زهرة الصباح

 زهرة الصباح

قراءة نقدية.. في رواية لـ
محمد جبريل
رؤية تراثية إبداعية لهموم الإنسان المعاصر

الجديد الذي أضافه محمد جبريل في روايته الأخيرة، هو ذلك التوازي ـ أو التناص بلغة مصطلحاتنا النقدية المعاصرة ـ الذي أبدعه مع قصص ألف ليلة وليلة. وقد برهن ذلك التزاوج بين هذه العناصر، على أنه تزواج شديد الخصوبة، أنجب هذا الوليد ذا العشرات الموتيفات، كأنها أذرع إحدى الآلهات الهندية، والتي ماكان من الممكن إبداعه إلا بهذه الخلطة، أو التركيبة التي لا تجمع بينها إلا لحظة لابد أن يكون الوعي الفني قد استحال فيها إلى حالة وجدانية بين الصحوة والسكرة، وهي حالة لم تأت من فراغ، بل كانت (قلعة الجبل) هي الخطوة السابقة، والطريق المؤدي بمؤلفها إلي خطوته التالية (زهرة الصباح)، بحيث يمكن القول إنه أصبح في حالة روائية يمكن أن يتقمص فيها العصر المملوكي، ويضيف إليه مناخ أدبنا الشعبي. فلا غرابة أن نقل شهريار من بغداد إلى القاهرة، وجعله سلطانا من سلاطين مصر في العصر المملوكي، مقر حكمه قلعة الجبل، تجمع بينه وبين حكامها السابقين واللاحقين صفة مميزة مشتركة، هي السلطة المستبدة حتى تبلغ ذروتها، إلى حد فقدانها: عنفا في رواية (قلعة الجبل)، وبتغير طبيعة صاحبها المستبدة في رواية (زهرة الصباح)وهذا اختلاف أساسي في البناء الروائي لكلا الروايتين، فبينما قلعة الجبل تقوم على البناء الأوديبي، وهو أن يؤدي سير الأحداث الروائية إلى عكس ما تهدف إليه: تتجنب شرا فيؤدي هذا التجنب نفسه إلى تحقيق هذا الشر، أو العكس يحاول أن يحقق هدفا، فتؤدي نفس هذه المحاولات إلى الفشل التام، بل القضاء على صاحبها، بينما في روايتنا (زهرة الصباح)، فإن ما توجسناه من فشل عبدالنبي المتبولي كاتب سر الملك شهريار ـ حيث كانت ابنته زهرة الصباح المرشحة التالية بعد شهرزاد في طابور زوجاته اللاتي تعود قتلهن في ليلة زفافهن إليه انتقاما من زوجته التي اكتشف خيانتها مع أحد عبيده ـ هذا التوجس لم يتحقق، بل حققت محاولاته الغرض المزدوج منها: نجاة شهرزاد من الموت، وعفو شهريار عنها بعد إنجابها على مدى ألف ليلة وليلة، سبعين قصة ونيفا، وثلاثة أبناء، ونجاة ابنته زهرة الصباح المرشحة التالية بعد شهرزاد في طابور زوجاته اللاتي تعود قتلهن في ليلة استخدام قناع التاريخ، بهدف إسقاط قضايا معاصرة على مرحلة تاريخية سابقة، أسلوب روائي معروف، على نحو ما استخدمه نجيب محفوظ في رواياته الفرعونية الثلاث الأو لى، وعلى نحو ما لجأ إليه أكثر من روائي في تاريخنا الإسلامي والعربي. ولقد نجح محمد جبريل في استخدام أكثر من وسيلة لاستحضار هذا العصر المملوكي، منها المفردات وأساليب التعبير، ومنها أسماء الشخصيات وألقابهم، وأسلوب الحكم، وأسلوب التعامل بين الناس.

خطان روائيان

ولقد صعد محمد جبريل درجة التوتر الروائي بزواج زهرة الصباح ـ وهي خطيبة شهريار ـ من سعد الملواني جارهم وابن تاجر القوافل، مما جعل شبح الموت يزداد قربا من زهرة الصباح. فبعد أن كان القضاء على حياتها مرهونا بعدم قدرة شهرزاد على مواصلة حكاياتها، أصبح الآن في غير حاجة إلى هذا الانتظار. فمجرد احتمال ترامي الأخبار إلى شهريار أن التالية في طابور زوجاته قد زُفت إلى أحد رعاياه، معناه أن ظل السياف لن يكون مقصورا عليها، بل يمتد إلى أبيها وأمها وسعد والمأذون والشاهدين (وربما أطار السيف رقاب الخدم والجواري لأنهم شاهدوا ولم يتكلموا، بل ربما أمر شهريار، فنُهب القصر بكامله، ودُمرت محتوياته، ولم يعد له من أثر (محمد جبريل: زهرة الصباح، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1959، ص145).

