خواطر موسيقية من اليابان: أصابع الكفيفات تثير الأشجان سمحة الخولي

خواطر موسيقية من اليابان: أصابع الكفيفات تثير الأشجان

إنها تجربة فريدة. تلك الرحلة التي قامت بها فتيات معهد النور والأمل الكفيفات من مصر إلى اليابان ليقدمن موهبتهن الموسيقية. وقد أثار عزفهن نوعا من الشجن الإنساني تخطي حواجز الثقافات واختلاف الحضارات.

الطرفان الرئيسيان في هذه التجربة هما "أوركسترا النور والأمل" من مصر، والجهة الداعية من اليابان وهي مركز نومورا للتعليم المتكامل مدى الحياة وكلاهما يستحق أن يقدم هنا للقارئ العربي.

أوركسترا النور والأمل هو الثمرة النضرة لمعهد موسيقى "جمعية النور والأمل" التي أسستها في أواخر الخمسينيات السيدة استقلال راضي (رحمها الله) لرعاية الكفيفات مع عدد من فضليات السيدات المتطوعات، وفكرت مؤسستها منذ عام 1960 في إنشاء معهد للموسيقى ليحتضن المواهب الموسيقية التي يغدقها الله على كثير ممن حرموا نعمة البصر، وتم الإنشاء بمشاركة (مستمرة حتى اليوم) من كاتبة هذه السطور. وتلتحق به الصغيرات الموهوبات في سن لا تجاوز الثامنة ليدرسن الموسيقى، نظريا وعلميا، وفقا لمنهج أكاديمي نظم على غرار مناهج معاهد الكونسرفتوار، وتتم دراسة المواد النظرية الموسيقية مثل كالصولفيج أي قراءة وكتابة النوتة، ونظريات الموسيقى ثم الهارمونية) بطريقة برايل Braill المعروفة، كما تدرس كل طالبة العزف على آلة موسيقية. ودراسة المعهد مسائية بعد انتهاء، الطالبات من الدراسة العادية، للمراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية، بالمدرسة الملحقة بالجمعية. وتعاون الإقامة الداخلية بالجمعية على تدعيم فرص الدراسة والتدريب الموسيقي. وكان أول أنشطة الأداء الموسيقي لهذا المعهد هو فرقة إنشاد "كورال" تؤدي أغاني عربية مكتوبة لأصوات الكورال كما يؤدي بعض الأغاني الغربية. وعندما أتمت الدفعات الأولى دراستها الثانوية الموسيقية بالمعهد اتضح أن مستواهن في عزف بعض الآلات الوترية وآلات النفخ الخشبية يسمح لهن بالدراسة العالية في معهد الكونسرفتوار.

