إشكالية توصيف الحداثة وما بعدها

إشكالية توصيف الحداثة وما بعدها

يكاد يجمع الباحثون المهتمون بدراسة التبدلات الاجتماعية في مختلف حقب التاريخ, بأن هناك سيرورة مستمرة من التطور تتحدد بها الحركة الديناميكية لدى جميع الشعوب.

ومن نافل القول, هذه الحركة ليست على وتيرة واحدة في كل المجتمعات البشرية مادامت هنالك عوامل عدة تساهم في تسريعها أو الحد منها, ويأتي العامل البشري والموارد الاقتصادية في طليعة تلك العوامل المساعدة, لذلك شهدت بعض المجتمعات وتيرة نمو رافقتها تبدلات اجتماعية واقتصادية كان لها الدور الأساسي في الثورة الصناعية الأولى التي انطلقت معها سمات الحداثة الأولى في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص. وسرعان ما عمت أفكار الثورة الصناعية جميع المجتمعات البشرية والتي تفاعلت معها بأشكال متعددة تراوحت بين القبول أو الترحيب أو التحفظ أو الرفض.

تجدر الإشارة إلى أن الحداثة الغربية وما ارتبط بها من أفكار ومقولات وتبدلات ليست سوى النتاج الطبيعي لحركة التاريخ الأوربي والأمريكي في القرنين التاسع عشر والعشرين. لكن رد الفعل عليها جاء من المجتمعات الأخرى التي لم تنجز ثورتها الصناعية أو لم تتطور قوى الإنتاج ووسائل الإنتاج لديها, ولم تعد قادرة على مجابهة تحديات التاريخ الكوني الذي ساهمت الحداثة الغربية في رسم مساره على قاعدة توحيد السوق الرأسمالية ومعها توحيد العالم, سلماً أو حرباً.

نتيجة لذلك غرق مفكرو المجتمعات السابقة على نمط الإنتاج الرأسمالي في جدال عقيم حول توصيف الحداثة. وهل هي نتاج داخلي أم مستورد من الخارج الأوربي? وهل تتلاءم الحداثة مع الأصالة أم تتعارض معها? وهل تحمي الشخصية الوطنية أو القومية أوالخصوصية الثقافية أم تكون مدخلاً لتذويبها والقضاء عليها? وهل يكفي استيراد السلع الحديثة دون الحاجة إلى الأفكار والمقولات العلمية التي قادت إليها?

قوة في كل اتجاه

لعل أفضل توصيف لدينامية هذة الحداثة في بداياتها الأولى هو قول للشاعر الفرنسي المشهور فكتور هوجو صاحب رواىة (البؤساء) وقد جاء فيه: (الحداثة هي تلك القوة التي تذهب عميقاً في جميع الاتجاهات, ولا توجد عبارة تفي بالغرض في وصف سماتها الكاملة أو الإلمام بجميع جوانبها).

فالحداثة إذن ديناميكية اجتماعية تستفيد من الموروث الإيجابي كله وتحاول توظيفه في حركة مستمرة لتطوير المجتمع بكل فئاته وطبقاته ومناطقه وقواه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والإدارية والعسكرية وغيرها.

بعبارة أخرى ليست الحداثة مصطلحاً لغوياً يسهل تفسيره بشرح المدلولات اللغوية المرتبطة به بل الحداثة مفهوم ثقافي تتحدد به سمات المجتمع الحديث أو العصري.

ومن نافل القول أن بعض الباحثين أخلوا الطريق العلمية حينما وضعوا الحداثة في موضع التعارض مع مفاهيم ثقافية سابقة عليها, فملأوا الساحة الثقافية العربية بعشرات العناوين المثيرة منها: الأصالة والتقليد, السلفيون والتحديثيون, الخصوصية والشمولية, الأنا والآخر, التقدم والتخلف, المادة والروح, الدين والعلم.

المسألة, في جوهرها, أن هذه الثنائيات كانت وستبقى في دائرة السجال الثقافي الذي أطلقته حركة التاريخ الكوني في سيرورتها من تاريخ القومية أو الجماعة الواحدة إلى التاريخ العالمي حيث تشكل تلك الجماعات أو القوميات مكونات أساسية فيه.

وغني عن التوكيد أن تلك الجماعات, في لحظة اندماجها بالتاريخ الكوني, تحمل معها تراثها الثقافي, وسيرورتها الاقتصادية والاجتماعية, وديناميكية قواها البشرية والمادية. لذلك تدخل التاريخ الكوني من باب الفاعل فيه والمؤثر في حركته المستمرة, أو من باب المنفعل أو المتلقي لصدمة الحداثة, وهي صدمة كان ابن خلدون من أوائل من حللها عندما أشار إلى علاقة المغلوب بالغالب والتشبه به والاقتباس عنه إذا شعر بغلبته عليه.

