جمال العربية

جمال العربية

دعد
للبحتري

عند البحتري- في القدماء- يبلغ الشعر العربي ذروة إيقاعه وموسيقاه، هذا صناجة جديد للشعر غير الأعشى صناجة العرب في، العصر الجاهلي- تهب صبا موسيقاه من أفق مغاير، وتنسكب روحه الشاعرة في شعره انسكابا آسرا على نحو غير مألوف وهي تتشكل في مقاطع وتفاويف، كأنها عناقيد الورد والزهر، ألوانها بلا حصر، وعطورها فاغمة، وأورا قها تندى بهذا الانسكاب المتصل، فيض لاينقطع، ونداوة لا تجف، وأفق من الإبداع لا يزايل ولا ينطفىء. وفي العديد من قصائد البحتري تطالعنا، ونطالع نحن أيضا أبنية شعرية سامقة، صاغها بناء بارع موهوب، خلق للشعرولم يخلق لغيره، ودانت له أطراف مملكة الكلمة، فهو يصول ويجول، ويتصيد ويقنص، ويترقب ويراوغ، بحثا عن الصيد الذي لم ينله غيره، والفضاء الذي لم يحلق فيه سواه، ثم هو يعطي لموهبته حقها من الصقل والمعاودة والبصر الحديد، ينفذ إلى أغوار اللغة الشعرية ومكنونها، فإذا بالأسرار تنكشف والخواطر الحبيسة تصدح وتغرد، واللغة التي كانت متأبية نافرة- عند غيره- تصبح طيّعة ذلولا.. لقد لانت للبحتري، الشاعر الذي لايقاس على غيره، ولكن يقاس عليه سواه حين يراد الاعتراف له بالشاعرية.. فيقال: والشاعر البحتري!

أي صدق ذلك وفق إليه القدماء حين حكموا لغيره بالحكمة واختصوه هو بحقيقة الشاعر؟ لقد أصابوا صميم الحقيقة ونفذوا إلى جوهر الإبداع، وأدركوا- ربما بالفطرة السليمة والسليقة التي لم يفسدها عبث المتشاعرين- أنهم عند البحتري يراوحون نفسا مختلفا، ومسا هو مس الشاعرية. يقول ابن الأثير في كتابه "المثل السائر" وهو يتحدث عن البحتري: "وسئل أبو الطيب المتنبي عنه، وعن أبي تمام، وعن نفسه، فقالت: أنا وأبو تمام حكيمان، والشاعر البحتري، ولعمري أنه أنصف في حكمه، وأعرب بقوله هذا عن متانة علمه، فإن أبا عبادة- يقصد البحتري- أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء، في اللفظ المصوغ من سلاسة الماء، فأدرك بذلك بعد المرام، مع قرب من الأفهام، وما أقول إلا أنه أتى في معانيه بأخلاط الغالية- أي المسك- ورقى في ديباجة لفظه إلى الدرجة العالية".

ويروي الثعالبي في كتابه "برد الأكباد" أن أبا القاسم الإسكافي قال: استظهاري على البلاغة بثلاثة: القرآن، وكلام الجاحظ وشعر البحتري.

وذكر أبوهلال العسكري في كتابه "ديوان المعاني " أن الصولي قال: سمعت عبد الله بن المعتز يقول: لو لم يكن للبحتري إلا قصيدته السينية في وصف إيوان كسرى، فليس للعرب سينية مثلها، وقصيدته في البركة "ميلوا إلى الدار من ليلى نحييها" واعتذاراته في قصائده إلى الفتح التي ليس للعرب بعد اعتذارات النابغة إلى النعمان مثلها، وقصيدته في دينار بن عبد الله التي وصف فيها مالم يقف أحد قبله أولها "ألم تر تغليس الربيع المبكر" ووصف حرب المراكب في البحر، لكان أشعر الناس في زمانه، فكيف إذا أضيف إلى هذا صفاء مدحه ورقة تشبيهه! هذه شهادات ثلاث عني بوضعها في مقدمة ديوان البحتري الشاعر والمحشقق حسن كامل الصيرفي- الذي جعل من تحقيقه لديوان البحتري في مجلداته الخمسة مشروع حياة- لعله أن يلفت قارىء الديوان إلى قدر البحتري وحقيقة شاعريته وهو الذي يقول عنه في تقديمه للديوان: "فأما الشاعر الذي فرغت له وقطعت من عمري سنوات حرمت نفسي خلالها من الراحة، يصحبني حين أصطاف، ويلازمني حين أشتو، ويقض عليّ ليلات غموض في بعض شعره أريد أن أزيح خفاءه أو بعض خفائه، ويشغل فكري أياما تحريف فيه، فأغدو وأرح مقلبا الرأي على كل وجه لأقيم عوجه وأرده إلى استوائه، هذا الشاعر جدير بألا أقصر هنا صفحات قلائل على عرض حياته، فمجال ذلك دراسة كبيرة أرجو أن يتاح لي- إن كان في العمر بقية- أن أقدمها بعد الفراغ من نشر الديوان كاملا". لكن الرجاء انقطع برحيل الشاعر المحقق ولم تتحقق الأمنية. لكن، يكفيه في هذه المقدمة القصيرة، أنه ينبههنا إلى ما يتميز به شعر- البحتري من موسيقية ومن افتنان في التصوير.

