في أشعار... الفيتوري الثائر العاشق الصوفي

في أشعار... الفيتوري الثائر العاشق الصوفي

قد لايخرج هذا الحكم في ذاته عن أن يكون حكما بالتمايز وليس حكما بالانتماء إلى طبقة أعلى أو أدنى من الآخرين, إنه حكم ينتمي إلى دائرة التصنيف أكثر من انتمائه إلى دائرة التقييم, ومع ذلك فإن هذا التمايز يعد في ذاته ميزة إذا أخذنا في الحسبان هذا الكم الرهيب من التشابه والتقارب والتداخل الذي كاد يطغى على الإنتاج الشعري لجيل بأكمله ويحرمنا من أن نستشف من خلال البنية الفنية للغة الروح الإنسانية للشاعر, إنه تشابه يذكرنا من بعض الوجوه بتشابه الدروب في أعين الخيول المجهدة كما يقول الفيتوري في واحدة من لوحاته القديمة الجميلة:

أيها السائق
رفقا بالخيول المتعبة
قف
فإن الدرب في ناظرة الخيل اشتبه.

وهذا النفس المتميز في شعر الفيتوري ترك بصماته على مجمل نتاجه الشعري من مرحلة الثائر الإفريقي إلى مرحلة الدرويش الصوفي مرورا بمرحلة العاشق الذي تسكنه روح الوله للكائنات التي تخالط روحه بدءا من ذرات التراب إلى وهج الصخور إلى عطن حبات العرق إلى روعة الجسد الإنساني إلى عظمة القبة الزرقاء التي لم يتوقف عن التحليق فيها واستجلاء أسرارها وترجمة رموزها إلى (لغة) تثري (اللغة) وحروف يشع من تجاورها أحيانا روح التغريم والتهويم وسحر الشعر دون أن تحرمنا من استشراف دلالات محددة أحيانا وغير محددة لكنها ليست موصدة الأبواب في معظم الأحايين.

التوصيل الفني

إن قطاعا كبيرا من إنتاج الفيتوري يثير قضية "التوصيل الفني" وعلاقة الفن الشعري الراقي بـ "المثقف العام" وحقه المشروع في أن يروي ظمأه من نتاج الأدب في عصره من خلال بذل طاقة الإصغاء والتأمل التي يملكها وهو يرتد عنها في معظم الأحيان خاسئا وهو حسير, نظرا لشدة إغلاق الأبواب وإحكام المتاريس, وإلقاء المفاتيح في قاع بئر سحيقة لايهتدي إليها غالبا إلا عتاة السحرة والنقاد, وهو النهج الذي ارتضاه كثير من شعرائنا الكبار والصغار, وكادوا أن يخرجوا به الشعر من دائرة الإمتاع للمثقف العام, وإذا كان هذا النهج يمثل أحد القطبين المتطرفين, فإن القطب الآخر يمثل المبالغة في التوصيل من خلال النثرية أو الخطابية أو ترديد الشعارات الساخنة التي غالبا ماتقلب صفحتها بعد دورة زمنية سريعة فتفقد وهج الحرارة الزائف الذي لاينتمي إلى جوهر لغة الشعر الثابتة قدر انتمائه إلى أعرافها المتغيرة.

ومع أن شعر الفيتوري, كان ينتمي في بعض مراحله إلى نمط شعر "القضية" سواء كانت القضية الإفريقية أو القضايا العربية المتعددة على امتداد العقود الخمسة التي جلجل فيها صوت الفيتوري الشاعر منذ كان فتى متألقا في "دار العلوم" في الخمسينيات حتى اليوم, مع هذا فإن الفيتوري كان يتكىء دائما على حاسته الشعرية أكثر من اتكائه على حماسه للقضية المثارة, وكان بذلك يحقق التواصل والإمتاع في وقت واحد. لقد كتب الفيتوري في مقدمة ديوانه "شرق الشمس غرب القمر" الذي صدر في القاهرة عام 1992, يتحدث عن هذه المرحلة في شعره ويقول: "بعض الذين عاصروني قالوا منتقدين: "كان يكتب شعرا تقريريا لاعلاقة له بالشعر العربي المعاصر" وكانوا يعنون مجموعاتي الإفريقية, وأذكر أنني ضحكت بحزن في داخلي, ولم أكن أدافع عن نفسي حين قلت: إنني أحاول أن أطهر نفسي مما ورثته من عذابي, لأنني أريد أن أخلص إلى الواقع كإنسان في العصر".

