روائع فنية من قصاصات القماش

روائع فنية من قصاصات القماش

ظهرت الفنانة "ليلى الحكيم" في حركة الفنون الجميلة المصرية عندما أقامت معرضها الأول عام 1989, كان ظهورها مفاجئا, لأنها قدمت أعمالا ناضجة تتميز باتقان ملحوظ لجوانب في الفن تحتاج إلى خبرات طويلة, مستخدمة أسلوبا في التشكيل غير معتاد, فأثارت الدهشة والتساؤل بين نقاد ومتابعي الفنون الجميلة المصرية, وقد استقبلت معارضها بتكريم وحفاوة رسمية تمثلت في قيام حرم رئيس جمهورية مصر العربية بافتتاحها.

الفنانة "ليلى الحكيم" من سيدات المجتمع بالقاهرة, فهي تنتمي إلى أسرة عريقة لمع من أبنائها عدد من المبدعين على رأسهم الأديب والكاتب الكبير توفيق الحكيم, والشاعر إسماعيل صبري, وكلاهما من العمالقة الذين افتخرت بهم في بداية حياتها, وكانت قامتها المرتفعة في المجال الثقافي عاملا منشطا في تنمية وتوجيه مواهب "ليلى الحكيم" الفطرية, وكان من الطبيعي أن تتجه في البداية إلى الإبداع الأدبي.

تلقت تعليمها الثانوي في مدرسة "كورموران", وهي من المدارس الفرنسية الثانوية للبنات المخصصة للصفوة في مصر.. بعد هذه الدراسة أقامت لمدة عام في كندا مع أسرتها, ثم انتقلت إلى فرنسا حيث التحقت بجامعة السوربون في باريس لتتلقى دراسات في "الفن والحضارة خلال القرن العشرين".

وابتداء من عام 1959 عرفت في مصر كشاعرة وكاتبة قصة قصيرة, كما أعدت وقدمت برامج مختلفة لعدة سنوات في الإذاعة المصرية حول الشعر والحياة الأدبية والفنية, ولشغفها بالموسيقى الكلاسيكية كانت تقوم باختيار روائع منها لتذاع ضمن برنامجها الأسبوعي يوم الاثنين, وكان يتابعه أصحاب الثقافة الفرنسية, فينتظرونه في العاشرة مساء ليسهروا معه حتى منتصف الليل.. في تلك الفترة نشرت الفنانة مجموعة من الشعر والقصص القصيرة بالفرنسية, فقد كانت تعبر عن مشاعرها بالكلمة.

معروف أن جوهر الفن واحد, لكنه يتجسد في عدة أشكال, ويتجه كل فنان إلى الميدان الذي يتلاءم مع موهبته وميله الغريزي.. ولهذا يمثل تحول الفنانة من الأدب إلى التشكيل نوعا من الاستمرار في الإبداع الفني وإن كان في ميدان جديد, فهي لم تبدأ من الصفر وإنما اعتمدت على رصيدها الكبير في المجالات الأدبية التي خاضتها بنجاح.

جمع التحف النادرة

يضم المناخ الذي تعيش فيه الفنانة يضم مجموعة من التحف الفنية النادرة, فهي تحتضن في بيتها عددا من الروائع الفنية التي تؤكد ذوقها الرفيع وقدرتها على الاختيار, ولديها مجموعة كبيرة من لوحات الفنان الموهوب "حسن سليمان" إلى جانب لوحات فنانين آخرين, لهذا يمثل هذا المناخ الفني مدرسة في التذوق الفني.. ويذكر تاريخ الفن الفرنسي أن الفنان "بول جوجان" كان من هواة جمع اللوحات الفنية وخاصة لوحات الفنانين التأثريين, وأن هذه الهواية هي التي دفعته إلى الرسم, فأصبح جوجان رائدا لفكر وفلسفة فنية تبنتها جماعة "النابيز" The Nabists من بعده.. الذي يهمنا في هذا الأمر هو أن المناخ الثقافي والأدبي الذي عاشت فيه "ليلى الحكيم", بالإضافة إلى مختاراتها من التحف الفنية ولوحات كبار الفنانين, وفر لها مناخا ثقافيا دافئا يتميز بالأصالة والعراقة والجدية, فانعكس ذلك على إنتاجها.

