مفهوم الحوار عند جارودي

مفهوم الحوار عند جارودي

روجية جارودي أو رجاء جاردوي قيمة فكرية كبرى، ومنبر لقضايا المسلمين العادلة، يجيد التعامل مع القل الغربي، وبذات منطق الغربيين، ومن هذه القضايا التي يحسن محاورته فيها مفهومه للحوار. لقد رفع الرجل - في هذا الكتاب - شعارا لايحتلف حوله أحد من العقلاء: "الحوار.. بدلا من الدمار"، مؤكداً على أن الحوار هو البديل للتدمير المتبادل بين ألوان الأصوليات المعاصرة، الغربية منها والإسلامية.

وإذا كنا قد أفردنا دراسات متخصصة لمحورته في مفهومه "للأصولية"، وتعميمه لمضمونها الغربي على الحركات الإسلامية، ودعوته إلى تطبيق "التاريخية.. والتاريخانية" على أحكام وتشريعات القرآن الكريم... فإن مفهوم الرجل للحوار، هو الآخر في حاجة إلى حوار!

فالرجل لا يتصور حوارا إلا إذا قرر المتحاورون "إعادة النظر في معقتداتهم".. وهو بذلك يتحدث عن "حوار مستحيل"! وإلا فمن ذا الذي يطمع في أن يعيد أهل عقيدة التوحيد النظر في التوحيد، وكذلك الحال مع أهل عقيدة التثليث، وأيضاً اليهودية، والبوذية، إلى آخر العقائد التي كونت وتكون أمما تتعبد بهذه المعقتدات؟

إن تعليق الحوار على إعادة فرقائه النظر في معتقداتهم هو وضع للشروط المستحيلة التحقيق أمام هذا الحوار!

وهذا الشرط الغريب، الذي وضعه جارودي، وثيق الصلة بتصوراته للمقاصد المرجوة من وراء هذا الحوار، فصورة العالم الذي "يحلم" به جارودي، هو عالم الدين الواحد والأمة الواحدة والعقيدة الواحدة، وهي صورة لحلم مستحيل التحقيق، لا بسبب إغراقه في "الطوباوية" فحسب، وإنما لأنه التصور النقيض لسنن الله، سبحانه وتعالى، في الاجتماع الديني والفكري والبشري، فسنن الله، في هذه الاجتماعيات هي "التعددية" و"التمايز" و"الاختصاص"، وليست الواحدية والأحدية والاندماج والذوبان، فالواحدية والأحدية للذات الإلهية وحدها، وماعدا الذات الإلهية، في كل العوامل - جمادا، وحوانا، وإنسانا، وفكرا - قائم على التعددية، والازدواج، والتدافع والارتفاق.

لكن جارودي لا يتصور، أو لا يريد حوارا بين فرقاء، وديانات، ومذاهب، وإنما يريد حوارا بين الذين أعادوا النظر في عقائدهم، وأصبحوا أبناء دين واحد، حتى ليطلب من المتحاورين أن يفهم كل منهم الآخر، ليس باعتباره "آخر"، وإنما كجزء من "الذات"! ولم يقل لنا: ما الداعي للحوار إذا لم يكن هناك "آ×ر" يدور معه الحوار؟ وهل يسمى الحديث إلى النفس، وإلى "جزء من الذات" حوارا، بالمستوى الذي يكون فيه هو البديل عن "الدمار"؟

يبدو أن "حلم" الرجل هو أن يصب العالم والبشرية - بدياناتها، ومذاهبها، وفلسفاتها - في تصوره عن "الإبراهيمية" التي أقام لها، في "غرناطة"، ناديا! فهو يريد حوارا ننتصر به على "الخصوصيات"، وليس لتعايش الخصوصيات، حوارا يحل به "التوافق" محل عتقاد "التفوق" مع أن عقيدة "التوفق" إذا ضبطت حرارتها عند درجة "التدافع"، ولم تنطلق غرائزها إلى ساحات "الصراع"، هي حافز التقدم، ودافع الاستباق بين الأمم والشعوب والحضارات والديانات على طريق الخير والصلاح والإصلاح.

