واحة العربي

واحة العربي

القصب

مأوى السكر وذيل القط وناي الموسيقى وقطاع الطرق

ظللنا سنوات ندرس في المدارس ـ المتعددة المراحل ـ القمح والفول والبرسيم والأذرة والشعير, دون أن نقترب من القصب, مع أننا ـ في صعيد مصر بالذات ـ ندرك أن القصب يؤثر في علوم الاجتماع والتاريخ وتضاريس الجغرافيا. هناك ـ في منطقة ديروط مثلا ـ منطقة زراعية شاسعة تقع بين ترعتين, وظلت هذه المنطقة أحقابا طويلة دون أن يقام فيها بيت واحد, بسبب زراعتها كاملة بالقصب, إذ إن غابات قصب السكر تؤوي الحيوانات المفترسة مثل الذئب والضبع والثعلب والنمس والقط البري, كما تؤوي اللصوص وقطاع الطرق وطالبي الانتقام والساعين إلى الثأر, وجاءنا عصر كنا ـ في منطقتنا ـ نلتوي في طرق جانبية ضيقة كي لا نسير بجوار حقل قصب, وعندما تنطلق كلمة (قصب) فهي لا تنصب إلا على قصب السكر, ذلك النبات المعمر المسالم المؤثر في جميع شئون حياتنا, والمتداخل في الحلوى والمشروبات المتعددة في درجات الحلال حتى تصل إلى درجات الحرام, وفي الفطائر والمهلبية وأمراض ارتفاع ضغط الدم والبولينا والكولسترول وتمزق صمامات الفؤاد, ثم مرض السكر ـ (أو المرض السكري كما كانوا يطلقون عليه منذ خمسين عاما), مع أن للقصب أتباعا خارج العائلة السكرية الحلوة, تراه في غابات غاب ذيل القط النامي بريا على شواطىء الجداول والبحيرات, والذي يهدينا ـ بين وقت وآخر ـ جثة قتيل مخفاة بين ظلاله الكثيفة, وكثيرا ما تكون الجثة محترقة أو مجذوبة من المياه الغريقة, وهناك نوع من الغاب تصنع منه قصبة العزف: الشبانة والمزمار البلدي والناي, وآلات موسيقية عديدة أخرى, بعضها شعبي نراه ونستمتع به في عزف الموسيقيين الشعبيين في الحواري والطرق والموالد, يساعد في تكثيف حكايات أبي زيد الهلالي سلامة وعنترة العبسي والأميرة ذات الهمة, أو حكاية حسن ونعيمة الشهيرة في صعيد مصر, (وبالمناسبة فإن حسن المغنواتي هذا الذي كان يعشق الغناء والشدو في ريف مصر, وتم قتله عقابا له على حب نعيمة, وجدوا جثته أيضا مواراة في غابة قصب ذيل القط), كما أن نوعا من الآلات الموسيقية للقصب الغابي نراه قد انضم إلى الفرق المحترفة وراء مغنيات المدن ومطربيها. وللناي بالذات دوره المهم وراء أم كلثوم وفي الفرقة الموسيقية التي تحمل اسمها, ولموتسارت ـ أو موزار ـ النمساوي الشهير مؤلفاته الشهيرة المخصصة للناي (الناي السحري مثلا), لقد انضمت القصبة الموسيقية إل ى مجموعة العزف الأوركسترالي من مئات السنين, دون أن تترك موقعها الأصلي في فم الرعاة, وشمامسة الكنيسة, والمعزوفات العربية والشرقية, ونادرا ما تخلو الألحان الهندية من قصبة الناي, حتى تلك التي تتراقص على إيقاعها الثعابين الضخمة, والفتيات ذات الجسد اللدن في الأسمار والأفراح والليالي الملاح, ولاسيما أن قصب الغاب موطنه الأصلي جنوب آسيا, مثله مثل قصب السكر الذي تعتبر الهند أكثر الدول إنتاجا له, و كان أول من اهتم بقصب السكر اهتماما كبيرا في مصر محمد علي باشا أوائل القرن التاسع عشر, من ناحية زراعته واستيراد ما يكون قد حصل لأنواعه من تطورات في الهند, وتحققت للسكر المصري مكانة عالمية, وصلت إلى ذروتها في عصر جمال عبدالناصر, حيث تعددت مصانعه من كوم امبو وأدفو وأبي قرقاص إلى قوص ونجع حمادي, وفي السنوات الأخيرة بدأت زراعة قصب السكر في مصر تواجه مشاكل عديدة أثرت في كمية إنتاجه, منها استيراد السكر من الخارج بأسعار تهدد إقبال الجمهور على السكر المصري, ثم منها زحف المباني والمساكن على مناطق زراعته, ومنها سقوط الإلزام الحكومي على مناطق معينة بزراعته حفاظا على مصانع السكر لتظل تعمل, وأصبح المزارع حرا في اختيار ما يحقق له الدخل المناسب بجهد أقل وفي زمن أسرع, فقصب السكر يحتل الأرض أربعة أعوام حدا أدنى, أي أن كل عام يكون (كسر القصب), ثم رعاية الجيل التالي من المحصول للموسم القادم.

ولايزال سكر القصب جزءا من هدايا العائلات إلى المرضى, والخارجين من السجن, والعرسان, والعائدين من الحج, والناجحين في المدارس والكليات والانتخابات, لكنه ممنوع في هدايا مجاملات المآتم وذكريات الموتى ومواسم الاحتفاء بهم, كما أن السكر لايزال ـ حتى اليوم ـ خارج استعمالات الأحجبة والتمائم والأعمال في التفاؤل والتشاؤم ـ وما إلى ذلك من اعتقادات شعبية يستخدم فيها الملح دون السكر, فالسكر هو جزء من الذوق العام يطلق اسما على اللطيف من العيال: الذكور والإناث, واسما للقطط والكلاب, ولا يوجد من الحيوانات ما يلتذ بطعم السكر سوى الببغاء والقرد والحصان, كما أن السكر أصبح ممنوعا على الأفراد الذين يتجاوزون في أعمارهم الخمسين عاما (في المشروبات مثل الشاي والقهوة, وفي الفطائر والعصائر والعجائن), غير أن السكر ـ حين يختفي من البيت ـ سوف تسمع من يهمس متضايقا ـ أعوذ بالله, وكان ذلك يطلق على خلو البيت القروي من الدقيق, لأن نفاد السكر من البيت إشارة للفقر وهي مرعبة للأسرة.

على أن القصب يترك السكر في الأفواه وزجاجات الشربات ليتراقص زخارف ضوئية على فساتين الأفراح, وتيجان العرائس, ليصبح المقصب تكوينا لازما لهذه المناسبات العربية, في كل مستوياتها, الأكثر فقرا, والأكثر ثراء, ولكل مقصب عناصره من (الترتر) أو (الخرز) حتى اللؤلؤ والدر ـ والماس أيضا.

 

محمد مستجاب