شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

دماء .. على ساحل الأطلسي

على الساحة الواسعة, المطلة على الساحل الأطلسي بين طنجة وأغادير, تتوقف المسيرة عند بقايا مدينة (القصر الكبير) حيث دارت معركة يسميها مؤرخو التحرير المغربي (معركة وادي المخازن) ويسميها أهل البلاد (معركة الملوك الثلاثة).

فهنا.. من أرض المغرب, دارت معركة رهيبة, يتحدث بها التاريخ, اختطف الموت خلالها أبطالها الثلاثة, السلطان أبو عبدالله المتوكل, والسلطان أبومروان عبد الملك المعتصم, والملك البرتغالي سباستيان الجالس على عرش لشبونة..!

تبدأ القصة مع تولي مولاي محمد المتوكل عرش المغرب بمدينة فاس عام 1573 خلفا لأبيه, دون أن ينجح في الفوز ببيعة العلماء ورضا أسرته ومحبة شعبه.

وبعد اعتلائه العرش بشهور, هب عمه مروان بن عبدالله لإقصائه عنه, فطرد ابن أخيه من العاصمة, ونادى بنفسه سلطانا ولقب بالمعتصم. واضطر المتوكل إلى الهرب لاجئا إلى مدينة مراكش, باحثا عمن يمكن أن يساعده على استرداد عرشه, خاصة بعد أن هجره رجال حاشيته, ولم يبق معه سوى بعض معاونيه, وأسيرة أبيه البرتغالية (بياتريس) التي رفضت الحرية يوم عرضها عليها, وآثرت البقاء معه.

راحت الأيام تمضي والمتوكل يواصل التفكير في طريقة يسترد بها عرشه, ولم يكن له من مشير سوى معشوقته التي كانت تبحث معه عن وسيلة تخفف بها عن الرجل الذي أحبته مأساته, وتحقق من خلالها رغبة متأججة في الانتقام من زوج خانها ولم تصرح باسمه قط, وكيف يمكن أن تقول إنه هو مروان بن عبد الملك المغتصب, الذي كان قد تزوجها في بلدها, ثم هجرها قبل أن تقع في أسر المغاربة?

راحت الفتاة تبحث في الأمر, حتى هداها تفكيرها إلى أن السبيل إلى تحقيق هدفيها هو إقناع فتاها الطريد باللجوء إلى البرتغال, والاستعانة بالملك سبستيان الجالس على عرش لشبونة لاسترجاع عرشه الضائع ولم تدع له الفتاة فرصة للتردد. وأقنعته أنها قادرة على الوصول إلى الملك البرتغالي والاتفاق معه على التعاون مع السلطان الطريد, على أن تغريه بضمان سيادته على السواحل المغربية, وتوسيع رقعة ممتلكاته بعد النصر!

وأسرعت الفتاة لتنفيذ ما تعهدت به, واتفقا على أن يلتقيا عند الساحل بالقرب من طنجة, ليركبا البحر متجهين شطر البرتغال.

وتعاقد السلطان الهارب من المغرب, مع الملك الطامع في احتلال المغرب.

لقاء الخيانة

تمت تعبئة الجيش البرتغالي, وأعدت العدة للحرب وأقلعت السفن البرتغالية بالجملة التي ضمت جنوداً مرتزقة من الألمان والإيطاليين والإسبان, فضلا عن أنصار استطاع المتوكل أن يضمهم إليه على إثر نزول الجيش البرتغالي إلى البر المغربي بين طنجة والعرائش.

واستولى الغزاة على هاتين المدينتين بعد قتال شديد.وأعد مولاي السلطان أبو مروان عبد الملك المعتصم عدته لمواجهة الخطر الزاحف. ودارت رحى القتال بين الفريقين. وقرر المعتصم أن يضرب ضربة قوية أراد أن تكون القاضية. فعهد إلى أخيه أبي العباس أحمد أن يجمع له ما استطاع من رجال الحرب ومن معدات القتال. وقصد على رأس جيش ضم كل قواته إلى حيث كان سبستيان وحليفه السلطان المعزول وأنصارهما يرابطون في السهل الممتد حول مدينة (القصر الكبير).