يقول البحتري عن الشعر:

الشعر لمح تكفي إشارته وليست بالهذر طولت خطبُه

وهو موقف يطلعنا على وعيه اليقظ بما يصنع، وعلى إدراكه لما وراء الجدل الذي شغل به معاصروه طويلا حول قضية اللفظ والمعنى، والمشاكلة بينهما.. فهو لا يجهل قدر المعنى ولا يفضل عليه اللفظ- بلغة ذلك الزمان- ولكنه- كما يقول الصيرفي- يعرف أن جمال المعنى يتطلب منه جمال اللفظ.

ليست هذه بالمرة الأولى التي نقترب فيهـا من شعر البحتري استرافا لجمال العربية. لكننا في هذه المقاربة الجديدة نلتقي مع نص فاتن، خارج عن سياق المألوف من شعره، لا يزاحم الشاعرية فيه لهاث مديح أو ملاحقة إخوانيات، أو موقف رثاء أو عرض من شواغل الحياة الخارجية التي عني بها شعراء ذلك الزمان. البحتري هنا لا يشغله سوى نفسه، وتأمله الداخلي لحاله، واستبطانه للعلاقة بينه وبين الآخرين، تحت مسمى الأصدقاء والأعداء. الرؤية الشعرية هنا وجودية نفسية متأملة، لحال الشعرية تستدعي ظلالها من الشكوى واللوعة، والشجن والاعتراف والمكاشفة والبوح. والبحتري في هذا النص- الذي لا يجاوز ثلاثة وعشرين بيتا- معني كل العناية بأن يقدم لنا صورة وصفية لحقيقته كما يراها، لا كما يراها الآخرون. وجلاء لشخصيته الإنسانية التي قد تتحمل وتصبر وتغضي حتى يجيء وقت غرة للوثوب والصيد والقنص، فاختيارا الوقت الملائم للرد أو القفز على الفرصة صفة ينبغي أن يتحلى بها صاحب العقل والفطنة والروية، والبحتري يدرك أن حساده كثير، وأن المقصرين في حلبة سباق الشعر ممن يودون اللحاق بغباره لايحصى عددهم، فلاهم سبقوه ولاهم استطاعوا رده عن بلوغ غاياته. أما أصدقاؤه وأخلاؤه الحقيقيون، فحسبهم ما ينطوي عليه صدره لهم من مودة صادقة وإخاء حميم، ومهما ارتفع قدره وعلا نجمه وذل صيته، فإنه لن يتنكر لأخلائه ولن يجانبهم ولن يشغله طريف مكتسب عن أصيل تليد، فمن شيمه الوفاء والثبات على العهد والود.

