آخر المخترعين العرب

آخر المخترعين العرب

في القرن السادس عشر الميلادي, عاش تقي الدين الراصد, كان قاضيا من قضاة الدولة العثمانية, لكنه كان عاشقا لعلمين: علم الفلك, وعلم الحيل الروحانية, أو بلغة عصرنا: علم الهندسة الميكانيكية التطبيقية, فشيد مرصدا كان أول وآخر المراصد في الدولة العثمانية, ومنح معظم حياته لمخترعاته الميكانيكية, فاستخدم طاقة البخار لأول مرة وقبل أن يكتشف الغرب طاقة البخار بمائة وسبعين عاما, وصمم ساعات ميكانيكية تدور بالمسننات "التروس", وابتكر مضخة ذات أسطوانات ست, تعمل على التتابع, فيتدفق منها الماء دون دفق أو تقطع, وتعمل بطاقتي الماء والهواء. وكان تقي الدين آخر علماء الهندسة الميكانيكية المخترعين في العالم الإسلامي, وبدايات عصر النهضة الأوربية الحديثة, وكانت مضخته المبتكرة الجّد الأول للمحرك الميكانيكي الحديث.

انهيار.. وحصاد

كان القرن السادس عشر قرنا عجيبا بالنسبة للأوربيين, لكثرة ما فيه من اكتشافات علمية وجغرافية, لكنه كان قرنا رهيبا بالنسبة للعرب والمسلمين, لكثرة ما كان فيه بينهم من حروب, وصراعات مذهبية, وجفاف في منابع الإبداع الفكري والفلسفي والعلمي, وسيطرة آراء الأشاعرة الفقهية والعقائدية النقلية, واتجاهات التصوف الغزالية التي انتشرت بين عامة المسلمين وخاصتهم. وكان المناخ الثقافي في هذا القرن لا يبشر بظهور أية عبقرية علمية مبدعة, خاصة في علوم الدنيا.

لكن الحصاد الثقافي والعربي: الديني والدنيوي, الذي كان إنجازه قد تم بصورة كبيرة, إلى القرن الرابع عشر الميلادي, تأليفا وترجمة, وتمثلا وإضافة, كان موجودا لايزال بين الأيدي, برغم الكارثتين الثقافيتين اللتين نزلتا بالكتب العربية, والمكتبات العربية العامة والخاصة في بغداد على أيدي التتر, وفي الأندلس على أيدي الفرنجة.

وبين التراث العلمي لهذه الإنجازات كان التراث اليوناني المترجم والمعرب, في علم الحيل, لإنجيلوس, وأرخميدوس, وأبلونيوس, وهيرون, ومورخس, وكان التراث العربي المؤلف في علم الحيل, والمضاف إلى حصاد هذا العلم منذ القرن الثاني الهجري, الثامن الميلادي, لأحمد بن شاكر, عن الآلات المتحركة بذاتها, والساعات الرملية والمائية, ولثابت بن قرة (ت801) ونظريته في أن الرافع يمكن أن يظل متوازيا بديناميكا القوة, وابن فرناس (ت837) بآلته الميقاتة لقياس الزمن وبصنعه للزجاج من الرمال والحجارة, ولابن يونس (ت1009) بابتكاره للبترول, ولابن الهيثم (ت1039) بنظريته في تصادم الأجسام, وللبيروني ت(1048) بآرائه في ميكانيكا المواقع, وللخازن (ت1115) باختراعاته في الموازين, وريادته لقياس الضغط الجوي, وتطبيقه لنظريات أرشميدس في المواقع على الهواء, ولابن أبي الصلت (ت1143) بابتكاراته ونظرياته في الروافع, ولابن الرزاز الجزري (ت1205) بساعاته الميكانيكية, وآلاته المتحركة بذاتها, والذي كان ثالث عبقرية هندسية عربية مخترعة بعد أحمد بن شاكر والخازن, ولابن مسافر (ت 1251) واختراعاته لتحسين عمل السواقي على نهر العاصي, وإدارتها بقوة المياه لا بوساطة حيوان, وللآمدي (ت 1312) واكتشافاته لطريقة برايل لقراءة المكفوفين. وكانت هناك كتب وآراء أخرى نظرية وتطبيقية في الهندسة الميكانيكية لعلماء وفلاسفة مسلمين آخرين, من بينهم: الكوهي, والفارابي, وابن سينا, وابن لوقا والجلوكي, وفخر الدين الرازي.