وبعد كفاح مشهود في السبعينيات سمح لهن بالالتحاق بمعهد الكونسرفتوار حيث تخرجت فيه دفعات من المتخصصات هي التي تحمل اليوم على عاتقها الجزء الأكبر من مهمة التدريس بمعهد النور والأمل وبدأت تتكون منهن ومن الطالبات المتقدمات نواة لأوركسترا ظل ينمو ويتطور عبر السنين، حتى أصبح الآن يضم خمسا وأربعين عازفة من أعمار مختلفة، يعزفن على الآلات الوترية (كالفيولينة والفيولا والتشللو والكنترباس) وآلات النفخ الخشبية (كالفلوت والأوبوا والفاجوط) وآلات النفخ النحاسية (مثل الكورنو والطرويت والطرمبون)، بالإضافة إلى آلات الإيقاع. وقد حقق هذا الأوركسترا في الأعوام الأخيرة طفرة كبيرة بلغ بها مستوى فنيا جعله موضع الفخر والإعجاب محليا ودوليا، إذ إنه الأوركسترا الوحيد من نوعه في العالم، والمكون بكامله من الفتيات الكفيفات، على هذا المستوى الفني المتميز! ووراء هذا الإنجاز الفريد جهد لا يمكن المبالغة في تقديره هو جهد قائده الفنان أحمد أبوالعيد الذي امتدت صلته بالمعهد لسنوات طويلة ولكن فضله فيه تجلى بصورة مرموقة منذ أواخر الثمانينيات، حين تولي إدارة المعهد وقيادة الأوركسترا وهو الذي درب الأوركسترا وقادة في كل رحلاته الفنية للخارج وفي كل العروض الكبيرة التي يدعى الأوركسترا لتقديمها في الأوبرا وفي المؤتمرات (كما في مؤتمر السكان) وغيرها. ولا يخفي على القارئ أن الأوركسترات المكونة على هذا النسق الغربي تعتمد كليه على قراءة العازفين للنوتة (التي نراها أمامهم أثناء العزف)، وعلى اتباع إشارات يدي قائد الأوركسترا وهي إشارات توضح الميزان الموسيقي والسرعة كما توحي ببعض ظلال الأداء، وكل هذا متعذر تمام في حالة العازفات الكفيفات، وهذا هو ما توصل قادة هذا الأوركسترا وخاصة قائدة الحالي أحمد أبوالعيد لتعويضه بجهد مركز وتدريبات خاصة وطويلة، بعد أن يدرسن النوتات المخصصة لكل منهن، وتكتب لهن بطريقة "برايل"... وراء هذا الإنجاز الفريد أيضا نخبة من السيدات المتطوعات، أعضاء الجمعية ومجلس إدارتها - وهو الذي ترأسه السيدة ملك الشربيني - إذ إن حماسهن ورؤيتهن الثقافية المتقدمة هي التي جعلت مجلس الإدارة يدعم هذه المواهب في الأوركسترا بأقصى ما يتطلبه عملهن من رعاية، مادية ومعنوية، هذا بالرغم من أن هذه الجمعية أهلية وتعتمد أساسا على الجهود الذاتية والهبات وعائد منتجاتها.

والبرامج التي يعزفها أوركسترا النور والأمل تختار بعناية بحيث تجمع بين عناصر من الموسيقى المصرية التراثية أحيانا، والموسيقى القومية المصرية غالبا، وبين أعمال شهيرة من الموسيقى الغربية الكلاسيكية من عصور وأساليب مختلفة، كما أننا نحرص دائما على أن يتضمن برنامج الأوركسترا لأي بلد عملا موسيقيا من فنون البلد الداعي كتحية فنية ولتوثيق الأواصر الإنسانية. وقد تضمن برنامج رحلة طوكيور "لونجا" لرياض السنباطي (في توزيع خاص) وحركات من "المتابعة الشعبية" لأبي بكر خيرت، ومن "المتابعة الوترية" لجمال عبدالرحيم ورقصة فرعونية لرفعت جرانه. ثم مؤلفات لهنري برسيل البريطاني، ولموتسارت: روندو للبيانو والأوركسترا (عزفته وفاء جمعة عضو الأوركسترا وخريجة المعهد وكلية التربية الموسيقية و"رقصة النار" لمانويل دي فاليا وموسيقى للمؤلفين الفرنسيين سان صانص، وبيزيه ورافيل وموسيقى لتشايكوفسكي وغيرها.

بالإضافة إلى مجموعة من الأغاني اليابانية الدارجة في إعداد خاص للأوركسترا.

مركز نومورا

أما مركز نومورا للتعليم المتكامل مدى الحية Nomura Centre for lifelong Integrated Education فهو مركز ثقافي واجتماعي ذو طبيعة خاصة، أنشئ منذ ثلاثين عاما في طوكيو على يدي مديرته القديرة السيدة يوشيكو نومورا، لكي يسهم بشكل مباشر في تحقيق إصلاح جذري في التربية والتعليم والثقافة في اليابان، آخذا في الاعتبار العوامل الإنسانية وأثر التصنيع وتحديات العصر في الإنسان وحاجته إلى العون النفسي لكي يستطيع مواجهة هذه التحديات سعيا لبناء مستقبل أفضل للبشرية.