وفي لوحاتها اتجهت إلى تحويل الشعر المنظوم الأدبي إلى شعر تشكيلي مرئي, يتجلى في التوافق الباهر في توزيع الألوان وتحقيق الحوار بينها وكأنها موسيقى تشكيلية.

النسيج المضاف

تعتبر لوحات الفنانة نوعا جديدا في معارض الفنون الجميلة, وإن كانت طريقة التشكيل لها جذور تنتمي إلى الفن الشعبي, وإلى الفنون التطبيقية, وإلى أسلوب "الكولاج" في الفن الحديث.

أسلوب صياغة لوحاتها يشبه "الفسيفساء" "أو الموزاييك", وتقترب في الوقت نفسه من أعمال "القص واللصق" "أي الكولاج", لكنها تختلف عنهما في الخامة المستخدمة, فالفسيفساء خامتها الأحجار أو القطع الخزفية الملونة, بينما "الكولاج" يستخدم الأوراق المطبوعة المتعددة المساحات والأشكال, وأحيانا يضيف الفنان خامات أخرى غير ورقية, في حين تتكون لوحات ليلى الحكيم من قصاصات الأقمشة الحريرية وما يشبهها من أنواع النسيج الفاخر الملون.

لهذا يعتبر إبداعها امتدادا ـ من ناحية الخامة ـ لفن "الخيامية" الشعبي الذي تقام منه "السرادقات" أو "شوادر" الأفراح في مصر.. وهذا الفن معروف في مجالات الفنون التطبيقية باسم فن "النسيج المضاف".

تجمع الفنانة قطعا صغيرة من الحرير والأقمشة المصنعة للملابس النسائية الفاخرة, وهي الفضلات التي تتبقى بعد تفصيل الملابس لدى محلات المودة والأزياء الشهيرة بباريس, كلها قصاصات مزخرفة ومزركشة ولامعة ومختلفة النقوش, منها "الموارية" و"التافتاه" و"الساتان" و"الأورجانزا".. بالإضافة إلى الأقمشة المطعمة بالخيوط الذهبية أو الفضية.

عندما تبدأ العمل يكون الصبر والدقة هما زادها, وتبرز طبيعتها الأنثوية, فهذه الصفات تتمتع بها معظم النساء, فتضع أمامها القصاصات المختلفة الألوان لتختار منها ما يناسب التصميم والموضوع,إنها المماثل للوحة ألوان الفنان "البالتة".. أدواتها هي الدبابيس والإبرة والخيط والمقص, فتقسم القصاصات إلى قطع صغيرة لاتزيد مساحة أي منها على بضعة سنتيمترات مربعة, وتوزعها على القماش المشدود إلى إطار خشبي "شاسيه", يمثل مساحة اللوحة التي تقوم بتشكيلها وتثبت هذه القطع الصغيرة على اللوحة بالدبابيس إلى جوار بعضها حتى يمتلىء الفراغ وتختفي الخلفية تماما.. وتتأمل التكوين المتحقق عدة أيام, تستبدل خلالها قطعة نسيج بأخرى تختلف عنها في اللون أو الملمس أو المساحة فهي تماثل لمسات الفرشاة, إنها ترسم وتلون وتقيم البناء التشكيلي "بالفسيفساء القماشية", حتى إذا رضيت عن الشكل وحققت التصميم الذي ابتدعته, تثبت كل قطعة في مكانها بالحياكة مستخدمة الإبرة والخيط, ثم تنزع الدبابيس.. وهكذا تكتمل اللوحة ولا يبقى إلا شدها داخل الإطار كعمل فني متكامل.

وأسلوب ليلى الحكيم رغم جدته وطرافته وأصالته فإن جذوره في الفن الحديث تمتد إلى بدايات القرن العشرين عندما ظهرت المدرسة التكعيبية التي استخدمت قصاصات الجرائد والمجلات في عالم الرسم والتلوين, وسمى هذا التداخل بين خامات التلوين التقليدية وهذه الإضافات المستحدثة, سميت بفن "الكولاج", وقد بدأت مسيرة هذا التهجين على يدي الفنانين "بابلوبيكاسو" و"جورج براك".

