الإسلام والغرب... ثقافة تحت الحصار؟

الإسلام والغرب... ثقافة تحت الحصار؟

المؤلف: جراهام إي فوللر
إيان أو ليسر

دراسات كثيرة حفلت بها المكتبة الغربية عن الإسلام من حيث هو حركة اجتماعية, وقوة فاعلة في حشد الجماهير, وقوة تأثير وتفاعل على ساحة الصراع العالمي خاصة بعد نهاية حقبة الحرب الباردة, وبداية ما يوصف أحيانا بعصر القطبية الواحدة ونهاية التاريخ. وتحاول هذه الدراسات استشراف مستقبل العلاقات بين الغرب الطامح في السيطرة والانفراد بزعامة النظام العالمي, وبين بلدان العالم الثالث بعامة ومن بينها البلدان الإسلامية التي تأمل في نهضة تكون معها قادرة على الإسهام الحضاري. ونجد العديد من السيناريوهات التي تضع في منظور غربي مختلف الاحتمالات لحركة المجتمعات الإسلامية, بل وتحاول حصر مشكلات المجتمعات واقتراح حلول لها على النحو الذي لا يتعارض مع مصالح دول الغرب.

ونلاحظ تنوع هذه الدراسات إلى حد التباين الواضح في تشخيص وتوصيف الظاهرة, وفي أسلوب المعالجة, أو في الرؤية المستقبلية التي تتراوح ما بين التشاؤم والتفاؤل من وجهة نظر الكتاب. إذ نجد من يقرر أن الإسلام السياسي دون العقائد الدينية جميعها ينذر بخطر الصدام مع الغرب على نحو ما نجد عن صمويل هانتنجتون في دراسته (صدام الحضارات؟) الذي يرى ـ شأن آخرين ـ أن البلدان الحدودية الإسلامية المتاخمة للغرب مرشحة بحكم الاحتكاك والتاريخ لأن تكون الطرف المناهض للغرب. وهناك من يرى أن هذه مبالغة مفرطة, أو يصوغ القضية في صيغة تساؤل على نحو ما نجد في كتاب (الخطر الإسلامي... أسطورة أم حقيقة؟) تأليف جون د. اسبوسيتو, والصادر عام 1993 عن دار أكسفورد ـ نيويورك.

معضلات معاصرة

والكتاب الذي نعرض له هنا صدر عام 1995 عن دار وست فيو برس لاند, وهو من تأليف اثنين من كبار المتخصصين في شئون الشرق الأوسط, الأول: جراهام إي فوللر الذي عمل أكثر من عشرين عاما في الحقل الديبلوماسي في الشرق الأوسط, خاصة تركيا, وهو مختص بالتنبؤ بأحداث الشرق الأوسط في المخابرات المركزية الأمريكية, وله العديد من المؤلفات. والثاني: إيان أو ليسر وهو من كبار أعضاء دائرة السياسة الدولية في مؤسسة راند, ومتخصص في الشئون الأوربية والبحر المتوسط. ويقع الكتاب في مائتي صفحة من القطع المتوسط مقسمة على عشرة فصول تتناول أساسا تصورات الغرب تاريخيا عن الإسلام وتراثها السياسي الطبيعي, وأيضا صورة الغرب تاريخيا ونفسيا عند المسلمين.

وهناك فصل عن المعضلات العصرية التي يفرضها العالم الإسلامي على الغرب, ويقابل هذا فصل من المعضلات المعاصرة التي يفرضها الغرب على العالم الإسلامي, ويناقش البعد الديني واحتمالات وشروط التضامن والتعايش بين العالمين الإسلامي والغربي, ويتبع ذلك بمناقشة البعد السياسي الطبيعي, والبعد الاستراتيجي لاحتمالات المستقبل. ويختم الكتاب بفصل أخير عن النتائج العامة التي توصل إليها المؤلفان إزاء الإسلام السياسي والعلاقات الدولية.