وبهذا التراث اليوناني والعربي في علم الحيل أتيحت الفرصة لتقي الدين الراصد, وهو طالب يدرس بحلقات العلم بالجامع الأزهر, ثم وهو قاض في مصر وفي نابلس أن يدرس علم الحيل, ويعيد تجاربه الميكانيكية مختبرا صحة مقولات السابقين, قبل أن يضيف جديدا إلى هذا العلم, فكان بمثابة نبت بري, قدر له أن ينمو في وسط خراب سياسي, واجتماعي, وفكري يسود العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه. ولقد استطاع ذلك القاضي العالم. والمهندس الفذ, أن يكون رابع أربعة عباقرة عظام, في علم الحيل, وبعد فترة انقطاع في الرصد العلمي الهندسي لتطور الهندسة الميكانيكية العربية, دامت نحوا من قرنين, منذ وفاة الآمدي.

حياة تقي الدين

ولد تقي الدين بن معروف الراصد الشامي, في مدينة دمشق, عام 932هـ, 1525 ميلادية, وتوفي عام 993هـ 1585 ميلادية. بمدينة القسطنطينية. وقد نشأ تقي الدين في بيت علم, فأبوه كان قاضيا, ومثل أبيه صار تقي الدين قاضيا, وكان القضاء يعد أكبر وظيفة يمكن لأرباب العلم العرب, أن يتولوها في ظل الحكم العثماني. ويبدو أن تقي الدين قضى فترتين من حياته في مصر, وفترة أخرى في نابلس, قبل استقراره, في حاضرة الخلافة العثمانية. وكانت لتقي الدين علاقة وثيقة بوالي مصر العثماني منذ عام 1549, وعمل في خدمته, قاضيا, ومخترعا يضيف الجديد في قصره من اختراعات في علم الحيل. ولقد انتهى تقي الدين من تحرير كتابيه: (الطرق السنية في الآلات الروحانية) عام 1552, و(الكواكب الدرية), عام 1559, وهو بصحبة الوالي التركي علي باشا, والي مصر, قبل أن يعين هذا الوالي صدرا أعظم عام 1560, ولهذا الوالي أهدى تقي الدين كتابيه, وهما أهم كتابين له في علم الحيل.

وفي عام 1566 ألف تقي الدين وهو قاض بمصر كتابه في علم الساعات "ريحانة الروح في رسم الساعات على مستوى السطوح", ثم نسخ منه نسخة أخرى بخط يده, وهو قاض بنابلس عام 1568.