هذه الصورة الشعرية الشخصية التي قدمها البحتري في هذا النص، جعلت منه نصا فريدا متميزا لا يشبهه غيره من شعر البحتري الذي ازدحم كثيرا بشواغل الدنيا من حوله: مدحا وهجاء وتهـنئة وتعزية وعتابا واعتذارا وفخرا، وذما للزمان واستبطاء، ومداعبات ومزاحا وخمريات. إنه نص صاف لحال البحتري مع دعد والآخرين. فأما "دعد" فتصده عن عمد ولا ترق لحاله ولا تلين، ويزيده هذا الصد شوقا إليها وانجذابا ووفاء ومراعاة للعهد، وهي في جمالها صورة افتن فيها مبدعها، وعناصرها الأولية تجمع بين الظبي الأبيض والغصن والمهاة والبدر.. ولكل هذه العناصر منها مشابه، ولها من كل هذه العناصر أجزاء وتقاسيم. فالعينان عينا الظبي الخالص البياض، والوجه وجه البدر والقوام قوام الغصن، والابتسامة لمعة برق خاطف، يأخذ بأبصار من يديمون النظر إليها والتطلع. وأما الآخرون، فعليهم ألا ينخدعوا بصبره وحلمه وأناته، فحين تحين ساعة الانتقام والرد لا يبالي لو كان لخصمه شجاعة الأسد المقتحم الذي لا يهاب.

وكنت قد عرضت لهذه القصيدة ضمن النصوص الشعرية التي يضمها كتابي "أحلى عشرين قصيدة حب الشعر العربى" ورأيت أن نسبتهما إلى دوقلة المنججي كما جاء في نسخة مخطوطة من المقامات عثرعليها في الهند العلامة عبد العزيز الميمني الراجكوتي- هي النسبة الصحيحة. لكنني الآن أكثر ميلا إلى الحكم بنسبتها للبحتري في وليس لدوقلة، ففيها فن البحتري وإحكام صنعته الشعرية، وبراعته في فن التفويف- كما يقوله البلاغيون القدماء- وهو فن جمال التقسيم والتقطيع الموسيقي الذي ينسبونه دوما للبحتري الذي تفوق فيه، لما تميز به من تدفق الطبع ورقة التعبير ودماثة الأسلوب وأناقة الديباجة وصفائها وتآخي الكليات وتوازنها في أجراس مطردة عذبة، مطربة كوسواس الحلي وهديل الحمام وشدو العنادل.

بقول البحتري في نصه الجميل عن "دعد":

تصدت لنا "دعد" وصدت على عمد
أقبل بها عند التصدي وفي الصدِّ
شكوت إليها الوجد يوم تعرضتْ
فأبت وقد حملت وجداً على وجدِ
سلاها: بم استحللت قتل أخي هوى
صفا لك منه ما يجنُّ وما يبدي؟
ألا إنما "دعد" لقلبك فتنةٌ
فإلا تدعها تلق حتفك في "دعد"
وقدما زجرت النفس عنها فخالفتْ
إليها على قرب من الدار أو بعدِ
وما زادني إلا اشتياقاً صدودها
وإلا وفاء واصطباراً على العهد
يذكرنيها الرئم والغصن والمها
ويذكرنيها البدر في، المطلع السعد
فللرئم عيناها، وللبدر وجهها
وللغصن منها ما حكاه من القد
وما ابتسمت إلا خفا البرق لامعاً
خطوفاً لأبصار الرناة على قصد
سلامٌ عليها قد شجيت ببعدها
فلاهي تدنيني ولا أنا بالجلد
وغرَّ أناساً مني الحلم برهةً،
وفي الحلم ما يعلي، وفي الحلم ما يردي
فإن أبد حلماً لا أكن متضائلا،
وإن أنتقم أقدم على الأسد الورد
وكيف أخشى بالهجاء من العدى
ولي مقول أمضى من الصارم الفرد
وقد عجمتني الحادثات فصادفت
صبوراً على اللأواء منشحذ الحد
يلاقونني بالبشر والرحب خدعةً
وكل طوى كشحيه مني على حقد
وكيف انخداع الذئب، والذئب خادع
ختول على الحالات للبطل النجد
يعدون لي الإرجاف ما غبت عنهم
تشفي غمر لا يريم ولا يجدي
وما رمت منهم جانباً فوجدته
منيعاً، ولا أعملت في صعبهم جهدي
ولكنني أغضى إلى وقت غرة
فأهتبل المغرور مقتنصاً وحدي
ومن يعجل الأعداء قبل تمكن
فذاك الذي لم يبن أمراً على وكد
وقد فاتهم شأوي بتقصير شأوهم
فلم يملكوا سبقي، ولم يملكوا ردي
ليهنأ أخلاي الذين أودهم
ذخائر ما في الصدر من صادق الودِّ
فما أنا بالقالي ولا الطرف الذي
إذا ود ألهاه الطريف عن التلدِ

 

فاروق شوشة