أرقام

أرقام

لكن العرب يتقدمون

غير صحيح أن كل شيء في حياتنا قد أصبح سالبا, وأن الهزائم العربية في السياسة والاقتصاد هي ما يسيطر على الصورة العربية.

في الصورة نقاط بيضاء أو أوجه تقدم وتفاؤل.

صحيح, ومن المنظور التاريخي أن تراجعا قد حدث في قضايا أساسية مثل قضية الاستقلال, والتي بدأت مشتعلة في وجه قوى الاستعمار, وانتهت إلى نوع من التبعية في كثير من الأحيان.. ومثل قضية العروبة والقومية والوحدة, تلك التي ألهبت خيال الساسة والجماهير في الخمسينيات والستينيات ثم تراجعت حتى بات الحلم خافتا وباهتا وغير محدد المعالم.

وصحيح أيضا, ومن منظور الأحداث الجارية أن الصراع العربي ـ الإسرائيلي يميل لغير صالح العرب , وأن مشكلة الأمن القومي تتفاقم من المحيط إلى الخليج حتى باتت العسكرة وميزانيات الدفاع هما يثقل القلب والعقل.

وصحيح كذلك أن البلاد العربية قد شهدت ركودا اقتصاديا لسنوات طويلة, وأن نسبة النمو قد انخفضت في كثير من الأحيان عن (1%) سنويا.. بينما كان الفقر يحاصر الكثيرين من تلك الكتلة البشرية التي اقترب عددها من (250) مليون نسمة.

كل ذلك صحيح, لكن الصحيح أيضا أن الصورة ـ من منظور تاريخي ـ ليست بالغة القتامة.. العرب يتقدمون وهذا هو الدليل.

.. الأبناء أطول عمرا

قول تقرير التنمية البشرية الصادر في يوليو (96) عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إنه خلال الأربعين عاما الماضية عرفت الدول العربية نموا لم يسبق له مثيل في مجال التنمية الاقتصادية والبشرية. زاد خلال هذه الفترة العمر المتوقع للطفل عند الولادة وحتى عام 1993, بمقدار (17) عاما على العمر المتوقع لوالدي هذا الطفل.. وبما يحمله ذلك من دلالات تتصل بالتغذية والرعاية الصحية وظروف المعيشة.

تقدم كل ذلك.. فارتفع متوسط العمر المتوقع وبلغت الزيادة أرقاما قياسية وصلت إلى ثلاثين عاما كاملة في سلطنة عمان ويتوقف التقرير أمام مؤشرات لا تخطئها العين وتوضح: (كيف يعيش البشر).. فذلك, في النهاية, هو الفيصل في التقدم الاجتماعي والاقتصادي.. و.. يرصد الخبراء قفزة في مجال التعليم والخروج من دائرة الأمية. فخلال ثلث قرن بين عامي (60) و(93) زاد الإلمام بالقراءة والكتابة من (30%) إلى (53%) ممن بلغوا سن القراءة.. وكان نصيب المرأة في ذلك المجال كبيرا فزاد عدد من يعرفون القراءة والكتابة إلى ثلاثة أمثاله بين عامي (70) و(90).

ومن مجال الأمية إلى مجال التعليم المنظم, وخلال (80 و93) ارتفع معدل الالتحاق بالمدارس بالنسبة للجنسين من (47%) إلى (56%).. أما بالنسبة للمرأة وحدها فقد ارتفع الإقبال على التعليم الابتدائي والثانوي إلى نحو الضعف في مجمل الوطن العربي, بينما حققت دولة الإمارات على سبيل المثال نسبة نمو في إقبال الإناث على التعليم بلغت (869%) بين عامي (70) و(90).

القفزة إذن واسعة في مجال التعليم, ومثلها في مجالات أخرى يرصدها الخبراء كمؤشرات تقدم أساسية.

في مجال الغذاء, يحصل الفرد العربي على أعلى متوسط من السعرات الحرارية في العالم الثالث, وفي مجال الخدمات الصحية يحتل نفس المرتبة, وفي الحصول على المياه الآمنة النقية تقف المجموعة العربية في المرتبة الثانية من العالم الثالث بعد أمريكا اللاتينية.

ونتيجة لذلك انخفض معدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة إلى (7%) عام (90) وهو معدل يفوق الهدف العالمي حينذاك كما يقول التقرير.