هكذا نجد أن أحداث الرواية بدت كأنما تسير في خطين متعارضين: خط يحمي زهرة الصباح من الخطر، وآخر يعرضها للخطر، خط بالسلب، هدفه تجنيب زهرة الصباح ما يهددها، وآخر بالإيجاب، هدفه تحقيق وجودها كأنثى، بالزواج ممن تحب.

ولنلاحظ أن زواج زهرة الصباح تم عن حب نما بين جارين شابين، ما لبثت أن باركته الأم، وأتاحت للعاشقين أن يلتقيا ويتعارفا. وعندما أتت حمدونة الدلالة لعبدالنبي المتبولي، تعلن عن رغبة المعلم الداخلي الملواني في مصاهرة أسرته، تردد أول الأمر ـ ربما للمفاجأة أو لغرابة الفكرة بالنسبة للظروف التي تعيشها أسرته ـ غير أنه ما لبث أن سار إلى آخر الشوط، وإن كان في حرص وسرية، تلك بذرة المقاومة للقهر الذي كانت تعيشه أسرة عبدالنبي المتبولي. بل لقد انضمت إليها أسرة لم يكن يمسها مباشرة قهر مماثل ـ وإن كان لابد أن يطولها القهر العام ـ هي أسرة الشاب سعد الداخلي الملواني. تلك هي الدلالة الأولى لهذا الحب الذي توج بالزواج.

أما الدلالة الأخرى، فهي أن الموت والحياة يتجاوران، أحدهما لا ينفي الآخر، بل لعله يكمله. تقول الرواية ذلك وعين مؤلفها عن إنساننا المعاصر الذي لم تعد تقهره السلطة الفوقية فحسب، بل وتنوشه سلطات تحتية، وتلوث بيئي، وحروب لا تفرق بين عسكري ومدني، وأزمات اقتصادية، وكوارث طبيعية، وأمراض فتاكة مستحدثة لا براء منها، وهو لا يعرف كيف يدافع عن نفسه ضد كل هؤلاء الأعداء، بحيث يتوقع ـ كما كانت شهرزاد تتوقع، وكما كانت زهرة الصباح تتوقع ـ الموت في أية لحظة.. لكن هذه المخاوف مجتمعة لم تمنعه يوما، ولن تمنعه أن يحب ويتزوج وينجب، فالحياة تسير جنبا إلى جنب مع الخوف والتوتر، فلا الخوف يمنع الحب، ولا الحب يقضي على الخوف، بل لعل كلا منهما يولد من الآخر.

وأزعم أن هذا هو ما شحن محمد جبريل بتلك الدفقة الوجدانية التي دفعته إلى إبداع هذا العمل الروائي، بعد أن أسقط همومنا على نظام الحكم المملوكي، وليس العكس. لهذا يمكن القول إن (زهرة الصباح) رواية احتجاجية على عذابات الإنسان المعاصر، وأن زواج زهرة الصباح وسعد الملواني بصيص نور، ودلالة تمرد.

مناخ سياسي واحد

وإذا كان والد شهرزاد هو الوزير دندان، فإن والد زهرة الصباح، عبدالنبي المتبولي، هو كاتب سر شهريار. منصب يقترب ـ وإن نقص قليلا ـ من منصب الوزير. أوكل إليه شهريار مسئولية تدبير أمور المملكة. وقد سلم له الملك معظم مسئوليات الحكم الخطيرة، حتى يستطيع الانصراف إلى الاستماع إلى حكايات عروسه شهرزاد، التي نتوقع كل ليلة نهايتها. ثم نكتشف ـ على غير ما نتوقع ـ أنها فيما يبدو، لانهاية لها. بينما بدت مسئوليات الوزير دندان ـ والد شهرزاد ـ مسئوليات هامشية. ويعترف محمد جبريل ـ أو راوي القصة ـ أن كاتب السر عبدالنبي المتبولي (صار مقدما ـ في واقع الحال ـ على الوزير نفسه) (المرجع السابق ص15). وقد أضفى عليه المؤلف نفس صرامة ملكه شهريار، ربما لأن المناخ السياسي والاجتماعي الذي أفرزهما واحد، وربما أن الملك وضع ثقته فيه لأن صفات واحدة تجمع بينهما.