عاشق إفريقي

والواقع أن الشاعر لم يكن في حاجة للدفاع عن نفسه, فالبناء الفني المحكم لقصائده في هذه المرحلة المبكرة يستطيع وحده أن يتولى مهمة الحوار, ففي ديوان "عاشق من إفريقيا" والذي صدرت طبعته الأولى في بيروت عام 1964, تنبث الوسائل الفنية في كل مكان لتقدم صورة واضحة للتقنيات الشعرية الراقية والتي لاتتأثر صورتها بوضوح صوت "القضية". وعندما نقرأ القصيدة الأولى من هذا الديوان والتي يحمل الديوان عنوانها: "عاشق من إفريقيا", نستقبل هذا الصوت الشعري المتميز:

صناعتي الكلام
سيفي قلمي
وكل ثروتي شعور ونغم
ولست واحدا من أنبياء العصر
لست من فرسانه الذين يحملون رايات النضال
أو يخطون مصائر الأمم
لكن لي هوى يكبر كلما أكبر
لم أمنحه مرة لملك متوج
ولم أمرغ وجنتيه فوق أعتاب صنم

وعندما يتابع المرء قراءة القصيدة سوف يدرك أنها لاتعتمد فقط على دفقة الموهبة ولا على حرارة الشعور, وإنما يساند هذا كله تخطيط فني واع, سواء على مستوى الرؤية الثابتة أو البناء الإيقاعي المحكم أو بنية الصورة المتنامية, فجوهر الرؤية الثابتة هنا يقوم على أن الصوت الأول فيها هو دور "فارس الكلمة", الذي لايمتهن معشوقته الوحيدة ولايجعلها تمرغ على الأعتاب, وهو دور يستهل به الشاعر القصيدة, ولايغيب عنه أن يجعله نفحة الختام:

لاشيء في يدي
لاشيء في فمي
إلا بقايا مقطع صغير
أعزفه في خجل على الورق

وهذا الدور الثابت هو الذي يهب القصيدة "لازمة الربط" التي تجمع أرجاء العمل الشعري المتشعب, واللازمة هنا هي عبارة "صناعتي الكلام" وقد تكررت في القصيدة أربع مرات في أربعة منعطفات رئيسية شكلت الزوايا الرئيسية لها, وأكد على الدور المحوري الثابت للمضمون, وجاءت القافية لكي تتوج الدفقات وتسجل نقطة بلوغها الذروة في نسق إيقاعي محكم, والقافية تلعب دورا مهما في قصيدة التفعيلة, على عكس مايظن للوهلة الأولى, ففي الوقت الذي تخرج فيه عن كونها قيداً لازما متوقعا كما هو الشأن في القصيدة التراثية, تظل أداة اختيارية يظهر مدى تحكم الشاعر فيها, قدرته على إضافة ماأسماه رولاند بارت, ملامح مافوق درجة الصفر, وكثيرا ماتسقط القصائد الحديثة بسبب إغفالها درجة حساسية النغم, وشعر الفيتوري بصفة عامة غني بالإيقاع, وفي القصيدة التي بين أيدينا, نلاحظ أن حرف "الميم" أخذ الدور الرئيسي في القافية الاختيارية لكنه وزع توزيعا محكما متناسقا, فقد اشتمل المقطع الأول على ثلاث قواف ميمية جاءت جميعها ساكنة, "نغم, الأمم, صنم" على حين اشتمل المقطع الثاني على ثلاث قواف ميمية جاءت جميعها مكسورة "دمي, فمي, سأمي" وجاء المقطع الثالث ليزاوج بين النظامين فيشتمل على أربع قواف ميمية اثنتان منها ساكنتان واثنتان مكسورتان, ويضيف إليها ثلاث قواف نونية ساكنة, والنون تدخل صوتيا في دائرة التجانس الشديد مع الميم, وهذا التوزيع المحكم النغمي لايتأتى إلا لفنان لديه كفتا الوعي بقضايا الفن, وقضايا الإنسان, وإذا كان الفيتوري يقول عن نفسه في مقدمة أحد دواوينه: "أنا لا أختار إيقاعاتي إنما تختارني هي, إنني أختار أفكاري ولكنني لا أستطيع اختيار موسيقاي وأنغامي" فهو يذكرنا بلعبة الاختيار والترك والإمساك والإفلات التي ليس من الضروري أن تعني عند الشاعر الكبير دلالاتها الحقيقية, كان الشاعر الفرنسي "ريمون كينو" يصور تجربة إمساكه بالطيف الشعري في شكل الإفلات منه حين يقول:

يا إلهي.. يا إلهي
كم أنا مشتاق لأن أكتب قصيدة صغيرة
عجبا
ها هي واحدة تمر أمامي تماما
صغيرتي.. صغيرتي
تعالي هنا لكي أنظمك
في خيط عقد قصائدي الأخريات
تعالي هنا لكي أنضدك
في رحاب دواويني

عفوية النغم

إن الاهتمام بالنغم سمة أساسية في شعر الفيتوري, تمثل جزءا من أسرار النكهة الخاصة والمذاق المتميز, وإذا كان هذا الاهتمام يتسرب في عفوية في المراحل الأولى ويعلن الشاعر أن النغم هو الذي يختاره, فإننا نلاحظ في مراحل الفيتوري المتأخرة أنه يسعى هو إلى النغم سعيا, ويمسك أحيانا بعوده كما يصنع (الموسيقي المتمكن) لكي "يدندن" عليه بحثا عن تقاسيم جديدة يمكن استخراجها من لحن مألوف, ففي ديوان "قوس الليل.. قوس النهار" والذي صدر عام 1994, تطالعنا قصيدة "تقاسيم على المتدارك" والتي تتخذ منطلقها الأساسي من تغليب نغمة "فاعلن" لاستخراج معزوفة جديدة من النغمة القديمة, لاتشكل نسخة معادة في الوقت الذي لاتكسر فيه القيد الذهبي, وكأن الإيقاع في ذاته يصلح أن يكون منطلقاً للامتاع في عصر بدأت القصيدة فيه تتنازل عن كثير من كنوزها, ومن خلال هذا الإيقاع وحده تدخل بنا طقوس النغم المقطر في مناخ الحكمة المقطرة:

نادراً ماتفوح زهور الخطايا
نادراً ماتبوح الشفاه بأسرارها المغلقة
نادراً ماتقلب أشكالها.. صور الموت في الكائنات
نادراً ما تخبىء قيثارة صوتها في الرمال
نادراً ماتكون القناديل أعمدة للقباب
نادرا ماتموت العصافير
فوق رفوف الغيوم
نادرا ماتسيل الحروف

إن هذه "الوحدات" النغمية الصغيرة, تشبه الكائنات الدقيقة التي تعد في أناة في معمل الشاعر, وتترك محلقة في فضائه تبدو للوهلة الأولى عصافير منفصلة ولكنها تنتمي إلى سرب خفي يمسك الشاعر وحده بخيوطه وعندما نتابعها فقد لاتملك أرواحنا إلا التحليق معها, ولو لم ندرك على وجه اليقين أين تكمن عقدة الخيط في هذه اللعبة النغمية.

ومن أجل هذا فإن قصيدة الفيتوري قد تفقد الكثير من مذاقها إذا تسامحت في الإحكام النغمى, ويستطيع القارىء لديوان "قوس الليل.. قوس النهار" أن يقارن بين لوحتين تتحدثان عن باريس, تتهاون أولاهما في النغم وهي قصيدة "من شرفة باريزية" وتتمسك الثانية بغنى الإيقاع وهي قصيدة "قمر للغناء" ليدرك مدى الملاحظة التي ألمحنا إليها.

إن نقطة انطلاق التميز في بناء "الصورة" في شعر الفيتوري قد تكمن في هذه الطاقة اللافتة للنظر والتي تبدت منذ دواوينه الأولى وأعلنت عن نفسها في القدرة على تجسيد المجردات, والوصول إلى المنابع الغريبة غير المألوفة للصورة, ثم القدرة على تنمية اللقطة الأولى والتصاعد المحكم بها حينا, أو مفاجأة المتلقي في تقنية أخرى بالبدء من نقطة مدببة تمثل أعلى الصورة وقمة ذروتها وتحدث أثرها في الإدهاش والإبهار.