الاستعداد لإعادة النظر

تلك هي "شروط" الحوار عند جارودي، وهذه هي تصوراته لمقاصد وغايات وثمرات هذا الحوا، وعن هذا التصور كتب يقول: "فر عصرنا، لم يعد أمامنا خيار إلا بين: "تدمير متبادل مضمون" وبين الحوار، لكن، لن يكون هناك حوار حقيقي مالم يقتنع كل منا بأن عليه أن يتعلم شيئا من الآخر، وبالتالي مالم يكن مستعدا لإعادة النظر في معقتداته الخاصة به، في هذا المستوى لا يكون الحوار ندوة لمتخصصين في تاريخ الأديان المقارن، ولا حتى لقاء بين لاهوتييين من مذاهب مختلفة. إنه اجتماع أصحاب دين يتقبلون المخاطرة القائلة إن عقيدة الآخرين يمكنها إغناء عقيدتهم الخاصة، وتجعلهم يكتشفون في ذواتهم أبعاداً تكون مغيبة أحيانا. وهذا يفترض السعي إلى فهم الآخر ليس كموضوع خارجي، بل داخل ذاته. إن انتصار المستقبل على الماضي، انتصار الواحد والكل على الخصوصيات القديمة، انتصار الحوار على الأصولية، والتوافق على التفوق، سيكون انتصار اللروح".

فالمطوب من هذا الحوار - كما تصوره جارودي - انتصار "الواحد والكل" على "الخصوصيات القديمة"، وبذلك تنهزم الأصوليات السرطانية.

ونحن نذكر بأن جارودي، عندما أراد إجمال وتكثيف تعريفه "للأصولية الجمودية المرذولة"، قال: "إنها، بكلمة: نقيض العلمانية"! فهل الحوار الذي يريده، لهزيمة الأصوليات، هو الحوار الذي ينتصر فيه "الواحد والكل العلماني" على "الخصوصيات الأصولية"؟

إننا لا نريد الاسترسال في الاستنتاجات، حتى لا نحمل فكر الرجل مالا يكون من مقاصده، ونفضل، بدلا من ذلك، تقديم ملاحظاتنا على هذا التصور الذي قدمه جارودي للحوار المنشود، وعلى المقاصد التي يتغياها من وراء هذا الحوار، وهي ملاحظات تطمح للإجابة عن سؤال من شقين:

- هل تصور المستقل "كلا واحدا متوافقا" يحل محل "الخصوصيات" هو تصور - من حيث "المبدأ" - صحيح وحق، إسلاميا؟

- وهل السعي إلى تحقيق هذا التصور - على فرض إمكانة - مفيد حضارياً؟

إن القاعدة، والأصل، والسنة، والقانون - في التصور الإسلامي - هي "التعددية، والاختلاف، والتنوع" في سائر ميادين الخلق الإلهي، فما عدا الذات الإلهية قائم على الازدواج والتزاوج والتعدد والاختلاف، تلك هي سنة الله في الخلق، التي لا تبديل لها ولا تحويل.

تعددية في الشعوب والقبائل، ليكون هناك تعارف تدافع بين الأمم والشعوب (يا أيها الناس إنا خلقناكم ن ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليهم خبير) - الحجرات "13".

وتعددية في القوميات - التي تحدد اللغات دوائر انتمائها - وفي الأجناب، لتتمايز وتتدافع وتتعارف القوميات والأجناس، كفرقاء تميزهم الخصوصيات، وليس "ككل واحد" سورة الروم آية 22ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين الروم "22" فالتعددية هنا، والخصوصيات التي تقوم عليها هذه التعددية، هي آية من آيات الله، سبحانه وتعالى، في تعدد وتمايز اللغات والألوان.

وتعددية في الديانات سورة يونس الآيتان 118-119ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم هو: 118 و 119 - فالتعددية. هي الأصل والقاعدة والسنة والقانون، حتى لقد قال المفسورون للقرآن، وهم يفسرون هذه الآية، إن المعنى: (وللاختلاف خلقهم)، أي أن علة الخلق والاجتماع هي الاختلاف، للابتلاء والاستباق على طريق الخير والحق والصلاح والإصلاح.