نخلص إلى القول أن الحداثة ليست مجرد مصطلح لغوي يسهل تفسيره أو وضعه في مواجهة مصطلح آخر هو التقليد بل هي تلك الحركة القوية التي تذهب عميقاً في جميع الاتجاهات. وهي لاتتحدد في مرحلة من المراحل أو الحقب بسمات معينة بل تتحدد بها تلك الحقب لدرجة يسهل معها توصيف المجتمع العصري أو الحديث تبعاً لكل مرحلة. بعبارة أخرى, أن الحداثة سيرورة تاريخية مستمرة تتحدد بها سمات المجتمع الحديث في كل مرحلة من مراحله. وذلك يعني أن بعض المصطلحات التي تزخر بها عناوين الأبحاث والدراسات والمقالات في الآونة الأخيرة مثل: مابعد الحداثة, والمجتمع مابعد الصناعي, والثورة الصناعية الثانية, والثورة الصناعية الثالثة, وغيرها هي مصطلحات تحدد فقط سمات المراحل التاريخية التي وصلت إليها بعض المجتمعات الحديثة. إذ لاشيء بعد الحداثة سوى مجتمع بلغ مرحلة حداثة أعلى من المرحلة السابقة. والثورة الصناعية الثانية أو الثالثة ليست سوى مفهوم عام لمرحلة تاريخية يتم خلالها إنجازات صناعية أعلى من الإنجازات الصناعية النوعية التي سبقتها.

قد يطول تحليلنا لهذا المنحى من الدراسات الذي يعتبر أن الحداثة خصوصية أوربية أي محددة في الزمان والمكان, وليست سيرورة تاريخية تفعل فعلها في جميع المجتمعات وفي مختلف الحقب التاريخية. وإذا كان من الصعب جدا ً تحديد تاريخ دقيق للحداثة, حتى في أوربا الغربية نفسها أي في المنطقة الجغرافية التي ظهرت فيها, فإن من المستحيل تحديد نهاية مرحلتي الحداثة الأولى أو الثانية, وبالتالي تحديد ما يطلقون عليه مصطلح مابعد الحداثة وغيره من المصطلحات.

وحتى لانغرق في سجال ثقافي لا طائل تحته عن الحداثة ومابعد الحداثة, نكتفي في حدود هذه المقالة, برسم بعض السمات الأساسية التي أحدثتها صدمة الحداثة في أوربا وفي البلدان التي تأثرت بها ومن خلالها, وبشكل خاص الأقطار العربية.

الحداثة وسيرورة التاريخ العربي

لاشك أن العالم العربي خطا خطوات واسعة على طريق الاندماج والتفاعل مع التاريخ الكوني منذ مطلع القرن التاسع عشر حتى الآن. وإذا كانت هذه السيرورة مليئة بحروب الإخضاع والسيطرة والحماية والوصاية التي شنتها المركزية الأوربية ضد العرب فإن الشعوب العربية خاضت نضالات بطولية مشرفة, وقدمت تضحيات كبيرة جداً حتى نالت استقلالها السياسي ودخلت منظمة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى كدول مستقلة وذات سيادة. ومازالت الدول العربية تناضل في سبيل وحدتها الجغرافية والسياسية, وتعمل على تحرير أراضيها من المشروع الاستيطاني الصهيوني الذي فرضته المركزية الأوربية على فلسطين ثم رعته الولايات المتحدة الأمريكية طوال القرن العشرين, وهي تعمل الآن على إيجاد حل دائم وعادل لكنه صعب التحقيق ـ إن لم نقل مستحيلاً ـ بهدف إقامة التصالح بين العرب وإسرائيل.

وبالرغم من تعثر خطى الحداثة في المجتمعات العربية, خاصة على المستوى السياسي وهدر الإمكانات الاقتصادية الهائلة التي تزخر بها الأراضي العربية, فإن حركة الحداثة فيها تسير بخطى مسرعة نحو مزيد من العقلانية, ورفض الصراعات الدموية العربية ـ العربية, وتغليب التناقض مع العدو الصهيوني على التناقضات فيما بين العرب, وتحسين الأداء السياسي لاستراتيجية الحوار مع القوى الإقليمية المجاورة وتحسين صورةالعرب في المحافل الدولية بعد بروز صورة إسرائىل على حقيقتها أمام الرأي العام العالمي كدولة عنصرية لاديمقراطية, ترتكب عشرات المجازر ضد العرب, وترفض الانصياع إلى القرارات الدولية كما ترفض إشراف الأمم المتحدة على ترسانتها النووية التي تهدد السلم العالمي.

ليست مجرد صدمة

لايتسع المجال لإبراز سمات الحداثة في مختلف جوانبها لأن ذلك يتطلب مجلداً بكامله. فالحداثة على صلة وثيقة بالدولة, والإدارة, والعلم, والتربية, والاقتصاد, والثقافة, والترقي الاجتماعي, والسلوك الاجتماعي وغيرها. لذلك نكتفي في حدود هذه المقالة, بالإشارة إلى بعض الملاحظات الأساسية حول استخدام أو توصيف المشكلات الناجمة عن الحداثة, خاصة مايسمى بصدمة الحداثة والنتائج التي ترتبت عليها في الوطن العربي. أبرز تلك الملاحظات.