وقد اتسع نشاط هذا المركز خلال ثلث القرن الماضي، فامتد ذلك النشاط التطوعي عبر أنحاء اليابان في تنظيم محكم، وامتد دوليا حتى أصبح له فروع مشابهة في ألمانيا والهند ومصر، وامتدت أفكاره في تبادل منظم مع عدة دول أجنبية في آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط وينظم هذا المركز أنشطته في صورة حلقات تعقد بالتعاون مع المعهد القومي للتربية مع وزارات التعليم والثقافة والعلوم، وهي حلقات تتناول مراحل الحياة التي يقسمونها إلى سبع تمتد من الطفولة إلى الشيخوخة فهناك حلقات تهتم بتربية الطفل في كنف الأسرة (وتوجه للوالدين) وأخرى تختص بأطفال الحضانة للأمهات ودورات شهرية للشباب في عطلة نهاية الأسبوع تتاح لهم الفرصة فيها للإفضاء بمشاكلهم الأسرية والدراسية ومشاكل المستقبل العملي وتنظم في أماكن بعيدة عن ضجيج العاصمة، وقد أدت هذه الدورات للشباب إلى حل مشاكل نفسية واجتماعية عديدة عبر أصحابها عنها في نشرات نومورا الدورية. وهناك حلقات لربات البيوت وأخرى لرجال التعليم وهيئاته لدراسة العوامل الاجتماعية التي كثيراً ما تغفلها المدارس ومن أهم حلقاتهم تلك التي تنظم لأصحاب الأعمال وخاصة الشركات الصناعية الكبرى، ولاتحادات العمال حيث خاطبت فيهم السيدة نومورا اهتمامهم "بالكمال" في منتجاتهم الصناعية وطلبت منهم تحويل هذا السعي أيضاً للعنصر البشري العامل.

وأهداف مركز نومورا أربعة نوجزها هنا فيما يلي :

1- التحول من تربية هدفها "المعرفة" إلى تربية هدفها "الحكمة".

2- التحول بالتعليم من الاهتمام المركز بتربية العقل إلى الاهتمام بتكوين الشخصية المتكاملة.

3- التحول من التعليم الذي يكرس الثقافة المورثة (التراث) إلى تعليم يشجع على خلق الثقافة.

4- ضرورة التحول من التعليم القصير المدى إلى تعليم شامل ومتكامل يتصل مدى الحياة.

استقبال حافل

وعندما وصلت بعثة الأوركسترا لمطار ناريتا استقبلنا فيه وقد كبير من أعضاء مركز نومورا، أغلبه من الشابات، تقوده سيدة دمثة رقيقة ماضية العزيمة هي السيدة كيمورا ويعاونها شاب يجيد الإنجليزية (وهذا أمر غير شائع) هو السيد ساكا موتو ومعهما مواطن مصري درس وعاش في اليابان عدة سنوات (هو المهندس د. هشام سعد علي) الذي استعانوا به للترجمة إلى العربية للفتيات والسهر على توثيق الصلات بين الأوركسترا وبين مضيفيه. وعلمنا فيما بعد أن كل القائمين على رعاية الأوركسترا المصري متطوعات من الشابات والسيدات، تقدمن لهذا العمل كجزء من نشاطهن في المركز، غير أن الأمور تحولت بعد أيام قلائل إلى وجهة مختلفة. وفي نفس مساء وصولنا، بعد هذه الرحلة الشاقة، كان اجتماع لمراجعة برنامج الرحلة ومواعيد التدريبات وتفاصيل الحفلات، وهي حفلات ثلاث أولاها كانت رفيعة المستوى حيث تحضرها الأميرة صغرى كريمات الإمبراطور، ولذلك استغرقت التنظيمات لها جهدا أكبر وكان لها حساسية خاصة وكانت هذه الحلقة في قاعة سنتوري Suntory وهي جزء من بناء شاهق يضم عدة قاعات وفندقا ضخما ويكاد يشبه مدينة صغيرة، أما القاعة نفسها فلم تزد مقاعدها على أربعمائة فقط. وواجهتنا مشكلة غير متوقعة وخاصة بعد الدقة المفرطة التي قام المركز بها بتنظيم الزيارة في أدق تفاصيلها. والمشكلة كانت أن هذه القاعة والقاعات الأخرى التي قدمت فيها الحفلتان التاليتان لم يكن لها جميعا ستار لأن المسارح الثلاثة مسارح موسيقي للعزف الأوركسترالي وليس لها ستائر!!!

