الغطاوي.. ألغاز شعبية كويتية
الغطاوي.. ألغاز شعبية كويتية
من التراث الشعبي العربي "الغطاوي" بحكم طبيعتها "الاختبارية" فن يقوم على السؤال المحير والجواب المحدد، على النقيض من الأسطورة، مغامرة العقل الأولى، فهي فن السؤال المحدد والجواب المحير.. في أقدم محاولة إنسانية لفك شفرة الكون ولغز الحياة أو طلسم الوجود. وإذا كانت أنماط التعبير الأدبي الشعبي تقتضي عادة راويا منتجا وسامعا مستهلكا، فإن الألغاز هي أكثر هذه الأنماط التي يحتاج قالبها الفني إلى راو مبدع (يسأل) ومجاوب مشارك (يرد عليه) بل سرعان ما يتبادلان المواقع، إنتاجا واستهلاكا، فهو أي القالب اللغزي، من هذه الناحية، نوع من الاتصال المزدوج، أو بالأحرى ثنائي الاتجاه (ذهابا وإيابا)، وقليلة هي الأجناس أو الأنماط الأدبية الشعبية التي لايزال الأداء فيها كمباراة يتطلب مثل هذا الاتجاه الثنائي، أو المزدوج، وذلك على مشهد من جمهور المستمعين. ما هي الغطاوي؟ فن الأحاجي والألغاز في التراث العربي، بنوعيه: الأدبي والشعبي، الكتابي والشفاهي، فن متعدد الأسماء بحسب الأزمنة والأمكنة، ولكنه واحد في وظائفه الفكرية والجمالية، وإذا كان ابن أبي أصيبعة (ت654هـ) ومن جاء بعده من البلاغيين العرب قد ذكروا أن "التعمية" أهم خصائصه، ومن هنا أطلقوا عليه "فن المعمى" فإن اللغز الشعبي الكويتي، من وجهة نظر مبدعيه أو قائليه فن يقوم على "التغطية" ومن هنا شاع المصطلح المحلي "الغطاوي" ومفردها غطاية، واحدة من الغطو. وهذا المصطلح، له نظيره التراثي، فمن أسماء اللغز التراثية "المغطى" كما يقول أبو المعالي سعد بن علي الحظيري (ت568هـ) صاحب أقدم معجم عربي وصلنا في فن الألغاز ـ وفيه، يقول: وإذ كان ابن رشيق القيرواني (ت456هـ) يرى أن اللغز ـ بلاغيا ـ من أخفى "الإشارات" وأبعدها، فإنه يؤكد أن طبيعة هذا الفن، أو منطقه يقوم على "أن يكون للكلام ظاهر عجب غير ممكن، وباطن ممكن غير عجب". وهو ما يذهب إليه أيضا معاصره ابن سينا (ت466هـ) فقد ذكر في مجال حديثه عن وظائف اللغز وطبيعته، "وقد قصد قائله إغماض المعنى وإخفاءه، وجعل ذلك فنا من الفنون التي تستخرج بها أفهام الناس، وتمتحن أذهانهم.. ويحسن فيه ما كان ظاهره يدل على التناقض أو ما جرى مجرى ذلك، فالغموض والتناقض أو ما جرى مجرى ذلك، شرطان أساسيان عنده لبنية اللغز الحسن أو المثالي. وهذا يعني ـ في بساطة ـ أن الفن اللغزي ـ في جوهره ـ هو "فن المتناقضات الظاهرة" أو الخادعة، أو المضللة، أو المفاجئة. وسبيله إلى ذلك إيقاع الائتلاف ـ الذي يبدو مستحيلا أو متعذرا أو عجبا ـ بين المختلفات، على أساس من التشابه المنطقي، في أركان قضية تبدو عادة غير قابلة للتصديق، أو متناقضة مع ذاتها ـ للوهلة الأولى ـ لكن في ضوء منطقها الخاص تجيء صادقة دائما (حيث معرفة الجواب