أ ـ أن الحداثة ليست مجرد صدمة ذات فاعلية عابرة أو مرحلية بل سيرورة من التبدلات الشاملة في مختلف البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الثقافية السائدة, وأنها تؤثر أيضا في السلوك الفردي كما في السلوك الاجتماعي للإنسان العربي. فمفعول الحداثة مستمر منذ القرن التاسع عشر وأبرز تجليات هذه الصدمة أن المواطن العربي يشعر بقلق بالغ على الحاضر والمستقبل, كما يشعر بالخوف الشديد على الهوية أو الأصالة التي تتغنى بها بعض التيارات السياسية دون أن تقدم البديل العملي الذي يقود إلى حماية الماضي وبناء الغد الأفضل.

ب ـ أن الحداثة ليست مرحلة ماضوية تؤدي دورها في مرحلة معينة ثم تبطل الحاجة إليها في مرحلة لاحقة. فالحداثة قوة اجتماعية تذهب عميقاً في جميع المجالات ولاتتوقف عن الفعل إلا إذا قمعت قوى التغيير الاجتماعي بشدة لدرجة يصعب معها على هذه القوى تطوير المجتمع فيستكين إلى حالة من الهدوء الظاهري كالهدوء الذي يسبق العاصفة ويقود إلى اضطرابات عنفية تعيد لقوى التغيير دورها الطبيعي في إحداث نقلة نوعية في المجتمع, بالطرق السلمية الديمقراطية أو بالطرق المستندة إلى العنف.

ج ـ إن الحداثة ليست غاية لذاتها وبذاتها بل فعل تجاوز اجتماعي تقوم به قوى التغيير الحية عن طريق تجاوز ذاتها لذاتها باستمرار.

فمطالب المجتمع الحي أكثر من أن تحصى أو تقف عند حدود معينة. وإذا توقفت قوى التغيير عن فعل التغيير تحولت إلى قوى محافظة تفسح في المجال, سلماً أو بالعنف, لولادة قوى جديدة تكمل مسيرة التغيير الدائمة.

د ـ إن توصيف الحداثة عبر استخدام مدلولاتها اللغوية يقود إلى سجال ثقافي عقيم. فالحداثة ليست مصطلحاً قاموسياً جامداً بل مفهوم اجتماعي لتوصيف حركة التغيير في سيرورتها المستمرة. يضاف إلى ذلك أن توصيف مراحل الحداثة عبر مصطلحات قاموسية كالقول بمراحل ماقبل الحداثة, والحداثة, ومابعد الحداثة لايقدم إضافات علمية. فالحداثة سيرورة متصلة الحلقات تقود كل مرحلة فيها إلى مرحلة أعلى دون انقطاع. وليس ما بعد الحداثة سوى مراحل أرقى من الحداثة نفسها, وهي مراحل تجد ثمارها في نضج البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي تمهد الطريق للمرحلة الأعلى عبر استيعاب قوى التغيير للمرحلة التي تسبقها.

وذلك يتطلب تطوير القوى البشرية والقوى المادية في المجتمع بشكل متوازن وخلاق بحيث لايطغى التوظيف في الحجر على التوظيف في البشر من جهة, ولاتقدم السلطات الحاكمة على صياغة برامج طوباوية غير قابلة للتنفيذ العملي من ناحية ثانية.

هـ ـ إن مفهوم الحداثة أو التحديث الشمولي للمجتمع يحمل في طياته لذة التجديد الدائم انطلاقا من العناصر الإيجابية والفاعلة في المجتمع نفسه. لذا لايمكن للحداثة أن تكون تقليداً أو استعارة من الغير. لكنها, وفي الوقت عينه, لايمكن أن تكون انغلاقاً على الذات ورفضاً للآخر تحت ستار الحفاظ على نقاوة الهوية والأصالة. فالذات المتقوقعة على نفسها قابلة للانهيار والتفسخ لحظة الاصطدام بالآخر. في حين أن الذات الواعية والمنفتحة على متغيرات العصر والقادرة على التفاعل الحر والإيجابي مع الآخر قادرة على الصمود والتصدي لكل محاولات التشويه والاستلاب والتغريب.في الختام, لابد من تأكيد أن الحداثة هي الإطار العام للتاريخ الكوني لحظة تشكله كقوى بشرية متراصة مازالت مندفعة بقوة نحو وحدة التاريخ العالمي منذ انطلاقة الثورة الصناعية ونمط الإنتاج الرأسمالي حتى الآن. وما المراحل التي مرت بها الحداثة منذ ذلك الحين سوى لحظات من التجديد وتجاوز الذات القومية نحو أفق كوني أكثر رحابة من السابق أي أفق عوالم الفضاء الآخر وعلاقتها بالكوكب الأرضي, وهو الأفق الذي يرسم مسيرة الحداثة في مطالع القرن الحادي والعشرين.

 

 

مسعود ضاهر