والستائر بالنسبة لفتياتنا ضرورية إذا إنهن يتخذن أماكنهن عادة قبل رفع الستار، تجنبا لحرج قيادتهن لأماكنهن أمام الجمهور وهو مظهر من مظاهر العجز أو الاعتماد على الغير لا يتسق مع عزفهن البارع. وبعد تفكير، اهتدينا لحل أطلق شرارة التآلف والتقارب بما لم يخطر لنا على البال. فقد طلبنا ن المنظمين خمس شابات يابانيات من متطوعات نومورا ووضعنا تخطيطا محكما لقيامهن بمرافقة فتيات الأوركسترا لأماكنهن بسرعة وفي أقصر وقت ممكن، وبذلك تحولت هذه العملية الحساسة إلى مظهر رعاية وحفاوة من المضيفين لضيوفهم، في إطار من الرقة والاحترام. وتم جلوس العازفات في أماكنهن بلباقة وسرعة فضلا عن الأثر النفسي المنعش لهذه المشاركة بين المصريات واليابانيات في جلوس العازفات، وهكذا بدأت، منذ الحفل الأول، علاقة تقارب نفسي حقيقي فريد، تغلبت تماما على حاجز اللغة واختلاف الحضارات، وهي علاقة عمقها ما أبدته اليابانيات من رقة وحدب، وبدأ التعارف يتوثق بين الجانبين، فتعلمت كل مجموعة كلمات من لغة المجموعة الأخرى، وكانت اليابانيات سعيدات جدا بهذه المهمة إلى حد أن إحداهن، وكانت أصلا متطوعة لثلاثة أيام فقط، فإذا بها تضحي بعملها وتلح راجية أن تتاح لها فرصة أطول مع النور والأمل... وكانت لها زميلة ضعيفة الإلمام بالإنجليزية فأخبرتها رئيسة المجموعة بأن العمل لن يحتاج لها أكثر من ذلك فإذا بها تبكي وتتوسل أن تترك لترافق العازفات المصريات فترة أطول... أما سيدات الأعمال من أصحاب شركات السياحة وربات البيوت والعلامات فقد كان تفانينهن في رعاية المجموعة شيئا غير عادي... فصاحبة شركة السياحة التي خصصت الأتوبيس السياحي للمجموعة كانت تسارع لمواجهة أي صعوبة تنشأ عن المطر أو بعد مكان وقوف الأتوبيس عن الجهة المقصودة، بل وكانت تتفاهم مع شرطة المرور لكي يوقفوا مسارات السيارات ليفسحوا للفتيات فرصة المرور في شارع مزدحم للوصول لأحد المطاعم الكبيرة، بعيدا عن أي مخاطر، وهكذا قامت، ومنذ الأيام الأولى للرحلة، مودة وألفة وتفاهم لم نكن نتوقعها، ونحن نعرف ما نعرف عن تحفظ اليابانيين مع الأجانب!

دموع وأغاني

ولكن المفاجأة الحقيقية كانت في الحفل الثاني بقاعة "ناكانو زيرو" الضخمة (1500 مقعد) في أحد أحياء طوكيو الجديدة، وكانت جميع تذاكرها قد بيعت بالكامل (وهي تباع لصالح مركز نومورا)، وذلك برغم ارتفاع أسعارها، ولفت النظر تلك الأعداد الكبيرة من التلاميذ ومن الشابات وقام التلفزيون الياباني بتسجيلها وقدم على أساسها برنامجا إذاعيا طويلا عن أوركسترا النور والأمل في أغسطس 1994، يقال إنه من أطول وأجمل ما قدم في اليابان عن مصر.

