شريحة لحم
شريحة لحم
للكاتب الأسترالي جاك لندن بآخر قطعة من الرغيف، مسح (توم كينغ) ماتبقى في الصحن من بقع المرق الأبيض. مضغ لقمته الأخيرة وهو منشغل البال. قام عن المائدة والشعور بالجوع لم يفارقه بالرغم من أنه أكل وحده. فقد تم تنويم الأطفال مبكراً، أملا في أن ينسيهم النوم عشاءهم. زوجته هي الأخرى لم تذق شيئا. كانت تركز عليه في هدوء نظرات قلقة هزيلة، منهكة، فقيرة، تنتمي للطبقة العاملة. برغم ذلك فمحياها لايزال يحتفظ بقسمات جمال عابر. لقد أنفقت كل مالديها من ملاليم لشراء الرغيف، واقترضت من جارتها ما تعد به مرقا. جلس قرب النافذة على كرسي يئز تحت ثقل جسده الضخم. رفع غليونه بشكل آلي إلى فمه، بينما راحت يده الأخرى تبحث عن التبغ في جيب قميصه. قطب حين تذكر أن ما كان معه من تبغ قد نفد. حركات يده بطيئة وثقيلة بسبب انتفاخ عضلاته.. ملابسه الخشنة تبدو قديمة مهترئة وغير منسجمة مع بعضها، حذاؤه مهترىء يعود إلى تاريخ بعيد، وقميصه القطني مهترىء عند الرقبة، قد انتشرت عليه بقع من الزيت والأصباغ لايمكن إزالتها. إن مايفضح دون أدنى خطأ محتمل اهتمامات (توم كينغ) هو وجهه، وجه ملاكم محترف، عارك خلال سنوات طويلة فوق الحلبة المربعة، واختبر جميع أصناف وحوش الملاكمة. وجه حليق تبدو قسماته واضحة ومتوعدة. شفتاه لاشكل لهما، تبدوان كفم أولي من الخارج، يشبه ندبة إلى حد ما. ذقنه عدواني متوحش وصلب. حركات عينيه بطيئة خالية من كل تعبير، تحت حاجبين كثيفين مقطبين على الدوام. إنها تمثل الطبيعة المتوحشة لهذا الكائن العنيف من رأسه إلى قدميه. جبهته ضيقة تميل نحو شعر رأسه الحليق الذي تبدو من خلاله النتوءات والأورام. أنفه منكسر من جهتين وقد اعوج من كثرة ماتلقى من اللكمات العنيفة. أذنه أصبحت شبيهة بقطعة خس، متورمة وقد تضاعف حجمها. أما ذقنه الحليق فقد انتصب زغبه القوي تحت الجلد. وأعطى له سحنة قرمزية اللون. باختصار فهيئته شبيهة بهيئة أشخاص لانستغرب من مصادفتهم في الأزقة المعتمة أو الأماكن النائية الخالية من المارة. ولكن برغم كل هذا فتوم كينج ليس شخصا مسيئا، ولم يسبق له أبداً أن ارتكب أي عمل إجرامي، باستثناء بعض المشاجرات العادية في محيطه الاجتماعي.. لم يسبق لأحد أن رآه يبحث عن شخص قصد الإساءة إليه. إنه ملاكم محترف يحتفظ بكل عنفه للظهور أمام الجمهور. أما خارج الحلبة فهو إنسان وديع وهادىء المزاج. وعموما لم يكن له خصوم أو أعداء. المعركة بالنسبة إليه قضية. فعلى الحلبة يضرب ليدمر، ليشل، ليحطم، ولكن من دون موقف عدائي، وفي إطار احترافي فقط. حشود من الناس تتجمع لمشاهدة رجال يتم إلقاؤهم خارج الحلبة. الرابح يحوز النصيب الأكبر من المداخيل. منذ عشرين سنة مضت، واجه في مقابلة على الحلبة (وولو مولو) المراوغ، وكان يعرف أن فك هذا الأخير قد شفيت حديثا من كسر أصابه في مقابلة (بنيو كاستل) منذ أربعة أشهر. وجه (توم كينج) تكتيكه في اللعب مستغلا نقطة ضعف خصمه، وفي الجولة التاسعة كسر فكه. وهذا ليس بسبب أي عداء للمراوغ، ولكنه الحل الوحيد للتخلص منه وربح النصيب الأكبر، وليس عليه لوم في ذلك، إنه قانون اللعبة، والاثنان