تؤكد هذا الممكن، فيزول العجب ويتحقق صدق الكلام) مثال ذلك "حي جاب ميت، والميت جاب حي" فإن التناقض المخادع هنا سرعان مايزول حين تعرف أن الإجابة هي (الدجاجة والبيضة) أو من مثل "يطلع من بطن أمه يحك ظهر أبوه"، فإذا عرفت أنه عود الثقاب، زال هذا التناقض الخادع.. وتأكدت صحة الجواب. ووسائل الفن اللغزي ـ في تحقيق ذلك متعددة، فهو يتوسل بالتلاعب اللفظي، أو الحيل اللغوية والأسلوبية، مثل استغلال المعاني المزدوجة، كالتورية، أو المشترك اللفظي في اللغة، والجناس، وغير ذلك من محسنات بديعية، لفظية ومعنوية، ويتوسل كذلك بالصور المجازية، فاللغز كما يقول أرسطو في جوهره تعبير مجازي أي يتوسل بالفنون المجازية، يقصد التعمية وتغطية المعنى المراد أو الاسم المقصود المجهول الذي ألغز فيه. ومن هنا لا غرو أن يعالجه البلاغيون العرب القدماء من بين فروع علم البيان، مع الكتابة والرمز والإشارة والاستعارة والتشبيه والتمثيل. اللغز المثالي: القالب والبنية في مجال تحديد العناصر التي تتكون منها بنية اللغز أو "الغطاية" يقول ابن حجة الحموي (ت837هـ) "هو أن يأتي المتكلم بعدة ألفاظ (أوصاف) مشتركة من غير ذكر الموصوف (ويشير بها إلى مقصود مجهول) ويأتي بعبارات يدل ظاهرها على غيره، وباطنها عليه.. "وهذا التعريف البنائي عنده يعني ـ كما يعني عند سائر البلاغيين العرب الذين أخذوا بهذا التعريف ـ أن بنية اللغز"الحسن أو المثالي أو المعياري" تتكون من ثلاثة عناصر هي: شيء ما موصوف أو مقصود مجهول + وصف لهذا الشيء المجهول + عبارة مضللة خادعة عن هذا الشيء نفسه (ظاهرها يدل على غيره، وباطنها عليه). مثال ذلك هذا اللغز في الديك: "أحمر أحمراني، وريوله خيزراني (الياء مقلوبة عن جيم)، يذكر الله، ولا يصوم رمضان" وجدت اللغز مكونا بالفعل من ملغز فيه غير معلوم (=مقصود مجهول) + وصف لهذا الشيء المقصود + عبارة متناقضة وخادعة (هي هنا: يذكر الله ولا يصوم رمضان) فإذا ما أضفنا إلى ذلك صيغة "أنشدك" أو "أحاجيك" التقليدية التي تستهل بها الألغاز العربية، منذ العصر الجاهلي حتى اليوم اكتمل لدينا أيضا ما يعرف باسم "قالب" اللغز، بعناصره الأربعة كما يسميه صاحب معجم الأحاجي والألغاز، ومن جاء بعده، ولاسيما قطب الدين النهروالي (ت990هـ) صاحب أول تصنيف بنائي للألغاز العربية في كتابه المعروف "كنز الأسما في كشف المعمى". واللغز ـ بهذه البنية ـ مكتمل بذاته، كالمثل برغم قصره، فاللغز المثالي أو المعياري يتكون على الأقل من جملتين (2ـ5 كلمات) من مثل: يمشي ويتويزر (=المغزل) يمشي ويهر (=المنخل) أو من ثلاث كلمات مثل "يمشي ويدفن جرته" (=المخراز) أو "يمشي ويطم أثره" (الإبرة) أو "طاسة على طاسة في البحر غطاسة" (=الشمس)، ولكنه لايزيد على أربع جمل عادة (10ـ 12 كلمة) من مثل: "رمانتي شقفتها