ويمثل الكتاب رؤية غربية, أو هو تحديد إحدى رؤى الولايات المتحدة الأمريكية لحالنا, إذ إنه صادر عن مؤسسة راند وهي من المصادر المعتمدة لصناعة القرار الأمريكي, وهي رؤية شأن جميع الرؤى, ليست الحقيقة كاملة أو مبرأة, ليس كل ما فيها صدقا, وليس كله زيفا, وهي في مجملها رؤية موجهة. إنها تخضع للسياق والمصلحة وزاوية النظر وأسلوب معالجة المعلومات وتأويل الأحداث..إلخ, ولكنها يقينا رؤية مهمة جدا, ليس فقط لأنها رؤية طرف مهيمن جبار, ولكن أيضا لأنها أولا تخصنا نحن, وتضع أحداث واقعنا في سياق مترابط مع قوى الفعل والتأثير محليا ودوليا, وتحاول تفسيره بل وتقترح علينا نهجا للتعامل معه.. إنها طرف حوار, حري بنا أن نستمع إليه, وأن نضعه في الحسبان إذا أردنا أن يكون بيدنا القرار في خضم علاقات القوى. ولهذا يتعين أن نقرأه بعقل ناقد, ونحاوره بفكر مفتوح مسئول يضع قضايا الأمة في بؤرة الاهتمام.

يبدأ الكتاب بمدخل يحدد فيه المصطلحات ومعالم البحث. ويقول إنه ليس هناك (إسلام) في ذاته له كينونة منفردة أحادية التكوين, وليس هناك (غرب). وإنما هذان مصطلحان من قبيل التجريد وقد شاع استخدامهما ولكنهما في نهاية الأمر يفيدان معاني مختلفة تماما باختلاف الناس والزمان والملابسات. ويقرر أن الهدف هو تبيان ما الذي نعنيه وما الذي لا نعنيه عند قولنا (مشكلة الإسلام والغرب). والشيء الذي يستثير الاهتمام هو الدور الفاعل للإسلام ممثلا في نظم الحكم الإسلامية وتيارات الإسلام السياسي على الساحة الدولية في حضور الغرب, وهو حضور كوكبي تمثله أساسا قوة الولايات المتحدة ثقافيا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا, وهي قوة, بنص كلام الكتاب, مهولة مقحامة, ولابد أن تولد نوعا من الاستجابة المضادة من جانب الأطراف الأخرى. ويقصد هنا القوى التي تحمل عباءة أو اسم الإسلام فتكون هي الطرف المقابل الذي يملأ فراغ المواجهة الأيديولوجية مع الغرب. إذ سوف تواجه المجتمعات الإسلامية شاءت ذلك أم أبت, كما يقول الكتاب, حقائق هيمنة النظام الدولي للرأسمالية والتجارة الحرة والدول ـ الأمة, والتطبيق الديمقراطي, والقيم الإنسانية المناظرة لأنماط التنمية الغربية. ويمثل الغرب محور هذا النظام الدولي بمجالاتها المتباينة. وليس هناك من عالم بديل يمكن للمجتمعات الإسلامية أن تعيش فيه دون أن تسلم نفسها اختيارا إلى حالة من التهميش الكاملة. ومن ثم لابد أن تكون لها استجابة ما إزاء هذه الأنماط والقيم التي تمثل تحديا واقعيا لها, وعنصر تفاعل إيجابا أو سلبا, أي عنصر صراع. ويعني هذا أيضا أن مهمة الغرب أو الولايات المتحدة ترويض هذا الخطر القادم لتصدر عنه استجابات متلائمة مع مصالح الغرب أي في اتساق مع ظروف الضرورة العالمية التي يفرضها الغرب.. هذا أو التهميش.

محاور أربعة

ولكن ما هي القضايا المثارة تحديدا بين الإسلام والغرب والتي تخلق تصورا عن مواجهة محتملة أوسع نطاقا؟ هناك محاور أربعة:

أولا يقرر الكتاب بداية أن العلاقات بين الإسلام والغرب لا تمثل بذاتها المجال المقبل للصراع الأيديولوجي العالمي. فالإسلام من حيث هو عقيدة ليس على طريق التصادم مع الغرب. ونلاحظ أن الكتاب يخطىء إذ يطابق بين المشرق والإسلام وبين الغرب والمسيحية مما دفعه إلى المقابلة بين الإسلام والغرب على نحو يحجب التمايز الحضاري والخصوصية الحضارية وارتباط هذه الخصوصية بالموقع الجغرافي والفعل الاجتماعي والدلالة الثقافية المعيشة وتاريخيتها باعتبار هذا كله الأساس المادي والروحي للصراع. ولكنه في جميع الأحوال يستخدم الإسلام رمزا لمصالح إقليمية مقابل الغرب رمزا لمصالح إقليمية متباينة. وبالفعل نجد الكتاب على خلاف هذه المقدمات يعود ليقرر (أن التمييز بين أوربا والأراضي الواقعة ناحية الشرق كأساس للتحليل السياسي والاستراتيجي, تمييز سابق تاريخيا على ظهور الإسلام على المسرح العالمي.. النظرة السائدة أن الأراضي الواقعة على التخوم الأوربية والبحر المتوسط باعتبارها حاجزا ومعتركا دفاعيا لصراع أبدي بين الحضارات). ويقول في موضع آخر (القضية ليست بين المسيحية والإسلام).