وفي الشرائع الإلهية، وكذلك في المناهج - أي الحضارات - تعددية كذلك سورة المائدة آية 48لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنت فيه تختلفون - المائدة: 48 - فالتعددية، المؤسسة على التمايز والخصوصية، هي القاعدة، وهي الحق والصواب، في الرؤية الإسلامية وحتى التصور الإسلامي لظهور الإسلام على الدين كله سورة الفتح آية 28هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا: الفتح: 28 - فإنه ظهور "الحلول" التي يقدمها الإسلام، وتبنيها حتى من قبل الذين لا يعتنقون عقائده ولا يتدينون به، ذلك أن السنة والقانون هي بقاء الناس مختلفين ومتعددين في الديانات والشرائع سورة يوسف آية 103وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين يوسف: 103 - سورة غافر آية 59إن الساعة لآتية لاريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون - غافر: 59 فالحلم بانفراد دين واحد بالبشرية، واجتماعها عليه، نقيض لسنة الله في الاجتماع الديني، وكذلك الحال في تعددية الإنسانية إلى: ذكر وأنثى، وأمم وشعوب وقبائل وقوميات وأجناس. وشرائع ومناهج وحضارات.

وإذا كان الحق والصواب - إسلاميا - وهو في التنوع، ومع التعددية، المؤسسة على الخصوصيات، فإن المنفعة والمصلحة، أيضاً، هي في التعددية، وليس في "الواحدية... والاندماج".

وإذا كان "الصراع" بين الفرقاء المتعددين، هو السبيل إلى أن ينفي طرف الطرف الآخر، فيفضي ذلك الصراع إلى "الواحدية" التي تنفي التعددية، وهو الوضع المدمر والضار للاجتماع الإنساني، فإن استبدال "الواحدية" بالتعددية، وإحلال "الوحدة" محل "الخصوصيات"، هو الطريق إلى ذبول حوافز التدافع والاستباق بين الأمم والشعوب والحضارات، فسيادة الحضارة الواحدة، وعموم النسق الاعتقادي الواحد، وهيمنة الفكر المتحد، كلها عوامل ترزكي الكسل العقلي، وتنمي مساحات المحاكاة والتقليد، ومن ثم الجمود، في ميادين الاجتماع الإنساني.

التعددية حافز للتدافع

وإذا وقفت الفرقاء المتعددين عند درجة "التدافع الفكري والحضاري، الذي هو "حراك-وسط" بين "سكون الوحدة" و"سعير الصراع" كانت التعددية حافزا للتدافع الذي يسوق فرقاءه إلى الاستباق على طرق الخير والصلاح والإصلاح دائما وأبدا، وفي كل الميادين، وتلك هي الرؤية الإسلامة لسنة التدافع بين الفرقاء المتعددين سورة الحج آية 40ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض الهدمت صوامع وبيع وصولات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا - الحج: 40 - سورة البقرة آية 251ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين - البقرة: 251 سورة فصلت آية 34أدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم - فصلت: 34.

تلك هي وسطية الإسلام في "التعددية"، المؤسسة على "الخصوصيات"، وسط بين "موات الوحدة" وبين "دمار الصراع"، فالبديل للدمار ليس الوحدة التي تتجاوز الخصوصيات، كما أراد جارودي، وإنما التعددية، التي لا تتجاوز "التدافع" و"التعايش" إلى "الصراع.. والدمار".

