أذرع مطاطية

أذرع مطاطية

عندما بدأت أشعر بتلك الأعراض لأول مرة, انتابني قلق شديد دفعني إليه غرابة تلك الأعراض وشذوذها فلم أكن حتى هذه اللحظة قد سمعت عن شخص يشعر باستطالة تدريجية في ذراعيه تجعلهما قادرتين على اختراق الجدران والأسقف ويشعر في الوقت نفسه بحدة جديدة في سمعه وبصره تجعله يعرف مايدور في الغرف المجاورة بل والبعيدة التي تبعد عنه بمسافات كبيرة.

وتوجهت بعد يومين من التفكير المضني إلى طبيب صديق أخصائي في الأعراض الغريبة التي تنتاب الإنسان, كان عائدا إلى مدينتنا من الخارج منذ وقت قصي, وكنت قد اخترته نظراً لقربه الشخصي مني. وبعد إجراء فحوص وتحليلات دقيقة, وبعد الكشف بالأشعة على كل أجزاء جسمي, أخبرني أن ما أشعر به ليس له أي سبب فسيولوجي أو طبي مما سبق له دراسته.

انتابتني حيرة شديدة في أثناء تناول طعام العشاء, فكرت في أن أناقش زوجتي في تلك الظواهر الغريبة التي تنتابني ولكن خشيت سخريتها.

لذا فقد قررت أن أنتهز فرصة تعييني في منصبي الجديد الذي كنت قد رقيت إليه منذ أسابيع لأسافر إلى الخارج تحت ستار أداء إحدى مهام العمل, وذلك لكي أتمكن من عرض نفسي على بعض الأخصائيين في الخارج, فقد خشيت إن أنا عرضت نفسي على أطباء مدينتي أن يتسرب خبر مرضي بين سكانها فأصبح عرضة للسخرية والتندر.

كنت أشعر بالخزي والعار من مرضي, بل إن شعوراً بعقدة ذنب شديدة أخذت تتجمع نذرها في أعماقي.

وعندما تمكنت من السفر إلى الخارج, كانت الآلام النفسية التي تنتابني أضعاف الآلام الجسدية الناتجة عن استطالة ذراعي.

هناك أجريت لي فحوص عديدة, وثبت بالقياس أن ذراعي هما هما لم يستطيلا بوصة واحدة أو ينقصا بوصة واحدة, وأن ما أشعر به مجرد حالة نفسية لايوجد لها تفسير.

وعدت من الخارج محبطاً دون نتيجة تذكر سوى تأكيد فشل العلم في تفسير حالة غريبة. ومع ذلك, رحت أقرأ في كتب علم النفس وأتابع الأبحاث والدوريات التي تدور موضوعاتها حول الظواهر النفسية الغريبة التي تنتاب بعض الأفراد.

ولم أستطع بعد مرور عدد من الشهور أن أحظى بنتيجة, اللهم إلا أن الآلام النفسية والجسمانية التي كنت أشعر بها قد بدأت تخف حتى كادت أن تتلاشى.

وفي هذه الفترة كنت قد بدأت في استخدام القدرات الخفية التي أصبحت أمتلكها. فبينما أنا جالس أمام مكتبي, أصبح بوسعي أن أمد ذراعي لآخذ شيئاً موضوعاً فوق مكتب زميل لي في غرفة مجاورة, كان هذا يحدث في جزء من الثانية حيث كانت ذراعي تستطيل وتخترق الحوائط وتعود مرة أخرى كما كانت بعد أن تلتقط الشيء الذي أريده وكنت أضع هذا الشيء في جيبي دون أن يستطيع أحد أن ينتبه إلى حدوث شيء غير عادي.

وبمرور الوقت, أصبح لذراعي القدرة على أن تمتد إلى خزانة المؤسسة التي أعمل بها ـ وكانت تقع على مسافة كبيرة من مكان عملي وأحصل منها على ما أشاء من أموال سائلة ثم تعود في اللحظة التالية إلى جيبي, وتبدأ بعدها سلسلة طويلة من التحقيقات, وتمتد الشبهات إلى كل العاملين بالمؤسسة ما عداي نظرا لموقعي الوظيفي المتميز من جهة ونظراً لوجودي بعيداً عن مكان السرقة من جهة أخرى. وزارني صديقي الطبيب في منزلي وأخبرني أنه قد علم أن الأعراض التي كنت أشكو منها قد انتابت بعض الشخصيات الكبيرة في مدينتنا في أزمنة مختلفة من حياتهم. ولما طلبت منه أن يذكر لي بعض أسماء هذه الشخصيات, رفض نظراً لرغبته في المحافظة على أسرار مهنته, ومع ذلك استطرد قائلاً: استطعت أن أصل إلى نتيجة مهمة وهي أن هذه الأعراض كانت تبدأ في الاختفاء تدريجياً بمرور الوقت.