وجدير بالملاحظة هنا أن الكتاب يجعل من إسرائيل وحسن الجوار والتعامل معها محكا ودليلا على حسن سير وسلوك المجتمعات المشرقية المحيطة بها, ولإثبات حقها في أن تحظى بعين رضا الغرب... فضلا عن محاولة استثناء الولايات المتحدة من النتائج السلبية للصراع التاريخي بين حضارتي الشرق والغرب نظرا لحداثة النشأة تاريخيا للولايات المتحدة, ويخص أوربا وحدها بالطعن. وبذلك لا يضع الكتاب المواقف في إطار الصراع على النفوذ بين أوربا والولايات المتحدة, مع إغفال البعد التاريخي واختلاف نهج الهيمنة باختلاف العصور وأدواتها.

ثانيا ـ يتوقع الكتاب أن يعمد الإسلام السياسي إلى دعم القوةالحقيقية للدول المسلحة عن طريق دعم علاقات هذه الدول مع الدول الأقوى في الغرب, وذلك بهدف التعامل من أرضية تهيىء لها قدرا أكبر من المساواة بدلا من حالة الضعف الاستراتيجي. وهو ما يعني ضمنا أن الغرب سيكون إيجابيا مع الإسلام السياسي حالة تجاوبه هو الآخر وسعيه إلى دعم العلاقة معه.

ثالثا ـ يرجح الكتاب أن يطرد نمو دور الإسلام في مجال السياسة الداخلية للبلدان المسلحة. وأن الخروج إلى العملية السياسية والاندماج فيها هو وحده السبيل لكي يفقد الإسلام السياسي جاذبيته الراهنة. ويوضح أن أفراد نمو الإسلام السياسي اقترن بسوء إدارة بعض النظم الحاكمة لعملية الصراع الداخلي ضد هذا التيار المتشدد, وانفراد هذا التيار بالمعارضة بعد أن أخليت الساحة من قوى المعارضة الأخرى, واكتفاء التيار المتشدد بالشعارات العامة دون برامج سياسية اجتماعية اقتصادية عملية ومحددة نظرا لابتعاده عن معترك الحياة السياسية والتنافس على أرض الواقع إزاء قضايا مجتمعية وبرامج محددة.

رابعا ـ الفكرة المحورية الرابعة في هذا الكتاب تتعلق بضرورة حدوث تغير سياسي واقتصادي واجتماعي بمنأى عن النظم القائمة, ذلك أن الإسلام السياسي وهو الخطر الذي يتهدد بلدان المشرق أكثر مما يتهدد الغرب, إنما يستغل أسباب السخط والاستياء المحلية لصالحه. ولاسبيل إلى مواجهة هذا الخطر ومعالجته إلا عن طريق إدماج هذا التيار الشريد في داخل النظام السياسي ليتحمل عبء المشاركة في الحوار والتنافس على وضع الحلول وتحمل المسئولية. وهذه عملية معقدة تستلزم حذرا وبراعة. ذلك أن سوء معالجتها ـ كما يقرر الكتاب ـ قد يفضي إلى مزيد من زعزعة النظام السياسي. معنى هذا ضرورة احتواء تيار الإسلام السياسي. ووجه الخطأ والخطر فيما يختص بالإسلام السياسي أنه يفتقر إلى خطة سياسية أصيلة ومميزة تقدم حلولا محددة وواقعية لمشكلات محددة بعيدا عن الإشارات المبهمة إلى تعميم تطبيق الشريعة الإسلامية. ويقوم هذا دليلا على العجز عن تحديث الفكر الإسلامي لجعله أكثر اتساقا مع المعايير التشريعية الدولية وحقوق الإنسان والأقليات ومجموع القوانين العلمانية في المجتمعات المختلفة. وهذا هو شرط القدرة على تحدي مطلب التغيير والتحديث بناء على خطة استراتيجية مستقبلية يمكن طرحها للنقاش العام.