وإذا كانت الغاية من حوارنا هذا مع فيلسوفنا جارودي، هي المراجعة للأفكار، وإذا كنا لا يرادونا أدنى شك في إخلاص الرجل لقضيا الأمة الإسلامية، التي يدافع عن العديد من ممنها بنبل وبسالة، ومنها نقده لهيمنة الغرب والشمال على حضارات الجنوب - وفيها المسلمون وحضارتهم - فإننا نلح على أن الاعتقاد بالوحدة، في المعتقد والحضارة، في ظروف التوازنات الراهنة لموازين القوى - وهي شديدة الاختلال بين الحضارة الغربية والحضارات الأخرى - سيؤدي إلى المزيد من تكريس هيمنة "المركز الغربي" على "الأطراف"، وإلى مزيد من تقليد "الأطراف" للمركز، بدلا من الاجتهاد والإبداع، اللذين لا سبيل لهما ولا طريق إليهما إذا تخلف الإيمان بتميز النموذج الحضاري، الذي يستدعي اجتهاداً متميزاً.

كما أن الاعتقاد بالتفوق لا يتنافى مع التوافق والتعايش، مادام لا ينكر طرف على الأطراف الآخرى تميزهم وخصوصيتهم، بل واعتقادهم بتفوق نموذجهم. هم أيضا على الآخرين، فالخطر هو في عقائد التفوق في الخصوصيات اللصيقة التي لا يمكن أن يكتسبها الآخرون، مثل التفوق العرقي والجنسي وفي اللون مثلاً، أما الاعتقاد في تفوق المعتقد أو الثقافة أو القيم، فهو اعتقاد يعرض أصحابه مالديهم من خير ليشاركهم فيه الآخرون، فإذ انتقى قلقهرو الإكراه في علاقات التبادل الفكري والتفاعل الحضاري، أصبحت التعددية مصدرا للغني والثراء، ووقف الاعتقاد بالتفوق عند حدود الحافز على التقدم، دون أن يتعدى حدود "الكبرياء المشروع" إلى نطاق "التكبر" على الآخرين فضلاً عن القهر والإكراه والعدوان.

إن فارقا كبيرا نوعيا وكيفيا، بين أن نعتقد، نحن المسلمين أننا سورة آل عمران آية 110خير أمة أخرجت للناس آل عمران: 110 - مادام هذا الاعتقاد قد تأسس على تحقيقنا شروط هذه الخيرية سورة آل عمران آية 110كنتم خير أمة أجرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن النكر وتؤمنون بالله - آل عمران: 110 - لأن باب الخيرية، عندئذ، سيظل مفتوحا لكل إنسان تتوافر فيه شروطها، أو لديه الرغبة والعزم على امتلاك هذه الشروط، لكن الخطأ والخطر والجمودية والانغلاق والعنصرية والتعصب المقيت تأتي إذا كان الاعتقاد بالتفوق والخيرية مؤسسا على العرق أو اللون أو الجنس أو أية صفة من الصفات اللصيقة التي لا يمكن للآخرين امتلاكها ولاتحصيلها، كأن يكون المولودون من أمهات يهوديات، مثلا، هم وحدهم شعب الله المختار وأبناء الله وأحباءه، حتى ولو كانوا ثمرة للسفاح والخنا؟ وحتى لو كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه سورة المائدة آية 18وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه المائدة: 18 - مع أنهم سورة المائدة آية 79كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ماكانوا يفعلون: - المائدة: 79.

إن اعتقاد المسلمين خيرية أمتهم هو اعتقاد مشروط بتحقيقهم شروط الخيرة، هي شروط لا يعتقدون احتكارهم لها، بل هم أول الداعين إلى إشاعتها وتعميمها بين الناس، بل هم مأمورون بتعميم العدل حتى على الأعداء ومن يكرهون سورة المائدة آية 8يا أيها الذين آمنوا كونو قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعلمون - المائدة: 8 - سورة المائدة آية 2ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب - المائدة: 2- بينما كانت عقيدة "التفوق - العنصري" دافعا لليهود كي يحتكروا كل تطبيقات القيم والأخلاق دالخ عنصرهم وحدهم، مستحلين فعل المحرمات مع الغير سورة آل عمران آية 75ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون - آل عمران: 75.

