للمباني التي كان يراها من شباك الطائرة ولم تلفت نظره.

تتراص الوفود الشبابية التي جاءت وتوقفت أمام تل الحوائط التي لم يشاهد مثلها من قبل الآن, فهو بحكم تخصصه وخبرته قد صمم وبنى بيوتا, وفللا وقصورا, وعمارات بحوائط سابقة التجهيز, وحوائط سابقة الإجهاد أيضا, تلك التي بنى بها اليهود مستعمرتهم.

بقايا الحوائط المتناثرة تحتوي على نسب من الحديد يتعدى المسموح به مرتين, ظهرت مكونات الخرسانة قوية ومتماسكة, الحوائط مكسوة بزلط الفينو الرفيع الناعم ذي السوك الكثيرة التي تعطي مساحة كبيرة لزيادة قوة التماسك.

وفي تجواله وعائلته قصد المعبدالذي وجد فيه الوفود الشبابية واقفة بجوار الحوائط, يقف المسئول عنهم في الوسط على مكان عال, بدا طويلاً وسميناً, تجاوز الأربعين, يبرز كرشه من أزرة القميص, يلقي المعلومات التي يشرحها بلا حماس, مبتسرة وموءودة, ظهرت قلة المعرفة والإحاطة بأسرار هذا النصر من خلال تخبطه واهتزازه, تستعصي عليه المعلومات التي يناديها حتى يبرز حدثا باهراً ليثير الدهشة.

شاهد هؤلاء الشباب الذين بدوا رغم عدم إلمام قائدهم بثقافة النصر كاملة وعدم معرفة دقيقة عن الحرب فخورين ومتحمسين ومبهورين, وفي شوق حقيقي لمعرفة أبعاده, والقرب من الرجال الذين صنعوه, تأكد أنهم يبحثون عن دور لهم.

لم يطق ثرثرة هذا المسئول التي لاتتعدى الفخر والحماس وأفعل التفضيل, نبهه إلى أهمية الدور الفعال الذي تم قبل الحرب, والاستعداد الضخم والتدريب المتواصل وحرب الاستنزاف, وحوائط الصواريخ, سلاح المهندسين, مضخات المياه, غلق أنابيب النابالم, ضربة الطيران الكبرى في وضح النهار.

انتاب جمع الشباب حماس فاق حد التصور, هتفوا, رأى ولديه وابنته مبهورين بما يقول, برغم أنهم سمعوا منه هذا الكلام مراراً, قال أحدهم: نريد أن نتعرف عليك, ورد الآخر: أنا من الذين شاركوا في الحرب, أكد آخر أنه شارك أيضا, صفقوا لهما, كلما قال كلاما طلبوا مزيداً, وضح أنهم راغبون في تكرار هذا النصر وتأكيده, بدا أن لاشيء أسعدهم وجمع قلوبهم قدر استعادة الذكرى.

لم يقلقوا, لم يتحركوا, لم يرغبوا في الرحيل, وضحت على الجميع فرحة حقيقية, وتساءل: لماذا هي هكذا فرحة?

تذكر أن الأصدقاء الذين حاربوا معه يبحثون الآن عن دور لهم خاصة الملازم المعوق الذي مازال محتفظا بهدوئه ووداعته وصمته ,وبدوا غير راغبين في الرحيل, لم يقلق غير سائق التاكسي, يطل بوجهه كل فترة مدخنا سيجارته, ناظرا في ساعته, وبدا لهم أنه قد سمع كثيرا, وشارك أيضا, وعندما أحس أن طاقة شحنته وهنت وعلى وشك النفاد, أخذ عائلته وانصرف صامتا, تبعته وفود الشباب بحيوية.

نبه السائق إلى أهمية السير بتأن, كان الحر قد بدأ يحاصرهم عندما تركوا ياميت, رغبوا في مياه, ورغب الصغير في التين الشوكي الذي لم يعرف اسمه, عندما اقتربوا من رفح بدت نفس البيوت, بنفس أشكالها وألوانها, وتشطيباتها الفقيرة, كان الولد الكبير قد أبدى رغبة في مشاهدة أحد اليهود.

تنطرح البضائع في إهمال داخل أرففها المكدسة بالأتربة, على أبواب المحلات تتناثر أقفاص الجريد المليئة ببقايا خضراوات وفاكهة معطوبة, تمتلىء محلات التوابل الموجودة بين كل دكان وآخر بالنساء والرجال.

بالقرب من البوابة التي تؤدي إلى حائط الأسلاك الدائرية الشائكة المزدوج والتي تفصل بين رفح المصرية ورفح الفلسطينية وجدوا مكانا لانتظار سيارتهم, وجدوا أطفالا صغارا, باعة للمشروبات والأطعمة المختلفة, شاهدوا علما مرصعا بنجمة سداسية.

دخلوا من خلال البوابة بعد الوقوف في الطابور, استمعوا لأحد الضباط الشباب, استعاد بطولات عسكرية, كان يشرح ويشير مؤكدا, بدا أنهم قد اقتربوا كثيرا من الحائط, أشار الضباط المدنيون لهم بالابتعاد.

كانت الأسلاك دائرية ومتداخلة من معدن لامع, شائكة وثقيلة, عرض الحائط لايقل عن نصف متر, ارتفاعه لايقل عن مترين, بدت قمة الحائط الشبكي بارقة, والمبنى الذي يعتليه العلم السداسي قديما, تنز منه مياه المجاري, رأوا المساحة أسفل المبنى مستوية, نظيفة ومزروعة, يجاور الحائط الشبكي طريق ممهد ومرصوف في الأرض المصرية ذو اتجاه واحد.

انتابته رغبة حقيقية في مغادرة المكان, أحس أن عبئا ثقيلا قد انداح عن كاهله, انطلقوا في طريق العودة, بدا الصمت ثقيلا ومهينا ومحبطا, كانت المزارع الممتدة إلى مساحات عميقة ومتداخلة وكبيرة ترسل تيارات هوائية منعشة في الوقت الذي اندفع لاعنا هذه الرحلة, لأول مرة يبتسم السائق, ضغط على البنزين بتهور, نط المؤشر, انطلقت السيارة بغير هوادة, تهلل السائق عندما تحدث معه بلا حرج, أدرك لماذا هؤلاء الناس بهذا الحذر, وهذا الانطواء وهذا الانكسار.

ثم انفجر الصغير في البكاء عندما شاهد الصخرة الحمراء, أبدى رغبة في مشاهدتها ثانية, توقف السائق بجوارها, انتفض الصغير ناطا, جمع كمية من الزلط الصغير ملأت جيبه, صعد السلم, وعندما اقترب منها أخذ يقذف الصخرة بعنف وغضب إلى أن كلت ووهنت قوته ثم قذف ماتبقى دفعة واحدة, وعندما هدأ تبول.