معاً يعرفانه جيداً. ظل (توم كينج)، القليل الكلام بطبعه، قرب النافذة غارقا في صمت كئيب. ينظر إلى يديه، ويتفحص العروق النافرة، والمفاصل المشوهة الشاهدة على الوظيفة المؤداة بهما. إنه يجهل القول المأثور: (حياة الرجل هي حياة شرايينه)، إلا أنه يعرف جيداً معنى انتفاخ عروقه، فقلبه ضخ فيها كثيراً من الدم تحت ضغط كبير. لقد أجهد لدونتها فارتخت.. وهو الآن يتعب بسهولة، ولم يعد قادراً على تحمل عشرين جولة ضربة إثر ضربة.. لذلك يحتفظ بقواه بملامسة الأرض أو بالاستناد إلى الحبال أو إلى خصمه.. أمام قاعة واقفة صاخبة، يتقدم، يضرب، يراوغ، يمطر خصمه بوابل من اللكمات، وفي نفس الوقت يتلقى هو الآخر وابلا من اللكمات.. خلال ذلك يضخ القلب الدم في الشرايين، فتنتفخ خلال هذا الجهد، ثم تتقلص بعد ذلك، ولكن ليس كما كانت أبداً، كل مرة، وبشكل غير ظاهر، تبقى منتفخة شيئا ما. وحين اعتقد أنه يرى يديه في أوج عنفوانهما وقوتهما، انكسر مفصل يده على رأس (بيني جونز) الملقب بـ (رعب بلاد الغال). راوده من جديد إحساس بالجوع. ـ رباه لو استطعت الحصول على شريحة لحم! همس بحنق وهو يجمع قبضتيه الضخمتين. ـ لقد حاولت عند (بيرك) و (صاولي)، قالت زوجته وكأنها تعتذر. ـ ورفضا أن يقرضاك. ـ ولو بفلس واحد، اعترف (بيرك).. ثم توقفت مترددة. ـ تابعي ماذا قال؟ ـ قال: في نظره، أن (صانديل) سيهزمك هذا المساء، وأنك مدين له بقدر مالي لا بأس به. زمجز (توم كينج) ولم يجب بشيء، تذكر فقط أيام شبابه، حين كان يلقي أحيانا شرائح اللحم الفائضة على حاجته لمدة طويلة. في ذلك الوقت كان بإمكانه أن يستدين من (بيرك) الآلاف من شرائح اللحم. لكن الزمن قد تغير، وأصبح (توم كينج) مسنا، والملاكمون المسنون يتبارون في نوادي الدرجة الثانية، ولايمكنهم استدانة مقدار مالي كبير من التجار.استيقظ هذا الصباح برغبة في شريحة لحم، وهي رغبة ملحاحة. منذ أن علم الممونون أن خصمه هو (صانديل) توقفوا عن إمداده بما يحتاج إليه. حتى كاتب النادي دفع له بثلاثة الجنيهات، وهي تعويض الخاسر، دون أن يضيف له ولو سنتاً واحداً. من حين لآخر كان يحصل على بعض الشلنات من أصدقاء قدامى.. إلا أنهم كانوا مثله يشكون من البطالة وجفاف هذه السنة.. لم تكن تمارينه كافية وتغذيته سيئة، كما أنه لايستطيع تأدية أجرة مدرب.. إنه يحتاج إلى تغذية كافية، وقليل من المشاكل بالمقارنة مع مايعانيه.. لم يكن مرتاحا في تمارينه بمفرده، وهو مسئول عن زوجة وطفلين. كما أنه من الصعب اكتساب اللياقة في سن الأربعين بالمقارنة مع سن العشرين. ـ كم الساعة الآن ياليزي.. سأل (توم كينج) زوجته. خرجت بدورها لتسأل عن الساعة وعادت: الثامنة إلا ربعاً. ـ المباراة ستبدأ بعد ساعة من الآن إذ ستسبقها مباريات أخرى. قام بعد عشر دقائق من الصمت: الواقع ياليزي، هو أنني لم أتدرب كما يجب. وضع قبعته على رأسه وتوجه نحو الباب. لم يطلب منها أن تقبله. لايفعل هذا أبداً وهو ذاهب، لكنها هذه المرة أخذت المبادرة وطوقت عنقه بذراعيها ترغمه على الانحناء نحوها: حظ سعيد يا (توم) يجب أن تصفي حسابه، إنه ضروري. أجبر نفسه على الضحك، بينما هي