فالاعتقاد بالتفوق والخيرية والأفضلية، إذا تأسس على صفات خيرة واعتقادات أكثر صدقا وإنسانية، وغير محتكرة لجنس أو عرق أو لون، فإنه يكون حافزا للتقدم والاستباق على طريق الخيرية ولاصلاح والإصلاح، وفي ذلك أسباب ودوافع وحوافز للحيوية والغني والثراء لرصيد الإنسانية من أسباب الخير ومقومات الصلاح وعوامل الإصلاح.

أما الدعوة إلى التركيز على "الأشباه والنظائر" - في مقومات العقائد والثقفات والحضارات - دون "الفروق" - بين هذه العقائد والثقافات ولاحضارات - سعيا إلى "الوحدة" التي تحل محل "التعددية"، المؤسسة على الخصوصيات، فإنه - فضلا عن خطئة - مستحيل، لمعاندته سنن وقوانين الله ف الاجتماع، وثمرته الممكنة التحقيق، وخاصة في ظل اختلال موازين القوى بين حضارات عالمنا الراهن، هي ثمرة مرة، لأنها ستزيد من هيمنة الأقوياء على المستضعفين، وستتصاعد باجتياح الغرب لمقومات وخصوصيات أمم وضعوب وحضارات الجنوب.

حدود وفروق

ولقد شهد تاريخ أمتنا، إبان الاجتياح الصليبي (489 - 690 هـ 1096 - 1291 م) لوطننا دعوة تشببها هذه الدعوة التي يدعو إليه جارودي، وذلك عندما دعا فيلسوف الصوفية محي الدين بن عربي (560-638 هـ 1165-1240م) إلى تمييع الحدود وإكالة الفروق وفتح القلوب لكل المعتقدات، بل وإلى الدين الواحد المؤسس على الاعتقاد الواحد - الجامع لمختلف المعتقدات - وصاغ - ابن عربي - تلك الدعوة شعراً قال فيه:

عقد الخلائق في الإله عقائدا وأنا اعتقادت جميع ما عقدوه!

وقال أيضاً:

قد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
وقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرتعي لغزلان ودير لرهبان!
وبيت لأوثان وكعبة طائف; وألواح توراة ومصحف قرآن!
أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه، فالحب ديني وإيماني!

ومع أننا لانتهم ابن عربي بالتساهل مع الاجتياح الصليبي لوطن الأمة، لأنه قد طلب من السلاجقة الجهاد ضد الصليبيين، ولاندعو إلى الوقوف مع كتابات ابن عربي، عند ظواهر دلالات الألفاظ، فمقاصد الرجل في أغلب الأحيان تتجاوز المتعارف عليه من معاني المصطلحات والكلمات، لكننا نقول إن جماهير الأمة لو أخذت بالمفهوم المتعارف عليه من مذهب ابن عربي هذ الضعفت مناعتها وانفتحت الثغرات والثغرات، ولذلك كان ابن تيمية (661-728 هـ 1263 - 1328م) وليس ابن عربي - هو "رجل المرحلة"، الذي حمل سيفه مجاهدا بالسنان، وحمل قلمه ليرفع شعات البحث عن الفروق بيننا وبين قوى وجحافل الاجتياح الصليبي والتتري، حتى لقد جعل من ذلك عنوانا لأحد كتبه فسماه: (اقتضاء الصراط المستقيم: مخالفة أهل الحجيم)؟

فالتعددية، المؤسسة على الخصوصيات، هي الاصل والقاعدة والقانون، وفي حقب الاستضعاف، وفي مواجهة جحافل الاجتياح يجب الاهتمام بالفروق أكثر من الأشباه والنظائر في العلاقة بين القاهرين ولامقهورين المستضعفين. أما فتح العقول والقلوب والحمي الفكري لمذاهب الغزاة وخصوصيات الآخرين، بدعوى وحدة العقائد، وانتفاء تفوقنا العقدي، فإنه المقدمة للهزيمة النفسية، المكرسة للهزائم الأخرى... فالاعتقاد في التفوق العقدي - فضلا عن أنه هو الحق الذي نؤمن به - هو أفعل حوافز الأمة إلى الجهاد والاستشهاد!

 

 

 

محمد عمارة

 
  




المفكر الفرنسي روجيه جارودي