وتضمن برنامج الأوركسترا في حفلاته باليابان مجموعة من الأغاني اليابانية والواسعة الانتشار، كنا قد طلبنا إليهم إرسالها للأوركسترا لكي يتدرب على عزفها عملا بالعادة التي يتبعها هذا الأوركسترا في رحلاته الفنية. وكانت المقطوعات الثلاث موزعة للأوركسترا، وكان من أهم ما حرص عليه القائد أن يعزفها في التدريبات بحضور اليابانيين لكي يتأكدوا من دقة عزفها وتطابق السرعات والأجواء فيها مع ما هو سائد عند أصحابها، وكانت في غالبها مطابقة لما هو معروف عنها في اليابان. وهذه الأغاني هي التي يختتم بها النصف الأول من الحفلة، وبرغم الحماس الذي قوبل به من الأغاني اليابانية في هذه الصياغة الأوركسترالية، كان له وقع السحر على نفوس الحاضرين فقد أدهشني أن أرى الدموع تترقرق في عيون المستمعين كبارا وصغاراً من اليابانيين من الأعمار المختلفة، وسمعتهم يغنون الكلمات بصوت خفيض، ولما أشتد التصفيق طلبا للإعادة إذا بالقاعة بكاملها تغني كلمات هذه الأغاني باليابانية مع الأوركسترا. وامتلأت القاعة بالغناء والعواطف الجياشة والانفعال الذي لا يدخل في إطار الصورة التقليدية للإنسان الياباني المتحفظ الهادئ... وبعد نهاية الحفل اشتد التصفيق واستمر لقرابة ثلث ساعة والجمهورية يلح في طلب المزيد، وخلف الكواليس وجدنا السيدة كيمورا الرقيقة المنضبطة، والدموع تفيض من عينيها سعادة وتأثرا لهذا النجاح الذي هز مشاعر الجمهور الضخم، وحتى مساعدها السيد ساكا موتو لم يتمالك نفسه بمشاعر فياضة لم يتمكن من إخفائها، وبصفة عامة كان نجاح الحفل هائلا بكل المقاييس الفنية والجماهيرية وأهم ما ترتب عليه هو إطلاق هذا الفيض من المشاعر والانفعالات من جانب مضيفينا اليابانيين، الذين لم نكن نعرف عنهم مثل هذه العواطف الفياضة. وجاء التلفزيون الياباني بشاب يترجم للعربية أثناء تسجيل لقاءات مع نخبة من العازفات ومن مسئولي الأوركسترا (وكانت لغته العربية أصعب فهما من اليابانية ذاتها) ولكن هذا لم يفسد روعة النجاح الكبير لهذا الحفل الضخم، الذي دبر مركز نومورا له ولبقية الحفلات.

أوركسترا مشترك

أما الحفل الختامي فقد كان تجربة جديدة تماما على أوركسترا النور والأمل فقد كان حفلا مشتركا مع أوركسترا طوكيو الفلهارموني للشباب وهو أوركسترا ينظمه التلفزيون والراديو الياباني أثناء الإجازة الصيفية ويجمع له شباب العازفين من أنحاء مختلفة في معسكر صيفي ويتولى تدريبهم أحد كبار القادة لإكسابهم خبرة العزف الأوركسترالي على المستوى الاحترافي. وكان على فتياتنا أن يشتركن مع هذا الأوركسترا الضخم (120 عازفا وعازفة من أعمار تتراوح بين الثالثة عشرة والخامسة والعشرين) وكان الاشتراك في عنصرين فقط من البرنامج ومع ذلك كان هناك تخوف من صعوبة التحام العازفات الكفيفات مع العازفين المبصرين الذين يعتمدون على رؤية إشارات القائد وعلى متابعة النوتة الموسيقية الموضوعة أمامهم، غير أن القائد الياباني عدل طريقة إرشاداته بما يلائم ظروفهن، وكان القائد المصري قد أعد أوركستراه لهذه المشاركة إعدادا تاما، فعزفوا معا من موسيقى موتسارت: "موسيقي ليلية صغيرة للوتريات، ثم شاركوا في عزف الصيغة الأوركسترالية لنفس مجموعة الأغاني اليابانية (Japanese Medley) التي صاغها قائدهم ياما موتو للأوركسترا الكبير. وكان المنظمون قد حرصوا على إبراز فتياتنا في أماكن ظاهرة في الأوركسترا، وما أن بدأت الأغاني اليابانية، واستدار القائد بحضوره المشع نحو القاعة مشيرا للجمهور بالغناء مع الأوركسترا، حتى ضجت القاعة بالغناء بصوت مرتفع (1500 فرد) وارتفعت حرارة المشاعر ونال الأوركسترا المصري نصيبا كبيرا من التصفيق والحفاوة والإعجاب.