تلتصق به، من فوق كتفها عبرت نظراته الغرفة العارية. هذا كل مايملك في العالم، يضاف إليه واجب الإيجار المتأخر وزوجة وطفلان.. ترك كل هذا وذهب في الليل يبحث عن الطعام لأسرته.. ليس كعامل عصري ذاهب إلى عمله الآلي، ولكن بطريقة قديمة وبدائية.. يقاتل من أجل نيله. ـ يجب أن أنهي قضيته، قال مرة أخرى، بصوت يائس. الضرورة تفرض هذا: ثلاثون جنيها، تمكنني من تسديد كل ديوني، ويبقى منها القليل. أما إذا خسرت، فلن أنال شيئا، حتى ما أؤدي به تذكرة (الترامواي) لأعود إلى البيت.. إلى اللقاء، عجوزتي لو ربحت فسأعود بسرعة إلى المنزل. ـ وسأنتظرك! صاحت هي الأخرى في صحن البيت. كان عليه أن يمشي كيلو مترين على قدميه ليصل إلى النادي.. خلال الطريق تذكر أيام انتصاراته حين كان بطلا للوزن الثقيل.. كان يذهب على متن سيارة ومعه بعض كبار المراهنين.. خذ مثلا (تومي بورنس) و (جاك جونسون) الأمريكي الأسود، إنهما يتنقلان على متن السيارة، بينما يمشي هو على قدميه، والجميع يعلم أن المشي لمسافة كيلو مترين ليس تهييئا مهما بالنسبة للمقابلة. إن منظمي المباريات لايتفاهمون مع الملاكمين المسنين.. ندم (توم كينج) على عدم تعلم مهنة أو حرفة، وهذا شيء نافع في نهاية الأمر. لكن أحداً لم ينصحه بذلك.. وبرغم هذا فهو يعرف أنه لم يكن ليتبع هذه النصيحة. إنه يربح مبالغ ضخمة بعد مقابلات سريعة.. تليها فترات من الراحة والتجوال.. وسيل من المشجعين يربتون على ظهره، وآخرون سعداء بتقديم كأس له، مقابل بضع دقائق من الدردشة. وفوق كل هذا، الشهرة، القاعات في حالة هستيرية، والحكم يعلن: (توم كينج هو المنتصر) ثم يظهر بعد غد اسمه على الجرائد. إنها الأيام الرائعة! في تلك الفترة ألقى (توم كينج) بعدد من الملاكمين المسنين خارج الحلبة. كان يمثل الشباب والفجر، وبالنسبة لهم كان العمر في غروبه.. لا عجب في قهر ملاكمين تورمت عروقهم وتآكلت مفاصلهم المتعبة من جراء سنوات القتال فوق الحلبة. تذكراليوم الذي ألقى فيه خارج الحلبة الملاكم (ستو شربيل) في الجولة الثامنة عشرة، وكيف بكى المسكين كطفل في مستودع الملابس.. ربما كانت عليه متأخرات إيجار، أو تنتظره زوجة وأطفال في البيت.. أو ربما لم يتناول (بيل) في ذلك اليوم شريحة لحم.. برغم ذلك قاتل بشكل رفيع، ولكنه تلقى وابلا من الضربات القوية.. الآن وانطلاقا من تجربته الشخصية يعرف أن (ستوشر بيل) كان يلاكم من أجل مسألة جدية وليس كما يفعل (توم كينج) الشاب المغرور بالشهرة ونقود الجيب.. كان هذا منذ عشرين سنة.. ولاعجب في أن يبكي (بيل) بعد ذلك في مستودع الملابس. وها هو الآن قد أصبح ملاكما قديما، يواجهونه بملاكمين شباب مثل (صانديل) القادم من زيلندا الجديدة تسبقه شهرته، ولا أحد يعرف عنه شيئا في أستراليا. لذلك واجهوه مع العجوز (توم كينج). وإذا أظهر (صانديل) مهارات عالية فإن المنظمين يبحثون له عن ملاكمين أقوياء ومبالغ ضخمة. وهذا وحده كاف ليجعله يلاكم بكل ما أوتي من قوة، ليربح المال والشهرة والمستقبل.. الحجر العثرة الذي يعترض سبيله نحو الشهرة والثروة هو (توم كينج).