في ذلك الوقت اعترض النقاد على إقحام هذه العناصر الغريبة على عالم الرسم, لكن مع مرور الزمن اعتاد المشاهدون هذا التقابل والصراع بين مختلف الخامات على سطح الأعمال الفنية, فتغيرت المفاهيم المتعلقة بخامة العمل الفني, بل وأصبح تغيير الخامات وتعديلها من مصادر فخر الفنانين المعاصرين, وذلك مع انتشار فكرة ضرورة التجديد والتغيير المستمر في أشكال الفن وخاماته, وأصبح هذا التغيير هدفا بعد أن كان وسيلة للتعبير عن المشاعر وطرح القضايا.

غابة من الألوان

هذه غابة من الأشجار المتعانقة الأغصان, وفي هذه اللوحة باقة زهور في إناء من البللور, وهنا مجموعة من الورد, وتلك تصور منظرا طبيعيا في مقدمته أرض صخرية, لكن الصخور من الحرير الطبيعي!! ألوان متجاورة ومتداخلة في إيقاع زخرفي, وكأنها تصور مهرجانا أو "كرنفالا" أو صواريخ الأعياد.

إن الإضافة التي تقدمها الفنانة ليلى الحكيم تتركز في نجاح تجربتها الشكلية في إخضاع هذه الخامة ذات الصفات "الديكورية" أو "الزخرفية" للاعتبارات التشكيلية, عن طريق التوصل إلى حلول جمالية أدت إلى تخفيف الصفات الزخرفية وتحويلها إلى وسائل تعبير تعمق الإمتاع السطحي الذي تحققه الزخرفة وتحوله إلى إمتاع جمالي يغوص في وجدان المتلقي, فلا يقتصر على دغدغة الحواس السطحية عند المشاهدين.

حوار مع الروائع العالمية

يمر بعض الفنانين بمرحلة في إنتاجهم يمكن أن نطلق عليها "الحوار مع الروائع الفنية السابقة".. وقد بلغت الفنانة ليلى الحكيم هذه المرحلة عندما أحست بخصوصية أسلوبها وتفردها في هذا الميدان, فاختارت بعض الروائع القديمة والمعاصرة لتعيد صياغتها بأدواتها المبتكرة, فنجد بين لوحاتها بعض رسوم وزخارف الموزاييك على جدران قبة الصخرة في القدس, وهي من روائع الفن العربي القديم في صدر الإسلام.. كما خاضت بأسلوبها حوارا مع لوحات الفنان ماتيس عندما أعادت صياغة عدد من لوحاته بأسلوبها وشخصيتها.

هذا الحوار مع الروائع السابقة نجد مثيلا له في تماثيل الفنان الرائد محمود مختار عندما قام بصياغة تمثال "شيخ البلد" ردا على التمثال الفرعوني الشهير المعروف بهذا الاسم, والذي يرجع إلى خمسة آلاف عام مضت.. ومعروف أن الفنان بيكاسو أجرى حوارا مع رسوم سلفه الفرنسي "آنجر" عندما انغمس في المرحلة المعروفة باسم المرحلة الرومانية أو الوردية ليعيد صياغة الأشكال ذات المظهر الروماني والذي كان يضعه الفنان آنجر أمام تلاميذه كقمة في التشكيل ليحتذوها.

وبرغم انتماء فن ليلى الحكيم إلى التطريز والحياكة الذي اختصت به ربة الأسرة أزمنة طويلة, فإنه يمثل اليوم خطوة في اتجاه التمرد على "اللوحة الزيتية" أو اللوحة التي ترسم على "حامل الرسم" لتحل مكانها أعمال فنية لها نفس قيمتها وقادرة على أداء نفس دورها في المجتمع ومرتكزة على تقاليد وخامات الفن الشعبي, إنها مساهمة إيجابية في إعادة الاحترام للفن التطبيقي والذي يمثل فن "النسيج المضاف" أحد فروعه التي أهملها الفنانون المعاصرون.

 

صبحي الشاروني

 
  




من وحي جزيرة موريشيوس - 1991





قبة الصخرة (الفسيفساء) - 1994





الفنانة ليلى الحكيم





لوحة الحي القديم - 1993





منظر طبيعي - 1991





أربع لوحات وحائط - 1995





منمنمات إسلامية - 1994





حوار مع الفنان ماتيس - 1990