مساحة ود

مساحة ود

الرحيل

لسدرة التي تقف كالبوابة في مدخل الزقاق الضيق ما زالت تقف شامخة لا تعبأ بكر الليل والنهار ولأنه كالسدرة، كنا "طويل العمر" . لقد طال به العمر حتى دفن بعض من جاءوا بعده!!

منذ أن استسلم للأمر الواقع وانتظم في صفوف المتقاعدين وهو لم يتخل عن عادتة اليومية في الخروج كل صباح، التقاعد - ذلك الاسم البغيض إلى نفسه - أفقده كثيراً من البهجة وكساه شيئاً من الانكسار، إنه في قمة الحيوية والنشاط لكن لا أحد يصدقه ! في الموعد الذي تحدده بدقة متنهية ساعته الفضية القديمة - التي ظلت وما زالت مرتبطة بمعصمه مده طويلة تزيد على الربعين عاما - ينهض من مجلسه ويرتدي ملابسة ويفتل شاربيه دون النظر إلى المرآة - كما كان يفعل من قبل - فقد بدأ يشك في مصداقيتها!

يخرج من بيته يحث الحطا وبيده الزنبيل والعصا منلقا كالسهم نحو الهدف، إلى "حلقة الخضار" التى لا تبعد كثيراً عن منزله فيشتري قليلا من اللحم وبعضا من الخضروات والفاكهة الطازجة. وفي طريق عودته لا ينسى المرور بالبقال ليضيف إليها مشتريات أخرى! عادة قديمة درج عليها منذ زمن بعيد! في البيت لا يحتاجون إلى هذه الأشياء كل يوم. كم ضجوا وكم تضجروا، لكن دون جدوى!

هذايوم جديد، الحرارة تشتعل منذ الصباح، والهواء محمل بالرطوبة كم يصعب التنفس في هذا الجو الخانق!

الرجل لا يهدأ، لا ينسى عادته ومشواره اليومي!

مابه؟ ماذا جرى له؟ ثمة شيء ما لا يدري كنهه ! إنه يفقد توازنه، يترنح، يكاد يسقط! هل من أحد يراه؟ فليتحامل على نفسه، لا، لا يستطيع مواصه السير، العرق يتصبب من جيبنه، بل من كل جسمه، الأشياء تتراقص أمام ناظريه، يلهث، يتنفس بصعوبه، ماذا يفعل؟

فليتمالك نفسه. عليه أن يتحمل حتى يصل إلى تلك الزاويه القصية، وصل إليها أخيراً، تلفت يميناً وشمالاً، نظرة إلى الأمام وأخرى إلى الخلف لا أحد . "شيء جميل" نطقها بارتياح برغم التعب والجهد، ثم وضع ما يحمله بحرص شديد وجلس ليستريح لكن شيئاً ما كان يقلقه فلم يطل المكوث فقام وتأهب لحمل أشيائه مرة أخرى ثم مضى في طريقه وهو يكابد ىلاماً غريبه.

عند مدخل الزقاق أبى الاتساع الكبير أن يلفت انتباهه، برغم وقوفه هناك ليسترجع بعض قواه ويصلح من شأنه! واصل سيره إلى البيت لا يلوي على شيء، وقف بالباب، رفع يده ليطرقه لكنه تراجع! نظر حوله كأنما يرى الدنيا لآول مرة! هل يدخل البيت؟ "ليس فيه ما يسر" منذ زمن وهو لا يطيق أهله، ولا هم يطيقونهّ أهو يعيش في عصر آخر؟ تنهد وأطلق الحسرات.

 

محمد عوض الأحمدي