من كثرة التفكير، تجسد الشباب على شكل (نيميزيس) (Nemesis) ـ إلهة الانتقام عند اليونان ـ إنه يحطم العجزة دون علم أن دوره سيأتي ليتحطم هو الآخر من طرف الشباب نفسه. وهذا لأن الشباب دائما يتجدد، ولكن العمر هو الذي يمضي.. وصل (توم) إلى النادي، ابتعدت جماعة من الشباب المتسكع فاسحة له الطريق.. ـ إنه هو، (توم كينج) قال أحدهم. في الداخل صافحه شاب آخر بحيوية وسأله عن حاله، فرد (توم) (في حالة جيدة) وهو يعرف أنه يكذب، فلو كان معه جنيه واحد لأعطاه إياه حالا مقابل شريحة لحم. خرج (توم) من المستودع يتبعه مساعداه، فاستقبله الجمهور بالتصفيق، وكان يرد التحية يمينا وشمالا برغم أنه يعرف منهم القليل فقط، فأغلبيتهم من البيض الذين لم يكونوا قد ولدوا بعد حين كان يحصد انتصاراته الأولى. على الحلبة ضغط الحكم على يديه، إنه (جاك بال) الملاكم القديم المحطم، إنه لم يصعد إلى الحلبة منذ عشر سنوات.. فرح (توم كينج) فقد كانا ملاكمين معا، ويمكن (لجاك بال) أن يتغافل إذا تجاوز (توم) قوانين اللعبة ضد (مانديل). كان بعض الشبان يصعدون الواحد تلو الآخر إلى الحلبة، فيقدمهم الحكم للجمهور معلنا تحدياتهم: ـ الشاب (برونتو) من (سيدني) الشمالية يتحدى الفائز في هذه المباراة بمبلغ إضافي قدره خمسون جنيها. صفق الجمهور بحرارة حين صعد (صانديل) إلى الحلبة. تصفح (كينج) بفضول خصمه الذي سيدخل معه بعد قليل في معركة دون رحمة، كل يحاول القضاء على خصمه وإفقاده الوعي.. لوجهه جمال ذكوري، وعنقه القوي العضلات ينم عن جسد جميل رائع. قبل سنوات كان (توم كينج)، وهو في كامل قوته، لايشق له غبار، ينزعج ويسر من هذه المقدمات، لكنه اليوم ظل جالسا مبهوراً عاجزاً عن طرد تلك الصورة عن الشباب من رأسه. وقف (صانديل) نزع قميصه. فتمكن (توم) من التملي في الشباب عاريا أمامه. صدر واسع وعضلات قوية تنزلق تحت الجلد الصافي.. كل الجسد يغلي بالحياة.. انتبه (توم) إلى نفسه فوجد أنه لم يفقد رشاقته بعد.. لكن ليست كما كان عند بداية مشواره. رن الجرس، جمع الملاكمان قبضتيهما، وبتحفز بدأ (صانديل) يتحرك كآلة فولاذية ونوابض متوازنة، كجهاز رمي حساس، يتقدم، يتراجع، ينط، ضربة للعين، وأخرى في الضلوع، راوغ ضربة وجهها (توم)، ينسل في رقصة خفيفة ليعود في أخرى متوعدة.. إنه عرض خلاب، والجمهور يصيح من الإعجاب. لكن (توم كينج) لم يخلب. لقد تحمل معارك كثيرة ضد شبان آخرين، فلم يعط الاعتبار لمثل هذه الضربات السريعة والدقيقة على أنها خطيرة. طبعاً فـ (صانديل) يريد استعجال الأحداث منذ البداية.. إنها طريقة الشباب المندفع لاستهلاك طاقته في ثورات خرقاء وهجومات غاضبة ليهزم خصمه تحت قوته المندفعة ورغبته الجامحة.ظل (صانديل) يتقدم ويتراجع، يظهر يمينا ليأتي شمالا، خفيف الساقين، قوي القلب، منفلتا ناطا مثل مكوك طائر، يؤدي بين حركتين، سلسلة من الحركات البينية، الموجهة لتحطيم (توم كينج)، ذلك العائق الفاصل بينه وبين الثروة. وظل (توم) يتحمل كل هذا بصبر، فهو يفهم اللعبة ويعرف قيمة الشباب الذي لم يعد متوفراً عليه. لذلك لايمكن فعل أي شيء قبل أن يفقد الآخر قليلاً من طاقته.. انحنى (توم) عمداً ليتلقى عدة ضربات على أم رأسه، إنها شيطنة في اللعب ولكنها مقبولة.. كان بإمكان (توم) الانحناء أكثر ليتلافى الضربات، ولكنه تذكر كيف تكسرت إحدى مفاصل يده على رأس الملاكم (رعب بلاد الغال)، فهذه اللكمات ستكلف (صانديل) إحدى مفاصل يده.. لم ينتبه الشاب لذلك بل غالى في الضرب على رأس (توم) وبقوة كبيرة، ولكن فيما بعد سيحس بمفعول المباريات الممتدة، وسيذكر كيف حطم إحدى مفاصل يده على رأس (توم كينج).