سرير من الدانتيل

سرير من الدانتيل

لو كن يمتلكن الساعات لضبطن فترات قدومه على الدقائق والثواني، يهل عليهن مع الساعات الأولى من النهار، يقبل من جهة الشارع الكبير الذي تقع فيه محطة القطار، تكون الشمس في مواجهته، فتضيء وجهه وجسده، وترمي خياله إلى الوراء. الخيال في هذه اللحظة من الصبا ويكون ضعف القوام.

هذا مايحدث بالضبط مع قدوم الليل غير أن الظل يكون عكسيأ، وشاحبأ، لأن شمس الغروب التي تقف على سور المحطة العالي، تتوسط الشارع تمامأ، وملامح الوجه تكون أكثر هدوءأ وانبساطأ، فهو في غدوه الباكر يتلقى شمسأ ضاجة وقوية، تجبره على غلق جفنيه، أما في الغروب فيتلقاها واهنة، صفراء، يحدق فيها بعينيه دون وجل.

عند قدومه الصباحي، تكون النسوة بالشارع، يكنسن أمام الأبواب. ويرفعن فضلات الأولاد التي تنفث بخرها أسفل الجدران.

يهرشن ثيابهن المكرمشة من أثرالنوم، ويحدقن بعيون لم تعتد النور بعد، ويرفعن المكانس ساكنة في أيديهن حينما يدنو إلى أقرب نقطة منهن. الخيش القديم يغطي عورات جسده، بينما الشعرالغزير يغطي الكتفين يمينأ أويسارآ، تلمع قطرات من مخاطه تحت أنفه، لايرفع يده ليمسحها أبدأ، يتركها بإهمال حتى تسيل بين شعيرات الشارب أو تتوه بين اللحية الكثة.

يحاولن أن يمددن إليه اليد بالأرغفة والغموس، ولكنه يأبي مجرد النظر إليها، يتأملنه، فهو يثير الإعجاب "بصمته، وفتوته، برغم القذارة المنتشرة على البدن، والبقع المتناثرة على الخيش. يسير حافيآ بقدمين مفرطحتين، تدوسان حجارة الشارع صيفأ وشتاء.

بعد أن يمرق من بينهن متحديا دهشتهن تحين منه التفاتة واحدة، لايبدلها، ولايفعل غيرها مهما كان، هناك عند الدار!الواقعة على حافة السور الحديدي للسوق، يرنو بعين واحدة جهة النافذة، ولمرة واحدة فقط، ثم يواصل طريقه.

هذه الدار أجرت ذات يوم لامرأة غريبة، هبطت عليهن بعربة يجرها حصان، لم تكن ترفع غير سريرها العالي ذي الداير الدانتيل، توجسن منها أول الأمر، ثم أدخلنها بيوتهن بعد أن اكتشفن سحرها العجيب، فهي تمتلك يدأ بارعة في تزجيج الحواجب، ورفع شعر الساقين واليدين بسر الحلاوة والليمون، وقدرتها لاتحد في استعمال الفتلة التي تنزع زغب الوجوه، ورحن يستدعينها في الأعراس لترقص بناتهن على نقرة ونصف، كما كن يفتحن لها أبوابهن قبل الزفاف بوقت كاف، لتزين العروس قبل جلوتها، فلأصباغها سحر تخليق الوجوه المليحة.

في أوبته تكون هذه الدار على يساره. يرمي النظرة. العجلي ، ثم يواصل طريقه، لا يهتم بحشد الأولاد الذين يلتفون حوله يهتفون " العبيط أهه .. العبيط أهه " . وحين يوفق في الخروج من دائرتهم المحكمة، لا يتوقف ليحمي نفسه من الطوب الذي يلقي على بدنه العاري.

ولربما يوفق الولد في تحديد رأسه المكشوف كهدف فيحدفه بطوبه، لا يلتفت، ولا يدور على عقبيه ليمسك به، لا تصدر عنه غير آهة مكتومة كظيمة، كأنما الطوبة ألقيت على شخص غيره، ويعجب الأولاد، كما تعجب النسوة من قله اهتمامه بالدم السائل على عنقه، إنه حتى لا يكلف نفسه، فيرفع يده ليتحسس الجرح.

مرة واحدة فقط صادفه الأولاد أمام الباب المفتوح على حافة السور. فخرجت المرأة صاحبة الدار، لتمسك بيده فتحسبه نحو مصطبة دارها، فاستجاب لها في صمت، وترك لها رأسه ينام على حجرها، وهي أكبت عليه تبحث عن مكان الجرح، وتدس البن المحروق فوق الدم، وتضغط بكفها عليه لتحبس سريانه.

في تلك اللحظة انطلقت من حجرته الكتوم آهة طويلة ممطوطة، وشوهد وهو يمرغ رأسه في بطن المرأة، تلك الغندورة، المعجبة بنفسها فوق الحد، ترمي ضفيرتها خلف الظهر، وتلقى بالأخرى على ربوة الصدر، وتعقص قصتها تحت منديل صارح الألوان، والكحل في عينيها يزيدها وضوحاً ، ويضفي عليها غنجاً يخطف قلوب الرجال.

ودخل الليل .. وانسحب الأولاد من الشارع، وانغلقت الأبواب على ظلامها الأبدي.

في الصباح .. انتظرت النسوة مجيئ الرجل في موعده، فهناك خلف سور المحطة سمعن ضجيج القطار، وانطلق صهيل بخاره ليرعش أبدان الدور الطينية، والشمس التي تشرق في منتصف الشارع بالضبط انحرفت خلف أسوار السوق الحديدية.

وجاءت عتمة الغروب ، ولم يطل شبحه مقبلا من جهة السور الممتد لآخر الشارع . والأولاد كانوا قد فكروا في محاصرته في لعبة جديدة. حيث اعتادوا على مفاجأته، وكانوا قد انتووا الهجوم المباغت بعد أن يختفوا خلف السور، هناك تحت مظلة السوق الخبيثة.

مر يوم ، ويوم ..

مر شهر، وشهر..

مر عام ، وعام ..

ولم ينسين أبداً هذا الرجل الغريب..

فقدن باختفائه القدرة على تحديد الزمن..

وبعد ان تشعثت الحواجب، وانتشر زغب الوجوه، وبعد أن طالت شعور أذرعهن وسيقانهن إلى الحد الذي تفرالرجال منهن تذكر تلك المرأة التي عاشت بينهن زمناً، ثم فاجأتهن ذات صباح بالعربة تقف أمام بيتها لترفع عليها سريرها الحديدي ذي الداير المصنوع من الدانتيل
يوسف أبورية