ويصل الكتاب إلى نتيجة مؤداها أنه من البيئة الاستراتيجية الجديدة لفترة ما بعد الحرب الباردة تتزايد ساحات التفاعل بين الإسلام والغرب سواء إلى الأسوأ أم إلى الأفضل. وأن حالة الاسترخاء التي طرأت على النظام العالمي, وحرية العمل الدولية الجديدة (وتعني في الأساس حرية الولايات المتحدة) استثارت ذكريات قديمة عمرها ألف عام من المواجهة والمعايشة بين الإسلام والغرب. وهذه الذكريات يستفيد منها المتطرفون, وتدعم الشعور بحالة الحصار الثقافي وأن المنطقة ضحية عدوان غربي. وبالمثل تتزايد الصور السلبية في الغرب بسبب هجمات الإرهاب. ولهذا فإن مشاعر الحصار متبادلة. والمرجح أن تتفاعل هذه الاحتكاكات مع انقسامات أشمل خاصة بقضايا الجنوب والشمال, والأثرياء والفقراء, ونظرا لأن حركة عدم الانحياز بدأت تفقد في رأي الكتاب, مبرر وجودها فقد ظهر الإسلام السياسي كقوة أيديولوجية في العالم الثالث. ولكن من المتوقع مستقبلا أن تتلاقى خطط السياسة الأمنية للعالم الإسلامي والجنوب وفق منظور غربي.

ضد التسليح

ويعارض الكتاب سعي الدول العربية إلى تسليح نفسها. ويحتج في هذا بحالة عدم الاستقرار داخل البلدان العربية. ولكنه لا يخفى أن ترسانات الأسلحة العربية تمثل تهديدا لإسرائيل ولأمن الغرب. وعلى الرغم من أن الكتاب يتخذ من الصراع العربي ـ العربي ذريعة لرفض تنامي ترسانات الأسلحة العربية, فإنه يعترف صراحة بدور الولايات المتحدة في تأليب الدول العربية ضد بعضها البعض تعزيزا لمصالحها, وترسيخا لأقدامها في المنطقة. ويكشف الكتاب بوضوح (فصل 3) تدخل الغرب سياسيا ودبلوماسيا وعسكريا ودعائيا لدعم نظم حاكمة ضد نظم أخرى لا ترضى عنها الولايات المتحدة.

ويثير الكتاب من خلال عرضه لظاهرة المجتمعات الإسلامية المحلية من الغرب قضية لها دلالتها وطرافتها جديرة بأن نتأملها على المستوى الابستمولوجي, ونتأمل معها منطقنا في تناول ظواهر حياتنا, فقد تطرقنا إليها وتطرقنا في الحديث عنها. فالملاحظ كما يرى الكتاب أن المجتمعات الإسلامية المحلية حيث تكون أقلية في المجتمع, تتحدث بلسان غير لسانها حين تكون هي الأكثرية مما يجعلنا نتساءل عن المعايير والمبادىء أو ما يوصف في الفلسفة بالآمر المطلق الأخلاقي وهو أن أطبق على نفسي ما يحسن تطبيقه على الجميع ناهيك عن ضرورة ذلك من آلية تطوير المجتمع.

يقول الكتاب: المجتمعات الإسلامية في الغرب تقف مع حرية الاعتقاد الديني والديمقراطية وحق التعبير والتسامح حيث الجميع مواطنون... ويبدو من ذلك بوضوح أن المجتمع العلماني هو المجتمع المفضل لدى المسلمين في الغرب.. إذ إما الاندماج في المجتمع على هذا الأساس الصحي, وإما العزلة أي إسلام الأقليات المنعزلة. وتدرك المجتعات الإسلامية المحلية في الغرب أهمية الحماية العلمانية لحقوقهم الدينية ومعتقداتهم السياسية, والمشاركة الإيجابية والندية.

لهذا نرى أن القضايا المثارة في الكتاب هي نقاط حوار نحن بحاجة إلى أن نناقشها في ضوء مصالحنا وحركتنا الاجتماعية, وأن نستقر على رأي بشأنها مثلما أننا بحاجة إلى أن نناقش العديد من القضايا الخلافية والملحة التي يعرض لها الكتاب والتي تمس صميم واقعنا, وتؤثر على حركتنا الاجتماعية على طريق المستقبل... ولكن أن تكون لنا لغة حوار مشتركة وأن تكون لنا مصادرنا وأدواتنا ومناهجنا ومراجعنا المعرفية التي تعتمد العقل حاكما وتقف بنا أكفاء على قدم المساواة مع الآخر.. أعني أن نكون أصحاب تفكير علمي هادف أولا, وإلا ضربنا في ظلمات, فتمضي الأجيال ونحن نراوح مكاننا.

 

شوقي جلال

 
  




غلاف الكتاب