كانت الجولة الأولى كلها لصالح (صانديل) الذي ألهب حماس الجمهور، وسحق (توم كينج) بسيل من اللكمات التي لم يرد عليها ولو مرة واحدة مكتفيا بحماية وجهه والانحناء أو الالتصاق بخصمه ليمنعه من الضرب.. من حين لآخر يقوم ببعض المراوغات أو يحرك رأسه وذلك في حركات ثقيلة دون اندفاع أو نط حتى لايضيع ولو ذرة من طاقته. خبرته كرجل ناضج تحذره من أن يترك هذا الشاب يرغي قبل أن يرد ضربة بضربة.كانت حركات (توم كينج) ثقيلة وممنهجة.. عيناه تبدوان متعبتين.. وبرغم ذلك لاشيء ينفلت لهما.. فهو لايرمش حين توجه إليه ضربة ما، إنه ينظر بهدوء ويقيس المسافات.. خلال فترة الاستراحة، يتنفس (توم كينج) بعمق، الهواء الذي تحدثه منشفة المساعد. تهادت إلى مسمعه أصوات من القاعة (لماذا لاتلاكم يا (توم)! هل خفت من الصغير!..) ثم سمع تعليق أحد المتفرجين (إن عضلاته متشنجة، ولايستطيع التحرك بسرعة. من يراهن بجنيهين مقابل جنيه واحد لصالح صانديل!) عندما رن الجرس أخذ كل ملاكم مكانه، كان (صانديل) يتحرك فوق ثلاثة أرباع الحلبة، بينما (توم كينج) يتحرك فوق أقل مساحة ممكنة على الحلبة اقتصاداً للطاقة، على اعتبار أنه لم يتدرب جيداً ولم يأكل جيداً إضافة إلى أنه قطع مسافة كيلو مترين على قدميه من البيت إلى النادي. كانت هذه الجولة مثل سابقتها. (صانديل) يهدر قواه بسخاء اعتباراً لشبابه، و(توم) يقود المعركة كقائد مستهلك، معتمداً على حنكة وحكمة كان ثمنهما صراعا طويلا ومريرا.. بالنسبة لأغلب المشاهدين لم يكن (توم) في كامل لياقته. كانوا يعبرون عن هذا الرأي ويراهنون على (صانديل) بثلاثة جنيهات مقابل واحد. وقبل قليل ممن يعرفون (توم) هذا الرهان. بدأت الجولة الثالثة كسابقتها، وهو ما أعطى ثقة كبيرة (لصانديل)، فترك نفسه دون دفاع.. وهذا ماضبطته عينا (توم كينج)، فأطلق لكمة بيده اليمنى، كانت أول ضربة أصابت فك (صانديل) فانهار فوق الحلبة مثل ثور.. بقي الجمهور مشدوها وهو يهمس بإعجاب خجول.. فعضلات الرجل ليست متشنجة، فباستطاعته أن يوجه ضربة قوية كمطرقة الحداد. فقد (صانديل) توازنه والتوى فوق الحلبة. أراد أن يقف، لكن مساعديه أمروه بأن يأخذ راحته خلال حساب الثواني من طرف الحكم. استقام على ركبته والحكم يحسب. وعندما وصل الحكم إلى الثانية التاسعة كان (صانديل) واقفا مستعداً للملاكمة. ندم كينج على عدم قربه أثناء تسديد اللكمة حتى يتمكن من إنهاء المقابلة ونيل المبلغ ثم العودة إلى البيت. استمرت الجولة إلى آخرها، وقد أظهر (صانديل) بعض التقدير لخصمه، بينما استعاد (كينج) حركاته الثقيلة البطيئة ونظراتها المتعبة، حين اقتربت الجولة من نهايتها، جر (كينج) خصمه إلى الزاوية المخصصة لاستراحته، وحين