ومن المفيد هنا أن نتوقف لحظة للتعرف - بشكل عام - على هذه الأغاني التي ألهبت المشاعر وأسالت الدموع وهي : "موطني" (أو مدينتي) Furu Sato وكلماتها بالغة الرقة (حسب ما أمكن ترجمته هنا عن ترجمة إنجليزية) فهي تثير ذكريات الطفولة الجميلة وتعبر عن الحنين للمدينة وجبلها ونهرها وللوالدين والأصدقاء القدامى ومغاني الصبا فيها، وتختتم بكلمات حساسة تقول : عندما يتحقق حلمك ستعود لموطنك، حيث تنتظرك تلاله الخضراء ونهره الوادع... والأغنية الثانية Yuyaki Kuyake "الغروب" وكلماتها تتحدث عن الغروب ورنين الأجراس البعيدة في المعبد وتقول: هيا تمسك أيدينا لنعود إلى بلدنا في الغروب والثالثة Kyo no wa sayonara وكلماتها تقول: "فلنكن أصدقاء للأبد ولنستمر على درب الأمل وسوف نلتقي ثانية، احفظ عهد صداقتنا إلى الأبد، ووداعا الآن ولكن فلنلتق مرة أخرى".

هذه الكلمات العاطفية العذبة التي أطلقت فيض مشاعر الشبان والشيوخ من اليابانيين في مناسبات عدة، تضيف أضواء رقيقة حساسة لصورة الياباني في أذهان زائريه، ولقد كشفت لنا هذه الأغاني بأثرها العميق في نفوس مستمعيها عن مدى عاطفية هذا الشعب، وهو جانب لا يطلع عليه الزائر العادي لليابان، بعيدا عن دفء الموسيقى ونورانيتها.

تضمن برنامج زيارة الأوركسترا، بناء على طلبنا، حضور حفل موسيقي لأحد الأوركسترات اليابانية السيمفونية، لأن فتياتنا بحاجة للتعرض لتجارب موسيقية ثرية ومتنوعة لتدعيم خبراتهن الموسيقية. وكان البرنامج الأصلي يتضمن في البداية حضور حفل من الموسيقى التقليدية اليابانية، وهي على أهميتها تظل نوعا موسيقيا خاصاً يرتبط بحضارة ولا يتجاوزها إلى غيرها. ولذلك جاءت تجربة الحفل الأوركسترالي الياباني شائقة ومثيرة لما طرحته من قضايا فنية تستحق التأمل، إذ قدم الأوركسترا السيمفوني "رابسودية لآلات الإيقاع والأوركسترا"، عزفت يومها لأول مرة، بالإضافة إلى رقصة النار من موسيقى مانويل دي فاليا (وهي التي كانت ضمن برنامج أوركسترا النور والأمل)، ثم البوليرو من موسيقى رافيل (وكان كذلك ضمن برنامجنا) وفاتنازية "جرين سليفز" موسيقي فون وليامز. وكان أطرف ما في هذا البرنامج "رابسودية الإيقاع والأوركسترا" وقطعة لمؤلف ياباني (توياما يوزد). والرايسودية مكتوبة لأوركسترا كبير ولكن الدور الرئيسي فيها كان للطبل الياباني التقليدي الكبير، الذي وضع فوق منصة مرتفعة توسطت المسرح وسلطت عليها الأضواء التي بدأت خافتة ثم أخذت تتصاعد تدريجيا مع تطور العزف عليها. وصعد للمسرح عازف ياباني مفتول العضلات أشبه ببطل رياضي، وهو يرتدي زيا يابانيا تقليديا يختلف كلية عن الزي المعتاد لعازفي الأوركسترات، ووقف أمام الطبلة الضخمة وظهره للجمهور، وانحنى في تحية تشبه الصلاة، إذ إن لهذه الطبول بعدا دينيا عند البوذيين. وبدأ يعزف، أو على الأصح "يضرب" بمضربين ضخمين عزفا منفردا له طاب درامي مثير، وأخذ الأوركسترا ينصت في هدوء إلى أن جاء دوره ليلتحم مع الآلة المنفردة "البطلة" في هذا العرض، وبعد أن قال الطبل كلمته جاءت موسيقى الأوركسترا بطابعها الخماسي (لأن السلم الخماسي هو سمة كثير من الشعوب الآسيوية) وبعد فقرة لامعة من آلات النفخ النحاسية، قدم الفلوت لحنا رقيقا منمقا مع طرقات إيقاعية من الشخاليل، ولكن الطابع الخماسي ظل حاضرا بقوة طوال "الرابسودية" التي تناوب الإيقاع في آخرها الطبل التقليدي مع آلات الأوركسترا الإيقاعية. ولقيت هذه الموسيقى الجديدة حفاوة هائلة من الجمهور الذي صفق بشدة للمؤلف حين صعد للمسرح، غير أن أحر التصفيق كان موجها للعازف الياباني الذي عزف على آلته التقليدية، بهذا الأسلوب المستحدث الذي وضعها فيه المؤلف في بؤرة العمل الأوركسترالي الذي وفق بين الموسيقى اليابانية القديمة والغربية الحديثة إلى حد أثار حماس الحاضرين.