ولقد كان تقي الدين دائم التردد مع أخيه على عاصمة الخلافة العثمانية, وهو قاض بمصر, ثم وهو قاض بنابلس, ففي القسطنطينية, عام 1546, صمم تقي الدين مع أخيه, وعمره سبع وعشرون سنة, آلة تدور بقوة البخار لأول مرة في تاريخ العالم, ووضع فيها بحثا بعنوان: "آلة لتدوير السيخ الذي يوضع فيه اللحم على النار فيدور من نفسه من غير حركة حيوان". وانتقل تقي الدين إلى استانبول حوالي عام 1571, وانتسب إلى معلم السلطان سليمان القانوني, الخواجة سعد الدين, وأصبح تقي الدين من خواصه والملازمين له, وصار تقي الدين وبدعم من سعد الدين, رئيسا للفلكيين (منجم باشي), خلفا لمصطفى جلبي, في أواخر حكم السلطان الرهيب: سليمان القانوني وقبل تولي السلطان مراد الثالث الخلافة العثمانية, وفي تلك الفترة, أعد تقي الدين تقريرا للسلطان العثماني, شرح فيه أن الجداول الفلكية الموجودة (في العالم الإسلامي) أصبحت غير قادرة على تلبية متطلبات العصر في الأرصاد الفلكية, وأن الحاجة أصبحت ملحة لعمل جداول فلكية جديدة, تستند إلى المشاهدات الفلكية الجديدة. واستطاع تقي الدين بمساعدة الخواجة سعدالدين, معلم السلطان, أن يقنع الصدر الأعظم برغبته في إنشاء مرصد في استانبول, واستخدم الاثنان نفوذهما في إقناع السلطان مراد الثاني (1574 ـ 1595), بتأسيس مرصد جديد, تحت إشراف تقي الدين بن معروف الراصد واستجاب السلطان, ووافق الديوان (مجلس الوزراء على إنشاء المرصد ـ في استانبول) في أوائل عام 5751 ميلادية. وقد أورد المستشرق (سايلي) وصفا لهذا المرصد, في كتابه عن المراصد الإسلامية.

واستطاع تقي الدين في ثلاث سنوات أن ينتهي من بناء مرصد استانبول, وأن يجهزه بالآلات الفلكية. التي عرفتها من قبل مراصد بغداد, والقاهرة, وسمرقند, ومراغة, وآلات فلكية جديدة ابتكرها تقي الدين, وجمع تقي الدين لمرصده, المشتغلين بالفلك, والدارسين له, من أقطار العالم الإسلامي, وبدأ مع العلماء في رصد المشاهدات الفلكية الكاملة في العام نفسه, وفي أواخر ذلك العام ظهر شهب مذنب في سماء استانبول, فقدم تقي الدين للسلطان تفسيرا لهذه الظاهرة, وأخبره (كمنجم) بأنه سوف ينتصر على الصفويين في بلاد الفرس ولقد انتصر الجيش العثماني فعلا في هذه الحرب, لكنه مني ببعض الخسائر.

وحدث أن شاع في البلاد التركية مرض الطاعون, وتوفيت بعض الشخصيات المهمة في الدولة العثمانية في فترة قصيرة, وهزم الجيش العثماني في حصاره لفيينا, فخلق ذلك كله جوا سلبيا نحو المرصد, وغذى لدى الرأي العام, وبين الفقهاء والمتصوفة ميولا متعصبة, وانتهز هذه الفرصة شيخ الإسلام العثماني "قاضي زادة" هو وجماعته, وراحوا يُذكون الحملة المعادية للمرصد, وكان قاضي زادة في منافسة مع الصدر الأعظم محمد باشا, ومع الخواجة سعد الدين, وكان الجند الإنكشارية على ولاء لشيخ الإسلام, حتى ضد السلطان مراد الثاني, ولذلك كان من الميسور على شيخ الإسلام أن يدفع السلطان للأمر بهدم المرصد, وفوجىء تقي الدين والفلكيون, وهم منهمكون في مشاهدتهم الفلكية ليلا, بالجند الإنكشارية, يقتحمون عليهم مرصدهم, ويبدأون في هدمه وتدمير آلاته, لأنهم يتجسسون بها على السماء. حدث ذلك في عام 01580 ميلادية, ولم يكن المرصد قد أتم من عمره بعد أربع سنوات, لكن تقي الدين كان قد نجح في تسجيل بعض المشاهدات الفلكية, وتدوينها في كتابه "سدرة منتهى الأفكار", وكان قد فاز من السلطان مراد بمنحه راتب القضاة, عند إنشائه لهذا المرصد, وبمقاطعة (زعامة) التي تدر عليه دخلا كبيرا, وبتعيين أخيه (نجم الدين) حاكما لأحد السناجق.