رن الجرس جلس (توم كينج) بسرعة، بينما كان على (صانديل) أن يعبر الحلبة إلى الجانب الآخر. إنه شيء تافه، ولكن الأشياء التافهة لها أهميتها عندما يتم جمعها. (فصانديل) سينفق قدراً من طاقته ويفقد جزءا من دقيقة الراحة الثمينة. ولهذا ظل كينج يجر خصمه إلى الجانب المخصص له عندما توشك الجولة على النهاية. في الجولة السادسة كرر (صانديل) نفس الخطأ، فأطلق (كينج) يده اليمنى إلى فك (صانديل) الذي وقع على أرض الحلبة مرة أخرى، وانتظر انتهاء الحكم من عد الثواني التسعة.. في الجولة السابعة، فترت اندفاعات (صانديل)، وافتقد تلك الحيوية التي بدأ بها. تذكر أنه يواجه أعنف لقاء في حياته، فـ (توم كينج) ملاكم متمرس لايفقد صوابه، متميز في الدفاع، تكتسي لكماته قوة مطرقة قادرة على أن تلقي به خارج الحلبة. و(توم) لايغامر بالضرب كثيراً، إذ لاينسى مفاصله المتآكلة، إذا أراد الاستمرار إلى آخر المباراة. جلس في مكانه ينظر إلى خصمه، فتصور أنه لو تضافرت حيطته الخاصة وشباب (صانديل) نحصل على بطل خطير للعالم في الوزن الثقيل. لكن المشكلة هي أن (صانديل) لن يصبح أبداً بطلا للعالم، تنقصه الحيطة، ولن ينال ذلك إلا بتأدية شبابه كثمن. وحين يمتلك الحيطة والحذر يكون قد فقد شبابه. ثابر (توم كينج) على استغلال جميع الإمكانات المتاحة. فهو لايضيع فرصة للالتصاق بجسد خصمه، فيدس بعنف كتفه في أضلاع (صانديل)، وفي فلسفة المهنة، فضربة كتف تساوى لكمة فيما يخص تأثيرها في الخصم. وفي هذه الحالة يجد (توم) فرصة للاستراحة على جسد الخصم دون أن يتسرع في الافتراق عنه وهو مايستدعي تدخل الحكم. وهنا يرسل (صانديل) ضربة خلف ظهره لوجه خصمه، وهي لكمة مضبوطة ومفضلة عند الجمهور، ولكنها ليست خطيرة. وتمثل في نفس الوقت تضييعا للطاقة. و(صانديل) لاينفك يجهل كل الحدود، و(كينج) يختزن الضربات مكشرا. في الجولة التاسعة سقط (صانديل) على أرض الحلبة ثلاث مرات في دقيقة واحدة، حين وجه له (كينج) ضربات دائرية. وبعد حساب الثواني التسع يقف (صانديل) مستعداً. فقد كثيراً من خفته، لكنه يعتمد على شبابه كإمكانية رئيسية، بينما (توم) يعتمد على تجربته كإمكانية رئيسية بالمقابل. فبينما السنوات تمضي و(كينج) يفقد حيويته وصلابته، فيعوض ذلك بالحيلة والحيطة والاقتصاد المنظم لطاقته وقوته. فهو لم يتعلم عدم القيام بحركات زائدة فقط، بل وكذلك كيف يحث خصمه على تضييع طاقته. ففي عدة جولات وبواسطة مراوغة بقدمه أو يده يدفع خصمه إلى القيام بحركات ومراوغات وقفزات وهجومات لافائدة منها، وبذلك يستريح (توم كينج) دون أن يترك لخصمه فرصة لكي يستريح هو الآخر. في الجولة العاشرة تلقى (كينج) لكمة من (صانديل) على جانب رأسه، لكنها كانت عالية شيئا ما، كي تحدث مفعولها. وبرغم ذلك أحس (كينج) وكأن حجابا أسود لف دماغه، خلال هنيهة أو بالضبط خلال جزء من المائة من أقصر هنيهة، يتوقف عن الوجود: فيرى خصمه يغيب من حقل بصره مع كل الوجوه البيضاء المتعطشة،وفي الثانية الموالية يرى من جديد خصمه والوجوه خلفه. يمكنه الاعتقاد بأنه قد نام ثم استيقظ. وهذا الفاصل من الغيبوبة يستمر مدة جد قصيرة لايمكن