لكن راوي القصة ما يلبث أن يكشف لنا أن لهذه الصرامة حدودا تقف عندها. فكما أن صرامة شهريار تتراجع أمام قصص شهرزاد، كذلك فإن صرامة كاتب السر تتراجع، بل تذوب أمام عاطفة الأبوة من ناحية. وحين يتعلق الأمر بتنفيذ رغبات مجنونة لا مبرر لها إلا شهوة السلطة من ناحية أخرى. لهذا فإن الذهول يصيب عبدالنبي المتبولي حين يعلن الملك له قائلا: خطبت ابنتك زهرة الصباح لنفسي. فيتساءل فيما بينه وبين نفسه: هل أنجب، وربى، وأحب، واختزن التفصيلات الكثيرة، والذكريات، ليحصد الملك ذلك كله بضربة سيف؟ (ص21). وهكذا أصبح المتبولي بطلا دراميا تعاني شخصيته صراعا بين القطبين التقليديين المتنافرين: الواجب والعاطفة، أو بين كاتب سر ملك مستبد، ووالد عذراء جميلة اسمها زهرة الصباح. وهذا الصراع، ومحاولات رأب الصدع الذي لا يمكن رأبه بين هذين الطرفين، هو الذي تبلور حوله البناء القصصي للرواية.

وقد تركزت أبرز محاولات المتبولي في الاستماع إلى أكبر عدد من القصص والحواديت لغرض مزدوج: إما لينقلها إلى شهرزاد ـ بواسطة جواري القصر ـ إن هي أخفقت في مواصلة الحكي، أو أدرك الملل شهريار، أو ليعود فيرويها لابنته حتى إذا ما نفد مخزون شهرزاد، وحان أجلها، استطاعت زهرة الصباح أن تقوم بدور مماثل، وتؤجل مصيرها هي أيضا بضعة أيام أو أسابيع (ص180)، ويلاحظ أن عبدالنبي المتبولي ـ الذي كان لا يملك موهبة الحكي في أول أمره ـ قد تخلى شيئا فشيئا عن دوره كمستمع سلبي (فربما حذف من الحكايات ما ينبو عن الذوق، وقد يضيف إليها ما يزيد من انتصار المغامرة والحق والجمال: شخصيات اخترعها خياله، فبدت له ـ وهو يتأملها ـ حكاية أخرى تماما) (ص160) أي أن عبدالنبي المتبولي كاتب سر الملك شهريار، قد انضم إلى مجموعة رواة القصص الشعبي المجهول، والذي لم يكن له نص أصلي ثابت، فيحذف منه ويضيف إليه ما يتفق وقيمه من ناحية، وما يعتقد أنه يضاعف من جذب أذن مستمعه من ناحية أخرى.

لكن اهتمام عبدالنبي المتبولي لم يكن مقصورا على الاستماع إلى ما يلتقطه من الرواة الشعبيين، فهو لم يكن أقل تلهفا على ما ترويه شهرزاد لشهريار، حرصا منه على معرفة قدرتها على مواصلة حكاياتها، ومدى استمرار تأثيرها الساحر على زوجها وملكها، عسى أن يؤجل ذلك تحديد مصير ابنته التي وافق على زواجها في لحظة بدا له أن الأمل في نجاتها ليس أقل من الخوف من هلاكها، لحظة كثفت من هذين الشعورين وضخمتهما. وهذا الاهتمام بما ترويه شهرزاد لشهريار لم يكن يخلو بدوره من مساهمة إيجابية وظفها محمد جبريل فنيا في إشارات نقدية لقصص ألف ليلة وليلة، مما جعلها إشارات يتعانق فيها النقد والإبداع. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يعلو صوت عبدالنبي المتبولي قائلا لابنته: هذه ليست مجرد حواديت، لكنها تحذير من فعلته النكراء المتجددة (ص74). وفي مرة أخرى يقول معلقا: إنها ـ أي شهرزاد ـ تروى الآن حكايات تتعلق بالكرام، مجرد حكايات مما تقرأه في كتب الطرائف والنوادر، لا صلة لها بما اعتاد الملك سماعه منها (ص97). ومرة ثالثة يربط عبدالنبي المتبولي بين الجارية تودد وشهرزاد فيصفها بأنها (امرأة أسطورية، ناظرت العلماء كلا في تخصصه، فهزمتهم جميعا، كأنها شهرزاد نفسها (ص139). كما أدرك كاتب السر أن رواية شهرزاد لقصصها على شهريار، عكست العلاقة بينهما على هذا النحو:

كانت علاقة: سلطان بجارية فأصبحت علاقة: مستمع براوية

إسقاط

من ناحية أخرى، فإننا نلاحظ أن هذا النقد الإبداعي لقصص ألف ليلة وليلة لم يكن حكرا على عبدالنبي المتبولي، بل لقد شارك فيه شهريار أيضا بتعليقاته على ما ترويه له شهرزاد، فوهبته الرواية دورا إيجابيا نفتقده في الليالي. مثال ذلك أن شهريار لاحظ أكثر من مرة أن شهرزاد تسقط شخصيته، أو شخصيتها، على أبطال قصصها، فهو القائل: هذه الفتاة في حكاية (الورد في الأكمام) قدمها الوزير للملك، تنادمه بعلمها، تساقيه ويساقيها، إنها أنت يا شهرزاد.. لكن أباك هو الذي زوجك مني. إنها نفس الحكاية مع إضافة الزواج) (ص123). إن محمد جبريل يختبىء خلف جلد عبدالنبي المتبولي مرة، وشهريار مرة أخرى، ليقدم رؤيته الإبداعية لليالي، وهو الذي يجعل شهريار يعترض في قصة أخرى على أن يجري الخليفة راتبا على دليلة المحتالة وابنتها زينب النصابة، واعتبر ذلك مكافأة أو إثابة لهما، وقال معلقا (لو أنهما وقفتا أمامي تتباريان في ابتداع حيل الخداع واللصوصية، فإني كنت أكف أذاهما عن الناس بوسيلة أخرى) (ص167). وفي مرة ثالثة، لاحظ في روايته قصة الجارية زمرد، أن الحاكم أمر بفتح الخزائن وإبطال المكوس، وإطلاق من في الحبوس، ورفع المظالم، فاستنكر أن يفعل حاكم ذلك، وسأل شهرزاد: هل تحاولين تنبيهي إلى ما تتصورين أني غافل عنه؟ (ص111).

وإذا كنا نتلقى قصة خيانة زوجتي شهريار وأخيه شاه زمان الذي قتل زوجته، تتلوها قصة الملكين مع الجني الذي اختطف عروسا في ليلة زفافها، ووضعها في علبة، وجعل العلبة داخل صندوق، ورمى على الصندوق سبعة أقفال، وجعله في قاع البحر العجاج، ومع ذلك أجبرتهما على أن يفعلا معها ما سبق أن فعلته زوجتاهما مع العبدين، بعدها عادا ليقتل شهريار بدوره زوجته الخائنة.. أقول: إذا كنا نتلقى هذه القصة الأم ـ كما نتلقى نهاية الليالي ـ من الراوي الشعبي المجهول لقصص ألف ليلة وليلة، قبل أن ينطق شهرزاد ويجرى على لسانها سلسلة القصص التي امتدت روايتها ألف ليلة وليلة، فإننا في روايتنا (زهرة الصباح) نتلقى هذه القصة نفسها ـ أو هاتين القصتين ـ من شهريار نفسه بضمير المتكلم، فانقلبت العلاقة بين الطرفين: أصبح شهريار ـ ولمدة ليلة واحدة ـ راوية، وشهرزاد مستمعة (ص117). وهكذا لم تعد شهرزاد تحتكر الحكي وحدها، كما في ألف ليلة وليلة، بل شاركها آخرون كان الحكي أبعد ما يكون عن طبيعتهم مثل شهريار وعبدالنبي المتبولي.

غير أن تداخل العوالم الفانتازية يبلغ ذروته، حين تلتقي زهرة الصباح في جولة ليلية بهارون الرشيد، وهو لقاء تم في الشوارع المظلمة لبغداد، مسرح معظم أحداث ألف ليلة وليلة، لتشهد بصحبته الوزير جعفر والخادم مسرور: الجسد العملاق، والسحنة السوداء، والشعر الأكرت، والأنف الأفطس، والشفتان المتدليتان (ص103، 107). واضح أن رأس زهرة الصباح كان قد ازدحم بقصص ألف ليلة وليلة، وأن قلبها قد امتلأ خوفا من السياف مسرور المسئول عن قتل نساء شهريار، فلا عجب أن اعتبرها هارون الرشيد مخبولة تهذي، حين تذكر له أن شهريار ـ وليس هارون الرشيد ـ هو حاكم هذه البلاد، وأنه زوج شهرزاد التي يحفظ حياتها الآن بما ترويه له من حكايات. ولا عجب أن تم ذلك ليلا حين كانت الظلمة تلف شوارع بغداد، وحين كانت زهرة الصباح ـ على وجه أصح ـ في حالة نصف وعي أتاحت لها أن تتجسد مخاوفها في ذلك اللقاء الكابوسي، وأن تتعانق فيه الفانتازيا وتبلغ ذروتها: فانتازيا ألف ليلة وليلة وفانتازيا روايتنا زهرة الصباح.

 

يوسف الشاروني