لقفتها، فيها سحر، فيها بحر، فيها عيون تبتحر (=المرآة) أو "أسود سويداني، في السوق لاقاني، عمامته خضرا، وثوبه سويداني (=الباذنجان) أو من مثل: "أنشدك عن دار كبيرة وناس كثيرة، وماصول يصيح، وولد مليح (= السماء والنجوم والرعد والقمر). وإذا تجاوزنا النمط التقليدي أو الشكل اللغزي المعياري السابق، وجدنا ـ ثمة ـ أنماطا أو أشكالا فرعية كثيرة لهذا الفن، منها: ألغاز أو غطاوى الأطفال الإيقاعية، والغطاوي التراكمية، والمركبة، والحسابية، والحكايات اللغزية.. ومنها على المستوى الشعري: ألغاز الأبوذية، والريحاني، والدرسعي، والأبجدي. مباريات الألغاز في الكويت ليس لإلقاء الألغاز وقت محدد.. اللهم إلا وقت الفراغ والسمر.. غير أنها في الكويت تزدهر في فصل الشتاء، حيث يجتمع أفراد العائلة الكويتية ـ قديما ـ حول "الدوة" أو المدفأة، حيث يطيب لهم السمر من خلال ما يروونه ـ في ليل الشتاء الطويل ـ من "سوالف وحزاوى وغطاوى" كان يترقبها الصغار قبل الكبار في شغف وشوق. كذلك تزدهر في فصل الربيع حيث "طلعات البر"، وفي شهر رمضان كذلك حيث يطيب السهر لأبناء الحي (عيال الفريج) في الشوارع والساحات و(البرايح) القريبة من منازلهم، فيلعبون ويمرحون ويلغزون.. ويزداد التنافس بين مجموعات الصبيان ومجموعات البنات، في لهو فطري بريء. وحيث لا "فوازير" إذاعية أو تلفزيونية آنذاك. ولم يكن الرجال بعيدا عن مثل هذه "المباريات اللغزية" في دواوينهم، خاصة في شهر رمضان وكان الشاعر شخصية محورية في مثل هذه الجلسات اللغزية.. التي كانت لها شروطها "المادية" والمميزة أيضا بطابع التحدي والإثارة.. وإذا كان الأطفال والنساء مغرمين بالألغاز النثرية، فإن ألغاز الكبار عادة ما تكون شعرية ـ في البادية خاصة ـ حيث تشغل الألغاز حيزا أو غرضا مرموقا في الشعر الشعبي، لاسيما الشعر النبطي أو البدوي.. (وعبقرية شعر القلطة نفسه تكمن فيما يضمره من ألغاز ومعميات، يتحدى بها الشاعر المنافس، على مرأى من الحضور)، في مثل هذه المباريات اللغزية ـ خاصة بين الكبار والصغار ـ ما يراعي العمر الزمني والعقلي للطفل، ويتم اجتناب الألغاز المجونية، ذات الإيحاء الجنسي (ظاهرها كذلك وباطنها أو حلها ليس كذلك) في المباريات المختلطة. ولأن النساء أكثر حفظا للألغاز من الرجال، فإن الطفل المبرز في حل اللغز كثيرا ما يقال عنه "أكيد مربيته عجوز". وفي موقف تربوي خلاق، كانت تبدأ جلسة الألغاز الخاصة بالأطفال، بعبارة طريفة تلقيها الجدة أو العجوز، تحرص على أن تبدأ بها الجلسة، تمهيدا لتفعيل العقل (الفكر) قائلة.. هذه العبارة التمهيدية هي: صلوا على النبي، وإذا صليتوا على النبي لا تنسوا أبا الفضائل علي.. إلخ، فيستجيب لها الأطفال في سذاجة فطرية محببة، لكنها سرعان ما تردف ـ بعد الصلاة ـ قائلة للأطفال "..