أما حفل الموسيقي اليابانية التقليدية فقد كان في إطار مضاد تماما لبريق الأوركسترا وقاعات الموسيقى الكبيرة، فقد قدم الحفل في قاعة صغيرة وفي جو حميم، وبدأ من الحادية عشرة صباحا وامتد حتى الرابعة بعد الظهر! (وحضرنا الساعتين الأخيرتين منه) وتناوب العزف والغناء فيه أفراد أسرة كبيرة العدد، عميدها موسيقي مخضرم متمرس له شهرته، أما الآخرون فيمثلون أجيالا مختلفة من أبنائه وأقاربه الصغار وزوجته، حيث عزفوا على آلات الموسيقي اليابانية التقليدية وأشهرها "الكتوتو" "والشاكوهاشي" و"الشاميشن".

والكوتو من أهم آلات الموسيقى المتفننة المسماة GAGAKU وهو آلة وترية تتكون من صندوق يبلغ طولها ستة أقدام تشد عليها أوتار حريرية (13 وترا) ويعزف العازف وهو جالس أمامها على الأرض وهناك دساتين متحركة تتحرك تحت الأوتار لتغيير طبقتها، وهي تعزف منفردة أو بمصاحبة الغناء وأحيانا الرقص والشاميشن آلة وترية شبيهة بالعود ذي الرقبة الطويلة (الطنبور) أما الشاكوهاشي فهي آلة نفخ مهمة أشبه بالناي ولكنها، برغم مظهرها البسيط، قادرة على أداء ملون شائق في السلالم الخماسية والتي تتجه أحيانا نحو الإحساس السباعي. وقد كان العزف في مجملة هادئا رتيبا، وتناوبت العازفات الدخول للمسرح الصغير وهن يرتدين الكيمونوهات الفخمة الزاهية الألوان ويجمعن بين العزف والغناء وقد تغير هذا الإحساس بالرتابة عندما جاء كبير الموسيقيين وبدأ يعزف باقتدار باهر ثم اشترك معه آخرون في ختام الحفل ختاما أكثر حيوية وتفننا. ولقد كان هذا الحفل التقليدي انتقالا لعالم آخر تماما لا يمت بصلة لبرامج وتسجيلات الموسيقي الغربية الخفيفة أو حتى الأوركسترالية الجادة، التي تزخر بها طوكيو وينبهر بها شباب اليابان في اندفاعة القوي لملاحقة الغرب في كل المجالات. وبين هذين الحفلين الموسيقيين: الأوركسترالي والتقليدي تأكدت صورة من صور التعايش بين التراث، والتحديث على النمط الغربي، وأن كانت رابسودية الإيقاع والأوركسترا مثلا فائقا لمحاولات التوفيق الفني الأعمق من مجرد التعايش، وهي محاولة أراها ناجحة نجاحا يستحق الاهتمام عند دراسة موسيقات الشعوب التي تكابد مشكلة التوفيق بين التراث والتحديث في فنونها وتحرص على ألا تتخلى عن هويتها. وبصفة عامة لم نلمس روح العداء والتنافر التي كثيرا ما تعكر الحياة الثقافية، من صراع بين القديم والحديث، وخاصة في الموسيقي. وقد شعرنا من هذه اللمحة السريعة أن كلا منهما له احترامه وتقديره ومجاله وليس بينهما عداء أو تعارض ظاهر.