وقبيل بداية المعركة الكبرى فوجىء السلطان المعتصم بمرض أقعده عن الحراك, ومنعه من أن يتولى بنفسه قيادة المعركة. ولكنه أمر بإعداد محفة ورقد عليها, وأشرف من فوقها على تطور الحالة لحظة بلحظة.

وعهد السلطان إلى أخيه أبي العباس أحمد بأن يتولى القيادة, فنشر أحمد جيشه تجاه العدو وفقا لخطة استوحى تفاصيلها من كيفية انتشار البرتغاليين وحلفائهم في السهل.

وكان المغاربة هم البادئين بالقتال, فصبوا نيران مدافعهم على جناحي العدو, ثم انطلق فرسانهم إلى الميدان.ودارت المعركة, سالت فيها الدماء أنهاراً. وتضعضعت صفوف الفرسان البرتغاليين, فانطلقت خيولهم في السهل وعلى السفح على غير هدى, وانطلقت في أثرها خيول المغاربة في مطاردة رهيبة.

كان عدد المغاربة خمسين ألفا, ولكن البرتغاليين وحلفاءهم كانوا مائة ألف, بينهم بضعة آلاف من الفرسان, ومعهم ستة وثلاثون من المدافع الضخمة.وجاء دور المشاة بعد الفرسان, وتقارعت السيوف والدروع, والسلطان عبد الملك يتابع من محفته في ارتياح ما يحققه رجاله من انتصارات, واستشعر أن النصر أصبح له لا محالة, فأغمض عينيه وقد أنهكت قواه ولكن عينيه كانتا في ذلك الوقت تستسلمان.

إخفاء خبر الوفاة

اقترب مروان من محفة السلطان ليبلغه أخبار النصر, ولكن ما رآه جعله يتراجع لفوره, ويسدل ستائر المحفة, وينادي أربعة من حراسه, ويأمرهم بألا يسمحوا لأحد بالدخول على السلطان الذي يريد أن يستريح بعد إجهاده الطويل.

ولكن السلطان في الواقع كان قد أغمض عينيه إلى الأبد.

ولكي يخفي الخبر ويشغل الجنود والمعركة لاتزال محتدمة, رفع مروان عقيرته في لهجة آمرة:

ـ إلى الأمام يا أبطال المغرب, مولانا عبد الملك المعتصم يأمر الجيش بالزحف, وإلقاء العدو في مياه النهر.وهجم الجيش المغربي بكل قوته على الفلول المنسحبة من جيوش الأعداء. وضرب القائد أبوالعباس أحمد ضربته القاضية. وتشتت الأعداء فقتل معظمهم, وفر القليلون الباقون على قيد الحياة وهم لايلوون على شيء.

كان النصر تاما كاملا شاملا, لكن الموت حصد في تلك المعركة رءوس القادة الذين تسببوا فيها.

مات أبومروان المعتصم في محفته وهو مطمئن إلى تحقيق النصر.

وغرق أبوعبدالله المتوكل وهو يجتاز النهر سباحة طلبا للنجاة.ولحق به حليفه الملك سبستيان البرتغالي الذي جرفه التيار فغرق مثل السلطان الطريد.

بقي شخص واحد على قيد الحياة هو بياتريس, ولكنها لم تستطع مواجهة الموقف فانطلقت إلى الساحل المغربي لتلقي بنفسها بين أمواج المحيط, بينما غريمها مروان ـ زوجها السابق ـ يلاحقها بفرسه لينزل بها نقمته, فقد أدرك أنها كانت وراء كل ماكان!

أما أبوالعباس أحمد فقد أصبح جديراً بأن يلقب بـ(القائد المنصور) وبأن ينادى به سلطانا خلفاً لأخيه.

واستمرت الحياة تسير.

 

سليمان مظهر