وتذكرت في هذه اللحظة فقط أن ظهور الآلام قد بدأ فعلا مصاحباً لترقيتي لأول منصب قيادي أعتليه في حياتي. وبمرور الوقت, كانت قدرتي الخاصة على اختراق الحوائط والأسقف, بسمعي وبصري وذراعي, السكرتارية المجاورة لمكتبي, وفي متابعة ما يتناقله الموظفون الصغار بالمؤسسة عن مديريهم ومرءوسيهم, وفي التجسس على الحوار الذي يدور بين العملاء والموظفين بالمؤسسة, بدلا من كل هذا بدأت استخدام قدراتي في السطو على أموال وثروات مختلفة كان يلمحها بصري الخارق في هذا المكان أو ذاك.

نلت ترقية جديدة في عملي وانتقلت إلى موقع أكبر بالوزارة التي أتبعها وأصبحت واحداً من الشخصيات المهمة في المدينة. ولاحظت أن قدرات جديدة على الاختراق قد صاحبت هذه الترقية الجديدة.

ووصلتني همسات كثيرة عن أن الحالة التي أعيشها يشاركني فيها آخرون من الشخصيات الكبيرة بالمدينة. وحملت هذه الهمسات أسماء كثيرين من الشخصيات اللامعة. وقد ثبت لي هذا بالدليل القاطع عندما وصل قرض مالي جديد إلى بنك المدينة من إحدى الجهات الأجنبية وكنت واحداً من القلائل الذين يعلمون بأمر هذا القرض ومكانه. وقد بيت النية على السطو عليه. وفي نفس اللحظة التي امتدت يدي فيها إلى مبلغ القرض رأيت يداً مطاطية تشبه يدي وإن كانت أسرع. تمتد لتختطف المبلغ.

ومنذ ذلك اليوم, نشب صراع خفي وحاد بيني وبين الأيادي المطاطية الأخرى في المدينة, تلك الأيادي التي تسعى بكل قوتها مثلي تماماً للحصول على أكبر قدر من الثروة إلى أن كان يوما عاودتني فيه آلام استطالة ذراعي بقوة وعاودني الشعور الحاد بتأنيب الضمير بشكل مضاعف, كان ذلك عقب مطالعتي في الجرائد خبر محاكمة أحد الموظفين الصغار بإحدى المؤسسات بتهمة الاختلاس.

لا أعرف لماذا عاودني هذا الشعور فجأة. أمضيت اليوم وأنا أتألم, وحاولت مجدداً أن أصرح لزوجتي بقصة ذراعي اللتين استطالتا منذ أن توليت منصبا قياديا في مؤسستي, حاولت أن أخبرها بالسر الحقيقي وراء الثروة الطائلة التي نتمتع بها, حاولت هذا بشدة ولكني لم أستطع ولم أجرؤ, كنت آمل أن يخفف اعترافي لزوجتي هذا من حدة آلامي النفسية والجسمانية ولكن الشجاعة الكافية لم تواتني, مضى الأسبوع الباقي على ميعاد محاكمة الموظف المختلس وسط آلام شديدة. لقد رأيته في قاعة المحكمة ذليلاً منكسراً قابعاً خلف قضبان قفص الاتهام.تركزت نظراتي على ذراعيه, كانتا قصيرتين, خيل إليّ أنهما أقصر من المعتاد بكثير, اقتربت منه من خلف القضبان, عرفته بنفسي على أنني مسئول عن صفحة الحوادث في إحدى الجرائد المشهورة.سألته عن حقيقة الاختلاس, وجدته معترفا بجريمته. سألته عن ذراعيه وهل شعر بآلام فيهما قبل أو بعد ارتكابه للسرقة? وهل شعر بآلام نفسية? وكانت إجابته بالنفي. سألته وبشكل أكثر تحديداً إن كان يشعر باستطالة معينة في ذراعيه في وقت ما قبل أو بعد حدوث السرقة? لكنه نظر إليّ مندهشاً ثم مستنكراً فقد تصور إنني أسخر منه, ثم رماني بنظرة تأنيب شديدة ضاعفت من الآلام التي كنت أشعر بها منذ أن قرأت خبر اختلاسه بعض أموال مؤسسته في الجرائد منذ أسبوع.

تراجعت محبطاً إلى مقعدي. بدأت المحاكمة وتبادل الدفاع والادعاء الكلام, وعرفت أن المبلغ المختلس صغير, صغير جدا, وبالتحديد لم تكن قيمته تتجاوز مرتب شهر أو شهر ونصف على الأكثر لهذا الموظف الصغير.

وتبينت من الهمس الذي يدور حولي أن هذا أول حادث اختلاس يتم القبض فيه على الجاني تشهده مدينتنا منذ سنوات طويلة.

وعندما نطق القاضي بالحكم, قادوا المتهم لتنفيذ الحكم الذي كان يقضي بقطع ذراعيه جزاء ما ارتكبت يداه, أدركت أن ماحدث ربما كان بسبب أن هذا الرجل كان الوحيد في المدينة الذي لم تنبت له بعد أذرع مطاطية.

 

أحمد محمد السيد