وكان مرصد استانبول الذي هدم هو آخر المراصد الإسلامية المهمة, وكان هدمه شاهدا كبيرا على بداية عصر الانحطاط الثقافي والعلمي, في العصر العثماني ولحسن الحظ فقد كان العالم الفلكي (تيكوبراهي) قد أنشأ في مدينة أدرانيبورغ مرصدا فلكيا عام 1576, ومرصدا آخر في مدينة: ستيرنبورغ عام 1584, وظهرت في المرصدين, وفي المراصد العربية الأخرى التي أقيمت في القرن السادس عشر, بعض الأدوات الفلكية والمظاهر التنظيمية التي عرفتها المراصد الإسلامية.

ولم يعمر تقي الدين طويلا بعد هدم المرصد, فقد توفي بعد ذلك بخمس سنوات, وعمره ست وستون سنة, وتمكن في هذه السنوات الخمس من تأليف عدد من الكتب الجديدة.

وإثر تدمير مرصد تقي الدين في استانبول نظم الشاعر الشيرازي علاء الدين المنصور قصيدته المطولة: (شاهنشاهنامة), باللغة الفارسية, وسجل فيها بين ما سجله عن فترة حكم مراد الثاني وقصة مرصد استانبول ونهايته الحزينة.

كتب تقي الدين

أكثر كتب تقي الدين التسعة عشر, كانت في علم الفلك, ومن هنا كانت شهرته بالمراصد, وله في الفلك: "الدرالنظيم في تسهيل التقويم", و"سدرة منتهى الأفكار في ملكوت الفلك الدوار", و"فريدة الدر وجريدة الفكر", و"رجز في ربع الدستور المعروف بالمجيب", و"رسالة في الربع الشكازي", و"رسالة سمت القبلة", و"خلاصة الأعمال في مواقيت الأيام والليال", وله في الرياضيات: "ريحانة الروح في رسم الساعات على مستوى السطوح", و"بغية الطلاب في علم الحساب", و"كتاب النسب المتشاكلة", و"دستور الترجيح لقواعد التسطيح", و"شرح كتاب التجنيس في الحساب للسجاوندي", و"تحرير اكر تاوزدسيوس اليوناني المهندس", وله في الآلات الميكانيكية: "رسالة في علم البنكامات" "الساعات", وتعرف باسم آخر هو: "الكواكب الدرية في وضع البنكامات الدورية", وهو كتاب يبحث في الساعات الميكانيكية ذات المسننات (العجلات المسننة المعروفة بالتروس).