خفيف العقل يتفل وراه" وبحركة لاإرادية قد يستجيب لها أحد الأطفال فيتفل خلفه، دون أن ينتبه إلى "الفخ" الكامن في العبارة، (حيث لا يتفل إلا خفيف العقل) معترفا بذلك ـ بفعلته ـ بأنه خفيف العقل، ولا ينتبه لذلك إلا بعد أن يضحك الآخرون (على هذا الطفل/ الضحية، لفرط غفلته)، فإذا ما تجاوزنا هذا الموقف الضاحك، فإن العبارة دعوة غير مباشرة لليقظة والانتباه، قبل التسرع في الاستجابة الآلية للموقف (حل اللغز). وإذا تعثر أو تلعثم أو تردد المجيب في حل اللغز، استحثه الملاغز بعبارة تقليدية هي "عيز حمارك.." أي عجز، فإذا كان قد عجز حماره عن الحل، فعليه أن "يستسلم" وإذا لم يكن كذلك، فعليه أن يسرع في الرد (حيث عنصر الوقت هنا بالغ الأهمية في قياس ذكاء المجيب، طفلا كان أم كبيرا). وفي حالة فشله، فإنه من الصعب عليه أن يستسلم بل يطلب "مقايضة" اللغز بلغز آخر يطرحه، قائلا: أشتريه.. يعني إبداء رغبته في شراء الحل، بلغز من عنده، لعل خصمه يعجز كذلك، وعندئذ يكون الطرفان متعادلين. الوظيفة الفكرية للغطاوي للألغاز والأحاجي الشعبية ـ في نظر علماء الفولكلور ـ وظائف فكرية وجمالية متعددة، منها الوظيفة الترفيهية والوظيفة التعليمية، والوظيفة التربوية، والوظيفة النفسية والوظيفة الاجتماعية. وإذا مضينا نسأل بعض المتلاغزين عن وظائف الألغاز من وجهة نظرهم: لماذا يحفظون هذه الألغاز أو "الغطاوي"؟ ولماذا يحرصون على ترديدها كلما سنحت الفرصة لذلك؟ ولماذا لا يملك المرء في أية جلسة أو مباراة لغزية، إلا أن يشارك فيها، إبداعا وتذوقا، إنتاجا واستهلاكا كلما كان قادرا على ذلك؟ ولماذا يطرح ـ هو ـ الألغاز على الآخرين؟ ولماذا يقبل أن يشارك الحضور في البحث عن الحلول حتى لو لم يكن اللغز موجها إليه؟ بعبارة أبسط: فيم يكمن سر إعجابهم بالألغاز؟ وهل لروايتها وإلقائها من غاية؟ وما هي؟ وفي ضوء إجاباتهم وردودهم يمكن القول إن الوظائف اللغزية في الكويت لا تخرج ـ في نظرنا ـ عما قرره علماء الفولكلور، إذ كانت الوظيفة التي حظيت بإجماع الكبار والصغار، والرجال والنساء، الشباب والأطفال، المتعلمين وغير المتعلمين، هي الوظيفة الترفيهية، حيث المباريات اللغزية ـ في رأيهم ـ وسيلة بسيطة محببة من وسائل التسلية والترفيه، والترويح عن النفس ـ بعد عناء يوم طويل شاق من العمل ـ وتزجية وقت الفراغ ـ ليلا ـ في عمل شيء مفيد، على نحو جماعي مشترك. ثم هي سهلة الحفظ والرواية، وتعلق بالذهن حال سماعها، ومن اليسير أيضا أن يرددها المرء، ويقولها للآخرين، ويشاركهم سمرهم، على نحو إيجابي فاعل. وتتجلى هذه الوظيفة أساسا في الفن اللغزي بعامة، خاصة الألغاز المجونية (ظاهرها جنسي وباطنها غير جنسي) مما يدفع بالمتلقي إلى الذهاب ـ بعقله ـ بعيدا ويقع في تابو المحظور الجنسي، وقد يصيبه الخجل، فيثير منظره