السقوط فيها على الحلبة.. رآه الجمهور يتمايل ويكاد ينهار. أعاد (صانديل) اللكم عدة مرات محتفظا بـ (كينج) شبه فاقد للتوازن. لكن (كينج) استطاع تنظيم هجوم مضاد، حيث قام بمراوغة باليسرى وباليمنى وجه لكمة من الأسفل بكل قواه أصابت وجه (صانديل) الذي ارتفع إلى أعلى ثم سقط على رأسه أولا ثم على كتفيه. استطاع (كينج) محاصرة (صانديل) قرب الحبال وأمطره لكما، وهو ما أزعج ضابط البوليس الذي وقف بنية توقيف المقابلة، وفي نفس اللحظة رن جرس نهاية الجولة. جلس (صانديل) في المكان المخصص له وهو يحتج على ضابط البوليس بأنه لايزال في كامل قواه.. استلقى (كينج) وهو يتنفس بصعوبة.. لو تم توقيف المقابلة يكون الحسم لصالحه والمبلغ من نصيبه. فهو بخلاف (صانديل) يعارك من أجل الثلاثين جنيها استرلينيا، وليس من أجل الشهرة. والآن فـ (صانديل) سيسترجع قوته خلال دقيقة الاستراحة. تذكر (كينج) المثل القائل (الشباب يعرف كيف يخدم نفسه)، فقد سمعه لأول مرة حين هزم (ستوشربيل). إنها حقيقة ففي ذلك المساء البعيد كان يجسد هو نفسه الشباب. بينما هذا المساء يجلس الشباب في الجانب المقابل له. المشكل الآن هو أنه لايسترجع قوته، فشرايينه المنتفخة وقلبه المرهق لايساعدانه على استعادة بعض الطاقة خلال الفواصل بين الجولات. قبل كل شيء فمنذ البداية كانت قواه ناقصة، وكانت ساقاه مثقلتين تسببان له تصلبا في العضلات ما كان عليه أن يقطع الكيلو مترين مشيا على القدمين، وكذلك عدم حصوله على شريحة اللحم التي اشتهاها منذ الصباح! امتلأ قلبه حقداً على الجزارين اللذين رفضا استدانته. إنه شيء عسير أن يذهب رجل في مثل سنه للملاكمة دون تناول مايكفيه من الطعام! فشريحة لحم هي شيء بسيط يساوي بضعة ملاليم، ولكنها بالنسبة له تساوي ثلاثين جنيها. ظل (توم كينج) منذ نصف ساعة مقتصداً في استعمال طاقته، ولكنه الآن يوزعها بهدف واحد، يحس أنه قادر على تحقيق آخر حظوظه هنا: الآن أو أبداً. قواه تتخلى عنه بسرعة. يتمني أن يقضي على خصمه قبل أن تنفد قوته. ثم أدرك كم هو صعب أن يهزم (صانديل) المتمتع بهذا القدر من الحيوية والصلابة: إنه الشباب. دون شك فـ(صانديل) هو رجل المستقبل. تصلبت عضلات (توم) ولم تعد مفاصله تسعفه، فكل لكمة قوية تمثل تعذيبا ليديه المنهكتين وتتطلب منه جهداً عسيراً. يجر ساقيه بجهد وكأنهما من رصاص، الشيء الذي أراح مشجعي (صانديل) الذين يتصايحون بصوت عال.. اندفع (كينج) يضرب لكمة وراء أخرى بمجهود جديد فأصاب (صانديل) في فكه إصابة أسقطته برغم ضعفها نتيجة لما سببت له من ضعف وفقدان للتوازن. الحكم يحسب الثواني، خيم سكون على الجمهور، ساقا (كينج) ترتعدان، يشعر معهما بدوار قاتل، أمام عينيه يتراجع ويتمدد محيط من الوجوه.. شعر وكأن صوت الحكم، الذي يعد الثواني المشئومة، يأتيه من بعيد. تولد لديه انطباع أنه ربح المقابلة، معتقداً أن رجلا مثله لايمكنه النهوض. لكن الشباب وحده قادر على تحقيق البعث، فقام (صانديل).. اندفع نحو (كينج) يحاول الالتصاق به لربح الوقت، فتمكن من ذلك.. حاول الحكم فك الالتصاق و(كينج) يساعده على ذلك، فقد أدرك أن المقابلة صارت لصالحه، وعليه أن يحسم المباراة بسرعة لأنه يعرف أن الشباب يستعيد حيويته بسرعة كذلك.