مراسم التوديع

وفي اليوم الأخير للرحلة أقام مركز نومورا حفلا كبيرا حضره كل أعضاء المركز في طوكيو وخاصة الذين تعاملوا معنا من مشرفين ومرافقات وسيدات أعمال وربات بيوت، وفي حديثها أشارت السيدة نومورا إلى الدروس التي استفادها الشباب الياباني من أعضاء المركز من اطلاعهم على نشاط عازفات الأوركسترا، وكانوا قد التقوا بهن في ختام إحدى الدورات الخاصة بالشباب والتلاميذ التي ينظمها المركز دوريا وقالت أن فتيات النور والأمل يقدمن لنا أنصع مثل لقدرة الإنسان الفذة على قهر الألم، فهن مثل رائع للإرادة الإنسانية وللتفاعل الحي مع الحياة برغم كل شيء، وموسيقاهن الجميلة وابتساماتهن السعيدة هي أجمل وسام على صدر فتيات المركز المشاركات في العناية بهن. وقالت أن نجاح الأوركسترا في حمل رسالته الإنسانية والفنية للجماهير قد فاق كل التوقعات. وتحدث بعدها كثيرون هم رئيسة جمعية النور والأمل وقائد الأوركسترا وكاتبة هذه السطور والقنصل المصري في طوكيو ومدير مصر للطيران كما تحدثت إحدى عازفات الأوركسترا حديثا تلقائيا مؤثرا جدا عبر عن بعض ما شعرت به الفتيات من ارتباط بزميلاتهن اليابانيات ومن تأثر لعمق الروابط الإنسانية خلال هذه الأيام القليلة.

وقرئ علينا خطاب أرسله مدرس من أوزاكا كان قد ترك عمله وحضر خصيصا (على نفقته) من تلك المدينة البعيدة لكي يشارك في رعاية الأوركسترا وكان خطابه أقرب للشعر حين عبر عن عواطفه عند سماعه لهذا الأوركسترا...

وفي هذه اللحظات طغى علينا شعور بان مثل هذه المؤسسات التي تتجه للإنسان وتريد تدعيم الروابط الإنسانية هي أشبه بواحة من السلام والتفاؤل وسط هذا المحيط المتلاطم من المادية والعدوان والظلم والآلام....

وهكذا كان للموسيقي فعل السحر في إذابة حواجز اللغة واختلاف الحضارات وفي إطلاعنا على وجه آخر لليابان لمسنا وعشنا معه في المشاعر الفياضة لمضيفينا وفي تحمسهم العميق لأغانيهم وما تمثله في نفوسهم من قيم عريقة، ولمسنا في ذلك الائتلاف بين الماضي والحاضر والتراث والتحديث (أو التغريب) في نسيج ثقافي غير مألوف في مثل هذه الشعوب الصناعية المتقدمة.

وكانت تجربة لعلنا نستطيع أن نستمد منها بعض الدروس في معالجة قضايا التطور الثقافي تجنبا للفصام والتناحر بين الماضي والمستقبل وهو ما يمكن أن يعرقل حركة الثقافة في المجتمعات ويبطئ مسارها.

 

سمحة الخولي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




أوركسترا النور والأمل





مسز نومورا مديرة مركز نومورا





التدريب الموسيقي مرتبط بتراث اليابان الروحي والبدني أيضا





لحظة هادئة في خضم الموسيقى





مسئولو مصر والهند وألمانيا وهي من المراكز الشبيهة بمركز نومورا في اليابان