حينئذ ـ وربما سوء ظنه ـ ضحك الآخرين.. ثم تكون الإجابة مفاجأة له عندما يعلم أنها كانت أبسط وأقرب، مما ذهب إليه تفكيره، ومن هنا تكون المفاجأة (والمفاجأة عامل من عوامل الضحك، كما يقول الفلاسفة) وكذلك الأمر في الألغاز العبثية، لأنها بدورها تسخر من غفلة بعض اللاعبين.. وعموما فالغفلة ـ ومثلها الحمق ـ تثير الضحك، بل لا نملك إزاء أصحابها إلا أن نسخر منهم ونضحك عليهم. وقد حظيت الوظيفة التربوية للفن اللغزي بالمرتبة الثانية، فهو بحكم كونه تساؤلا قوامه التحدي والاستجابة فإنه يدفع المرء ـ خاصة الأطفال والشباب ـ إلى التأمل ودقة الملاحظة وإدراك العلاقات والمقارنة بين الأشياء والوقوف على أوجه التماثل والتضاد أو التشابه والاختلاف، فهو من هذه الناحية رياضة ذهنية تؤدي إلى تنمية الملكات العقلية، وتجلية الذكاء، وتنشيط الخيال، وهو ـ من جهة أخرى ـ تدريب للذاكرة، واختبار لها ولقدرتها على الأداء والتذكر، ولقوة الملاحظة، والبداهة والفطنة، إنه إذن "يحيي العقول النائمة" على حد تعبير بعض مؤدي الألغاز. والفن اللغزي، بحكم طبيعة أدائه الثنائية أو المزدوجة (سائل ـ مجيب) أو الجماعة ينمي روح التآزر والتعاون والتآخي بين المشاركين أو اللاعبين. والفن اللغزي ـ كذلك ـ بحكم طبيعة بنيته الفنية التي تقوم على الغموض والتعمية أو التغطية ـ تدفع المرء إلى النظر في المشكلة من جميع جوانبها الممكنة. إن القالب اللغزي في صيغته التقليدية مشكلة أو قضية تبحث عن التحليل السياقي للغز/ القضية، إذ يجب على اللاعب إدراك القواعد والافتراضات التي تحكم القضية/ اللغز، وأوجه المقارنة الممكنة، وكشف أوجه الائتلاف بين المختلفات على أساس من التشابه المنطقي في أركان قضية تبدو عادة غير قابلة للتصديق، أو متناقضة مع ذاتها، لكنها في ضوء منطقها الخاص تبدو صادقة دائما، الأمر الذي يكشف ـ عند ذكر الحل ـ عن حسن أو سوء تقدير الاحتمالات الحدسية عند المجيب، لأن خصمه يعرف ـ وربما غيره من الحضور ـ الجواب الصحيح. مثال ذلك هذا اللغز في (العيون): بيض قراقرهم، سود مناقرهم، يحجون بيت الله، وهم في منازلهم. أو هذا اللغز في (الموت): حمامتين فوق البيت، يلقطون حب السبيت، إن عطوني ما بغيت، وإن عطوا غيري بكيت. ومن ثم فالحذر هنا واجب يقتضيه السياق، قبل التسرع في ذكر الجواب. وقد أكد بعض الرواة ـ من الكبار والمتعلمين ـ أن "اللذة أو المتعة" التي يحدثها الفن اللغزي عند المتلقي إنما تكمن في هذه الوظيفة.. إنها لذة الكشف ومعرفة الجواب الصحيح والحل الصواب للمشكلة، وأنها ـ كما يقول بعضهم ـ لذة تتحقق لبرهة قصيرة ولكنها رائعة، لحظة البحث عن هذا الحل المنشود، يقوم ـ أيضا ـ خلالها المرء بتنظيم مخزونه "المعرفي" بحثا عن الجواب الصحيح في ضوء الإمارات والقرائن التي يتضمنها اللغز/ السؤال، فكأن