انفصل (صانديل) عن (كينج). لكمة واحدة كافية لإسقاطه نهائيا. في لحظة خاطفة من المرارة تذكر (توم كينج) شريحة اللحم وندم على عدم وجودها وراء هذه اللكمة التي كان عليه أن يطلقها بكامل القوة.. حاول لكن اللكمة كانت ضعيفة، أعاد المحاولة فخانه جسده، لم يتبق له سوى ذكاء قتالي مغمور بالإنهاك. لم تصل اللكمة إلى الفك بل توقفت عند الكتف، فعضلاته المتقلصة لا تسعفه، وبتأثير الاصطدام كاد هو نفسه يسقط. أعاد المحاولة مرة أخرى فكانت في الفراغ.. التصق بـ(صانديل) فشعر به يسترجع قوته، وحين فك الحكم التصاقهما رأت عينا (كينج) لكمة سددها (صانديل) تتجه نحو وجهه، حاول صدها بذراعه المثقلة، رفضت الاستجابة لإرادة روحه، فوصلت اللكمة إلى المكان المسددة إليه. شعر (كينج) بانكسار شبيه بصعقة كهربائية، وفي نفس الوقت لفه حجاب من الظل. حين عاد إلى وعيه وجد نفسه في المكان المخصص لاستراحته على الحلبة، وصيحات الجمهور تصل إليه كهدير موج على شاطىء صخري.. مساعده يضع على رأسه منشفة رطبة وآخر يرش على صدره ماء بارداً. انحنى (صانديل) يشد على يديه. لم يشعر بأي حقد على الرجل الذي أرداه أرضا.ظل (كينج) غير مبال بما يدور حوله، وقد شعر بجوع مؤلم، جوع غير عادي ارتبط بالوهن ونبض في فراغ المعدة يمتد إلى بقية الجسد. تذكر اللحظة التي كان فيها متمكنا من (صانديل) وهزمه. آه! كان بإمكانه، لو توافرت شريحة اللحم، أن يحسم الموقف، لم يكن ينقصه سوى هذا الشيء الصغير في اللحظة الحاسمة، ولكنه خسر!حاول مساعداه إعانته على مغادرة الحلبة، لكنه ابتعد عنهما وانسل بين الحبال ونط بثقله على الأرض ثم سار خلفهما حتى يهيئا له ممراً بين الحشود الصاخبة والمكدسة في الممر الرئيسي. حين كان يغادر المستودع صاح فيه شخص عند مدخل القاعة (لماذا لم تصف حسابه حين تمكنت منه؟).. رد (توم) (اوه، اذهب إلى الجحيم!) ثم نزل الأدراج. أبواب المقصف مفتوحة على مصاريعها، فشاهد من خلالها الأضواء والساقيات الضاحكات، وسمع عدة أصوات تتحدث عن المقابلة، ورنين النقود على (الكونطوار).. دعاه أحدهم لتناول كأس، تردد بشكل واضح، إلا إنه رفض وتابع طريقه.. لم يكن في جيبه مليم واحد.. بدت له المسافة بين النادي والبيت طويلة جداً. لقد أصبح عجوزاً بكل يقين. وهو يعبر الحديقة جلس فجأة على المقعد.. كان متوتراً من وجود زوجته تنتظره في البيت ساهرة لتعرف نتيجة اللقاء. هذه الفكرة بدت له أقسى من اللكمة التي ألقته خارج الحلبة والمقابلة معا.. يستحيل تقريبا تصورها.كان يشعر بالإنهاك القاتل، والآلام التي تصدر عن مفاصل يده، تنذره بأنه حتى في حالة حصوله على عمل، عليه أن ينتظر أسبوعا كاملا قبل أن يتمكن من الإمساك بمعول أو فأس. الجوع الذي يؤدي إلى النبض في فراغ المعدة أصبح ألمه لايطاق. وجد نفسه مسحوقا من البؤس والإملاق. شعر بعينيه تغرورقان بالدموع، غطى وجهه بيديه وتذكر، وهو يبكي، (ستوشربيل) والطريقة التي عامله بها في ذلك المساء البعيد. ياللعجوز المسكين (ستوشربيل) إنه يعرف الآن لماذا بكى في مستودع الملابس!
|
|