وله كتاب ذكره "حاجي خليفة" في كشف الظنون, ولم يرد ذكره عند أحد آخر من أصحاب الموسوعات العربية, ولم يذكره أي من المستشرقين: سوتر, أو بروكلمان, وعثر عليه العالم المهندس الدكتور "أحمد يوسف الحسن" في مكتبة "تشستر بيتي" في مدينة دبلن, ونشره مصورا, في دراسة مهمة له, من منشورات جامعة حلب, ونشرها معهد التراث العربي بعنوان: "تقي الدين والهندسة الميكانيكية العربية, مع كتاب "الطرق السنية في الآلات الروحانية من القرن السادس عشر", وهو أهم كتاب لتقي الدين بن معروف الراصد, في الهندسة الميكانيكية العربية. وقد زوده تقي الدين برسوم من عمل يده, وأعاد الباحث الدكتور أحمد يوسف الحسن رسم هذه الرسوم بطريقة حديثة. وترجع أهمية هذا الكتاب, إلى وصفه للآلات الميكانيكية التي استحدثت في العالم الإسلامي بعد عصر ابن الرزاز الجزري, وإلى أنه كتب في نفس فترة عصر النهضة في أوربا, وقبل نشر أجريكولا لكتاب مماثل في أوربا بأربع سنوات, وقبل نشر "راميللي" لكتاب مماثل في أوربا بست وثلاثين سنة, بل إن تقي الدين قد وصف في كتابه أنواعا من الآلات الميكانيكية المهمة قبل أن يرد وصف ما يماثلها في المراجع الغربية المعروفة حتى الآن. وفي كتاب "الطرق السنية" لتقي الدين, نجد وصفا لحق القمر, أو علبة القمر, وهي ساعة فلكية ميكانيكية كانت معروفة في التكنولوجيا الميكانيكية العربية, وتشابه في تركيبها الساعات الميكانيكية الحديثة, ونجد وصفا لأربع بنكامات (ساعات) مائية ورملية كانت شائعة الاستعمال في الحضارة العربية, قبل ظهور الساعات الميكانيكية, ونجد وصفا لثلاث آلات هي: الرافعة, التي تعمل بالدواليب المسننة (الأوناش), والرافعة التي تعمل بالبكرات والحبال, والرافعة التي تعمل باللولب (الحلزون). ونجد وصفا لأربع آلات لدفع الماء (المضخات) وإحداها أخطر ابتكار اخترعه مهندس في كل العصور, ونجد وصفا لآلات عمل الزمر الدائم والنقارات, والفوارات, والآلات المتحركة بذاتها, ونجد وصفا لآلة (السيخ الذي يوضع فيه اللحم على النار), فيدور بنفسه بقوة البخار, (المندفع من عنفة (فوهة), إبريق من النحاس المفرغ المسدود الرأس, المملوء بالماء وقبالة بلبلته فراشات الدولاب (ملاعق مروحة) والنار موقدة تحت الإبريق, فيندفع البخار من البلبلة, ويحرك الفراشات, فتدير مسننا, ويدير هذا مسننا متعامدا عليه, ويدير ذاك سيخ الشواء وإذا فرغ الماء من الإبريق, قرب إليه ماء بارد في إناء, بحيث تغطس بلبلة الإبريق فيه, فيجتذب بحرارته جميع ما في الإناء من ماء ثم يبدأ بدفعه بخارا إلى الفراشات). وكان ذلك الوصف مع التصرف في الصياغة, هو أول وصف لعنفة بخارية, سبق به تقي الدين العالم برانكا عام 1629, ومع ذلك فقد كانت آلة برانكا غير قابلة للتطبيق العملي إلى أن جاء ويلكنز عام 1648, ووصف وصمم أول آلة لتدوير السيخ بوساطة العنفة البخارية عام 1648, أي بعد تقي الدين بنحو من مائة عام, كما يقول المستشرق نيدهام.

رائد عصر المضخات

وصف تقي الدين في كتابه: "الطرق السنية" أربع آلات من آلات رفع الماء من باطن الأرض, أو من نهر أو بحر, بوساطة المضخات:

المضخة ذات الأسطوانتين المتقابلتين وقد وصفها ابن الرزاز الجزري عام 1206 قبل تقي الدين, وأعاد وصفها ورسمها تقي الدين, وعدها مؤرخو العلم والتكنولوجيا كما يقول "نيدهام" إنجازا مهما في تاريخ الهندسة الميكانيكية, في مستهل القرن الثالث عشر وقد أزال تقي الدين في وصفه ورسومه لهذه الآلة, الغموض الذي اكتنف وصف الجزري لها, وأخطاء الرسم التي ارتكبها الناسخون ووقع فيها غربيون حاولوا وضع تصور صحيح لهذه الآلة, وهم يعملون نموذجا عاملا لها, بينهم بورستال, وفيديمان, وهادسر , وقد عد مؤرخو العلم هذه المضخة الجّد المباشر للمحرك البخاري الحديث.