المتعة أو لذة النص هنا تكمن في عملية "التخمين" أو "التحزير" نفسها، بمعنى أن المجيب يختلط عليه على الفور ـ لدى سماعه اللغز ـ ما يعرفه من معلومات، بسبب ذكاء السؤال وعدم مباشرته، ويصبح ـ المجيب ـ مطالبا بأن يقوم بسرعة بإعادة تنظيم مخزونه من المعلومات والبحث فيه من جديد عن الإجابة المناسبة، ابتغاء كشف "الغطاء" عن "الغطاية" وإعلانه على الجميع في فخر وزهو، وهنا تتجلى عبقرية الألغاز ـ تربويا ـ لأنها تتحدى ـ بقالبها الأدبي المميز ـ عقولنا، وتدفعنا إلى التفكير في قالب مثير، وتجعلنا "نشاهد" العقل وهو "يعمل"، و"يراقب"، و"يُقوم" نفسه بحثا عن الحل السليم. وظائف تعليمية واجتماعية ونفسية وقد حظيت الوظيفة التعليمية بالمكانة الثالثة فالألغاز بحكم طبيعتها الاختبارية ـ باعتبارها سؤالا وجوابا ـ تمثل تحديا لمعارف المرء، ومعلوماته، وخبراته وتجاربه، ولكنه تحد من نوع خاص، إنه تحد مرح ـ إذا صح التعبير ـ أي يتحقق في إطار من البهجة والمتعة والإثارة التي يفرضها أو يقتضيها "جو" المباريات اللغزية، إنه إذن "التعلم" بواسطة "اللعب": إن الألغاز ـ إذن ـ تنهض بجانب تعليمي بشكل غير مباشر، فهي تهدف إلى ترسيب معلومة من المعلومات أو حقيقة من الحقائق، ونقل التجربة، والخبرة، فضلا عن كونها نوعا من التدريب على الرياضة الذهنية، لشحذ الفكر وتنمية الخيال. ويستشهدون للوظيفة التعليمية بنماذج من الألغاز الخاصة بالمعتقدات الدينية والمعارف الشعبية، والألغاز اللغوية، والألغاز الحسابية والألغاز القصصية، وألغاز البحر، وألغاز الطبيعة، وغيرها، فكلها ألغاز ـ كما يعتقدون ـ تهدف إلى تثقيف المرء وتعليمه من ناحية، وشحذ الفكر ـ من ناحية أخرى ـ عن طريق التأمل والمقارنة والتداعي، وإعمال العقل وإطلاق العنان للخيال، لإدراك علاقات جديدة ـ يستدعيها حل اللغز بنجاح ـ من شأنها أن تسبغ على موضوع اللغز مدلولا جديدا، ربما كان مجهولا للكثيرين الذين يستمعون إلى اللغز لأول مرة. مثال ذلك هذا اللغز في (البطيخ): قبة خضراء، متروسة عبيد، القفل قفل الله، والمفتاح حديد. ثم هي ـ من ناحية ثالثة ـ اختبار في درجة معرفة المشاركين في هذه المباريات اللغزية. مثال ذلك: أنشدك عن سبعة، لا هي من الإنس ولا من الجن ولا من بطن أم ولا من ظهر أب؟! ويكون الجواب: آدم +حواء +غراب هابيل +ناقة صالح +كبش إسماعيل +بقرة موسى +حية موسى. ومن الألغاز التعليمية ذات النبرة الوعظية: "شنهو الثلاثة اللي ما يشبعون من ثلاثة؟". ويكون الجواب: العين ما تشبع نظر، والأذن ما تشبع سمع، والأرض ما تشبع مطر. إن المباريات اللغزية تتيح لأفراد الجماعة ـ على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم الاجتماعية ـ فرصة للتخاطب الجماعي بينهم، ماداموا قادرين على المشاركة الإيجابية فيها، أي