في الوقت نفسه فقد تراجع مستوى الفقر وتحسن مستوى التوزيع وبينما يعيش 29% من سكان أمريكا اللاتينية و(15%) من سكان شرق آسيا بدخل يقل عن الدولار الأمريكي في اليوم.. فإن هذه النسبة تنخفض في دول عربية متوسطة الدخل مثل مصر والجزائر والمغرب وتونس إلى (6%) فقط.

ويقول برنامج الأمم المتحدة الإنمائي, واستنادا إلى هذه المؤشرات إن الوطن العربي قد شهد أكبر زيادة مطلقة في مؤشرات التنمية البشرية في العالم بعد شرق آسيا.

الصورة طيبة, وإن لم تخل من بقع سوداء.. فهناك ثماني دول عربية سجل فيها نصيب الفرد من الناتج عام (97) ما يعادل ما كان عليه في السبعينيات وما قبلها.. وهناك كما يقول خبراء الأمم المتحدة ـ عجز عن النمو المستدام.. وخلل في توزيع الإنفاق الاجتماعي واختيار المشروعات الاقتصادية المكثفة للعمالة مما يهدد بتزايد حجم مشكلة البطالة.

أيضا, هناك الانحياز الاجتماعي فاعتمادات التعليم تتجه للمرحلة الثانوية والجامعية بدرجة أكبر وهي مرحلة تتركز في المدن ويشغلها الأكثر قدرة وثراء.

نفس الشيء في خدمة العلاج حيث تذهب الاعتمادات الأكبر للمستشفيات الأكثر تقدما والأكثر انتماء لخدمة الأثرياء!

هناك إذن ـ وفي مجال البشرية ـ بعض السلبيات, لكن الإيجابيات ـ وبالنظر للتخلف في نقطة البدء ـ لا يمكن نكرانها.

استراتيجية التقدم

هناك تقدم.. والسؤال: كيف تم?

لقد اختلفت صورة المجتمع العربي من الأربعين عاما الماضية. اختلفت حياة الناس اليومية وضمت الأسرة عددا أكبر من الأصحاء والمتعلمين ووسائل الثقافة والترفيه والاتصال.

تحسنت الأحوال, وكان وراء ذلك العديد من العوامل أبرزها العامل الاقتصادي حيث توجهت كثير من الموارد ـ خاصة مورد النفط ـ لتحسين أحوال البشر.. فبلغ ما تخصصه السعودية على سبيل المثال للتعليم (10.6%) من إجمالي الناتج المحلي.. وبلغ ما تخصصه الكويت لهذا الغرض (5.1%).. و.. هكذا في مختلف الأقطار المنتجة للنفط ووفقا لإحصاءات التسعينيات.

ولكن, لأن التقدم شمل الدول النفطية وغير النفطية, فإن الأمر يحتاج إلى تفسير. لقد كانت أعوام النصف الثاني من القرن العشرين العربي هي أعوام الانتقال إلى عصر الاستقلال.. ومع الاستقلال تنشأ ثورة التوقعات والآمال وتنحاز النظم السياسية إلى ما يزيد إحساس الجماهير بأنها قد استفادت من نظم الحكم الوطنية.

في الوقت نفسه فقد انقسمت النظم السياسية العربية في الستينيات وجزء من السبعينيات إلى دولة نفطية رأسمالية قادرة على الإنفاق وراغبة في إحداث تقدم.. ونظم اشتراكية تستهدف التقدم الاجتماعي أيضا, برغم أن إمكاناتها الاقتصادية أقل شأنا.

كلا النوعين من الأنظمة استهدف التقدم وأحرزه بدرجات مختلفة.. وكانت العين على التعليم الذي لعب دورا مزدوجا فهو ناتج التقدم المادي والبشري وصانع له في الوقت نفسه.. التعليم.. سبب ونتيجة, بل إن الصحة أيضا تلعب نفس الدور.. تزداد تحسنا نتيجة للتقدم الاقتصادي والمادي.. ثم تسهم في دوران العجلة فتزيد الإنتاج والإنتاجية.

و.. من التعليم والصحة إلى وسائل الاتصال والترفيه والثقافة تسجل الأرقام نفس الظاهرة.. التقدم مطرد وحياة البشر تتحسن وإن اختلفت درجة التحسن من بقعة إلى أخرى.

إنها أربعون عاما حافلة شهدت الكثير من المعارك والكثير من النجاح والفشل.. وكانت معركة مستوى المعيشة وحياة البشر ذات نتائج طيبة.. بل وباهرة في بعض الأحيان.

إنه التقدم, يحدث برغم كل شيء

 

محمود المراغي