والمضخة الحلزونية (الطنبور), وقد وصفها تقي الدين ورسمها, ولم تكن قد وصفت من قبل في كتب المهندسين العرب السابقين لتقي الدين, ربما لأنها لم تكن مستعملة وشائعة إلا في معظم أراضي البحر المتوسط الإفريقية والأوربية, قبل الفتح العربي, وينسب ابتكارها لأرخميدس, ولم تكن هذه المضخة مستخدمة مثل مصر في سوريا والعراق, وكانت المضخة الحلزونية المستخدمة في مصر تدار بذراع ذات مرفق من أعلاها, وقد وصفها كيسر عام 1405. أما المضخة الحلزونية التي وصفها تقي الدين فتدور بوساطة دولاب مائي, عن طريق زوج من المسننات المتعامدة, وهو أمر ذو أهمية خاصة في تاريخ الهندسة الميكانيكية, وأقدم وصف لهذه المضخة الحلزونية يرجع إلى كاردان عام 1550, وتقي الدين 1551, وراميللي 1588 أي أن تقي الدين كان من أوائل المهندسين العالميين الذين وصفوا هذه الآلة المائية. وتذكر المراجع الحديثة في تاريخ التكنولوجيا, أن المضخة الحلزونية قد استخدمت في أوربا على نطاق واسع, وخاصة في أعمال صرف المياه, وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر. وأنها كانت تدار بدواليب الهواء.

ومضخة الحبل ذي أكد القماش, وصفها تقي الدين بدقة ورسمها ولا يوجد وصف ولا رسم لها قبل تقي الدين عند المهندسين العرب. وقد سبق تقي الدين المهندس العربي أجريكولا بوصفه هذا ورسمه بأربع سنوات. وهي من المضخات ذات المكبس, والتي لا تمتص الماء إلا من أعماق قليلة يحددها الضغط الجوي, ولذلك بحث فيها إلى الحبل, أو الزنجير الحامل للولاء, أو إلى مضخة الحبل ذي أكد القماش, المثبتة بالحبل أو الزنجير على مسافات متساوية, فتمتص كل منها الماء وتدفعه أمامها ويمكنها أن تصل إلى أعماق كبيرة حتى 72 مترا في جوف الأرض.

والمضخة ذات الأسطوانات الست, وصفها تقي الدين بدقة ورسمها, وهي أهم الآلات المائية, ولا يوجد في كتابي أجريكولا وراميلي, وصف لمضخة مماثلة, كما لا يوجد أحد من المهندسين العرب وصفها قبل تقي الدين. وهناك أهمية كبيرة لكل من المضختين: ذات الأسطوانتين المتقابلتين, وذات الأسطوانات الست, ومع أن الطاقة أو المطرقة الساقطة كانت معروفة لدى هيرون الإغريقي, ولدى الصينيين في المضخة الكابسة, فإن تصميم تقي الدين ينفرد بأنه استخدم كتلة الأسطوانات الست على خط واحد لأول مرة, فكانت الجد المباشر للمحرك الحديث ذي الأسطوانات الست, الممتد على صف واحد, والمخروط في قطعة واحدة, واستخدم عمود الكامات بستة نتوءات موزعة بانتظام على محيط الدائرة, بحيث تعمل الأسطوانات على التوالي, ويستمر تدفق الماء بصورة منتظمة, دون دفق أو تقطع وقد أدى مفهوم التوازن الديناميكي الحديث في مضخة تقي الدين هذه إلى صنع المحركات والضواغط الحديثة المتعددة الأسطوانات. وقد اصطنع تقي الدين في مضخته هذه ثقلا من الرصاص على رأس قضيب كل مكبس يزيد وزنه على وزن عمود الماء, الموجود داخل الأنبوب الصاعد إلى الأعلى وفيما بعد وفي عام 1675 صمم مورلاند بعد تقي الدين بمائة وخمسة وعشرين عاما مضخة مثل مضخة تقي الدين, ووضع فوق المكبس أقراصا من الرصاص, حتى يعود المكبس إلى الهبوط, ويدفع الماء بتأثير ثقل الرصاص إلى العلو المطلوب. وكانت كل هذه المضخات تدار بدواليب الماء.

 

سليمان فياض