على إلقاء الألغاز، فهي من هذه الناحية ذات وظيفة اجتماعية، وتتجلى هذه الوظيفة أكثر ما تتجلى، لا بين الصغار في محيط العائلة والمدرسة، ولكن بين الكبار أنفسهم، من رواد "الديوانيات" الكويتية، خاصة عندما يشارك في مثل هذه المباريات بعض رواد الديوانية الجدد، أو الغرباء، وأنها أحيانا قد تكشف أيضا ـ بشكل غير مباشر ـ عن "مواهب" بعض هؤلاء الرواد، وعن مهاراتهم العقلية وقدراتهم الكامنة على التفكير السليم، وخبراتهم المعرفية الواسعة، ودرجة معرفتهم، فيحظون عندئذ بإعجاب واحترام الجماعة من رواد الديوانية القدامى وأصحابها، ولاسيما كبار السن العارفين، أي حفظة المعرفة آنذاك. ومثل هذا الإعجاب، من شأنه أن يؤكد الانتماء العقلي أو المعرفي ويزيد التلاحم الاجتماعي بين الرواد القدامى والجدد ـ وهم عادة من الشباب والشعراء ـ المتسامرين. وفي ضوء تجربتي الشخصية يمكن القول أيضا إن نجاحي في حل بعض الغطاوي أو الألغاز التي كان يلقيها أو بالأحرى كان "يختبرني" فيها بعض كبار السن، كان يؤدي إلى كسر الحواجز الاجتماعية والثقافية بيني وبين هؤلاء المتسامرين. في ضوء الإجابات المتعددة، عن الوظيفة النفسية ـ بالمعنى العام ـ فقد أجمع رواة الألغاز، على أن هذه المباريات اللغزية (ونجاحهم في معرفة الحلول) تؤدي إلى تقوية الشعور بالأنا (الفردية والجماعية) والإحساس بالتفوق، والرضا عن الذات، عندما يأنس المرء في نفسه القدرة على تجاوز المتناقضات الملغزة، فيرضي رغبته في فهم الغموض وكشف الإبهام الكامن أو المغطى. ولكن أحدا لم يدرك أن الألغاز يمكن أن تلعب دورا ملحوظا في التخلص من القلق والتنفيس عن الميول العدوانية الكامنة، وعموما فطابع التحدي بين الملغز وخصمه، وإن لم يدركاه ـ يضفي عادة قدرا مقبولا من الإثارة والراحة والتنفيس في آن واحد، ليس بين المتلاغزين فقط، ولكن أيضا بين جمهور الحضور جميعا. بدائل الألغاز الشعبية إذا كانت الألغاز الشعبية لم تعد ـ اليوم ـ تلقى الرواج في الثقافة الشفاهية المعاصرة، فإن هذا لا يعني أنها في طريقها إلى الاندثار، وأن وظائفها في سبيلها إلى الزوال، فهذا ليس صحيحا.. ستبقى الفنون اللغزية، بوظائفها المتعددة، حية فاعلة، مادامت هناك حاجة إلى "صناعة" طفولة سوية.. ولهذا فقد تعددت تجليات هذه الفنون اللغزية في الثقافة الكتابية والمطبوعة والمسموعة، المرئية والإلكترونية.. المعاصرة، لا أعني هنا فوازير رمضان سلبا أو إيجابا، وإنما أعني حرص دور النشر العالمية على إصدار مجلات أسبوعية وشهرية متخصصة في الفنون اللغزية. فضلا عن إصدار الكتب الدورية وغير الدورية، ومنها أيضا الروايات أو الألغاز البوليسية التي تلقى ـ عالميا ـ رواجا منقطع النظير، فضلا عن إصدار عدد من المعاجم ودوائر المعارف المتخصصة في الألغاز، وفي الكلمات المتقاطعة..
|