ففي ديوان عاشق من إفريقيا" ـ 1964, يتجسد أمامنا الندم وتتجسد الكآبة فتسيران على قدمين, فالندم:

يولد في أعماقنا كالشجر الغريب
يكبر مرتين قبلما نراه
كما تهب فجأة سحابة المغيب
والشمس مازالت تبارك الحياة
نصبح أعينا ترى ولا نرى
جامدة مثل عيون ميتين

أما الكآبة, فإنها تمشي في الطريق عارية:

كانت كآبتي مثلي, تمشي في الطريق
عارية بلا قناع
مشقوقة القدم
كانت كآبتي انت, وكان الحزن والضياع
كان الصمت والنوم

وإذا كانت الصورة عند الفيتوري تأخذ أحيانا اللقطة التي تغرس أمام عيني المتلقي ثم تكبر وتتنامى على مشهد منه, فتحس أنها جزء منه وأنه جزء منها, وتلك تقنية شائعة عند الفيتوري وعند كثير من الشعراء في مثل قوله من قصيدة "عاشق من إفريقيا" وهي من بدايات شعره:

صناعتي الكلام
ربما أثقل صوتي الضعف والرهبة أحيانا
فعاد لي صداه باكيا حزين المقلتين
حتى ليبكيني صدى صوتي
فأنحني أمسح فوق شعره وأضغط اليدين
وأشرب الدموع من عينيه الطفلتين
ويثقل الكلام في فمي
مثل جذوع الشجر القديم

إذا كانت هذه التقنية شائعة لديه, فإنه يلجأ أحيانا أخرى إلى تقنية البدء بالرأس المدبب في الصورة, والاعتماد على الإدهاش والمفاجأة ثم الهبوط منها إلى قاع المشاعر:

لما انغرس الخنجر في الصدر العاري
وتوهج قنديل الدم
وانكسرت آنية الرغبة
سقطت أجنحة الطير العائد من أرض الغربة

العاشق والمتصوف

إن صورة الإبحار في الذات عند الفيتوري وهي الصورة التي تقيم جسرا بين العاشق والمتصوف, لاتبنى وحداتها دائما من دلالات لغوية نثرية واضحة ومع ذلك فإنها لاتتركنا في ظلمة الغموض المطبق, إنها تقدم أحيانا مايمكن أن يسمى بـ "الغموض الواضح" عندما يكون همها أن تدخل بنا في مناخ خاص لاتستطيع الكلمات عادة أن ترسم ملامح حدوده الصارمة, وتكتفي الكلمات بالإيماء التعزيمي, وهو إيماء تعود عليه الشعر من خلال اقترابه من السحر والكهانة زمنا طويلا وفي هذين الفنين لاتؤدي الكلمات تأثيرها من خلال مدلولاتها المباشرة, بقدر ما تؤديها من خلال تجاورها في الذات والولوج بنا إلى آفاقها:

لملائكة تتعانق خاشعة في مراياي
ذائبة في شموع التراتيل
مائدة من بنفسج روحي
ولى أفق من طيور اللقاليق
ينصب أعراسه البرية حولي
إذا دخل الليل في الليل
يلبسني في الدجى قمرا ميتا

إن هذا الإبحار هو الذي يصنع للشاعر أجنحته التي يستطيع من خلالها أن يصل إلى آفاق أعمق في جولاته الصوفية التي تسم كثيراً من لوحاته الأخيرة:

لم أجد غير نافذة في سمائك
مبتلة بدموعي
فألصقت عيني فوق الزجاج
لعلي أراك
لعلك تبصرني, وأنا هائم
مثل سرب من الطير منهمك في مداك

إن أنماط القصيدة عند الفيتوري عرفت كثيرا من الهياكل الفنية, ابتداء من القصيدة القصيرة, إلى اللوحات المتجاورة, إلى الحواريات, إلى القصيدة ذات النفس الطويل, إلى القصيدة الدرامية, إلى "شظايا" الصور المتناثرة المشعة, وأثبت الفيتوري خلال هذا كله أنه واحد من أكثر الأصوات الشعرية عمقا وشموخا في تاريخ الشعر العربي المعاصر, ومن أكثرها نجاحا في التوفيق بين متطلبات الفن الراقي والاستجابة لظمأ جمهور الفن المتعطش, وأثبت حقيقة أنه لايقلد أحدا ولايستطيع أن يقلده أحد.

 

أحمد درويش

 
  




محمد الفيتوري





أحد دواوين الفيتوري





غلاف ديوان آخر