الوجه الآخر من زينب

الوجه الآخر من زينب

لم يكن من المصادفة أن يكتب هيكل روايته "زينب " في باريس، من أبريل 1910 إلى مارس 1911 ضمن الفترة التي كتب فيها مذكرات شبابه الباريسي التي تبدأ من يوليو 1909 وتنتهـي في يونيه 1912. فالرواية هي الوجه الآخر من المذكرات في حركة الذات التي تستجيب إلى "الآخر" الأوربي بما هو في دائرة الفعل، وبما ينتقل بالحلم من مبدأ الرغبة إلى مبدأ الواقع. ويحيل القراءة في ذلك "الآخر" إلى كتابة عن الذات. ولذلك يصف هيكل روايته "زينب " في مقدمة طبعتها الثالثة، بأنها ثمرة حنين للوطن وما فيه، صورها قلم مقيم في باريس، مملوء مع حنينه لمصر إعجابا بباريس وبالأدب الفرنسي. وذلك وصف دال متجاوب الأطراف إلى حد كبير، لاينفصل فيه دال القلم المقيم في باريس عن مدلول الحنين إلى مصر في الوقت الذي لاينفصل فيه الحنن إلى مصر عن الإعجاب بباريس، أو الإعجاب بالأدب الفرنسي الذي يرد القارئ له إلى وطنه، فيتحول فعل القراءة إلى فعل كتابة، بواسطة قلم مملوء بالحنين، موصول بفعل المقارنة المنسوج من علاقات حضور وغياب لايخلو منها فعل الكتابة.

هل كان ذلك بعض الأسباب التي دفعت هيكل إلى أن يستبدل باسمه على غلاف الرواية عبارة "بقلم مصري فلاح " في طبعتها الأولى؟ الأمر ممكن، لأن صفة المصرية لاتفارق معنى الهوية التي أكدتها سنوات الغربة في فضاءات الآخر التي كتب فيها هيكل روايته. والإشارة إلى صفة "الفلاح " إشارة إلى صفة مقترنة بالطبيعة التي ترد الإنسان على المكان، والحضارة على صانعها الأول، في علاقة الوطن بغيره من الأوطان التي كانت في الدجنة الحالكة يوم كانت مصر مشرقا للعرفان وجنة الدنيا، لو استعرنا الصفات التي أطلقها مصطفى كامل الذي تأثر به هيكل على وطنه الذي خلقه الله أجمل طبيعة، وأجل آثارا، وأغنى تربة، وأصفى سماء، وأعذب ماء". وليس هذا ا التأويل ببعيد عما أشار إليه هيكل نفسه من الاعتزاز بالهوية الوطنية في تأكيد مصرية كاتب " زينب " وعدم الأنفة من جعل صفة "فلاح" إلى جانب صفة المصري شعارا يتقدم به إلي إلى الجمهور، مطالبا "الغير" بالإجلال والاحترام.

هذا المعنى الذي يلمح إليه نظر الطبعة الأولى من "زينب " على أنها "بقلم مصري فلاح " يضفي بعدا متميزا على حضور الطبيعة في الرواية، من حيث هو حضورمستعاد في فضاء الآخر. وحضور ينطوي على معنى المعارضة بالقياس إلى مشاهد الطبيعة التي انطوت عليها مذكرات الشباب. وهي مشاهد تجمع ما بين فرنسا وسويسرا وإنجلترا. وتكشف عن الفتنة بالمنظور الذي كتبها ووقعهـا بعبارة "بقلم مصري فلاح" فكانت روإية "زينب" هي الميلاد الحقيقي للرواية العربية المعاصرة. تنطوي عليه كتابة هيكل، وعن نواة أدب الرحلات الذي ظل أثيرا إليه منذ أن اعتاد تسجيل المشاهد التي فتنت عينيه في رحلاته الأوربية الأولى. هذه المشاهد، بدورها، أحدثت في وجدانه أثرا شبيها بالأثر الذي أحدثته قراءة الأدب الفرنسي والإعجاب به، وذلك على نحو أحال البحر ذكرى، ودفع العين المحدقة في فضاء الآخر إلى أن تستدعي بعين الخيال مشاهد الوطن بواسطة الذاكرة التي هي آلة الإبداع.

من الإعجاب إلى الحنين

ولذلك تستحق مشاهد الطبيعة في "زينب" أن نقرأها من منظور جديد، هو منظور العلاقة التي تتناص بها وفيها مع مشاهد الطبيعة في مذكرات الشباب. فهذه هي تلك في الاستجابة التي يتحول بها الإعجاب إلى حنين، والقراءة إلى كتابة، والعين التي تسجل ماتراه في المذكرات إلى العين التي استعادت ما رأته في الرواية، لتكن هذه المشاهد أثرا من آثار الصراع بين فن الرواية والنثر الفني كما لاحظ علي الراعي في قراءته الناشذة لى "زينب" ولتكن مظهرا لغلبة النثر الفني من حيث الأفكار الجاهزة والقوالب الإنمائية الخطابية، ولتكن دليلا، على أن الروائي كثيرا ما يقطع خيط الأحداث عامدا ليدعونا إلى أن نشاركه وليمة من الأفكار والإحساسات إزاء الطبيعة. ولكن فن الرواية ينتصر على النثر الفني في "زينب" انتصارا كان له ما بعده، نحن حيث هو الوجه المترتب على مجاوزة سرديات "المقامة" التي جعلت للعبارة موضع الصدارة على الحدث في "حديث عيسى بن هشام ". ويصل النثر في الرواية إلى درجة من المطاوعة في تباين المستويات التي جمعت مابين شاعرية المناجاة للطبيعة وعامية احوار في معاملات البشر الذين تدور حياتهم حول الزراعة. والطبيعة لها وجهها الآخر في الرواية، لامن حيث هي مرآة للأحداث والشخصيات، أو الموئل الحاني للأبطال المنكسرين. لي من حيث هي حضور مواز، ينطوي على استقلاله الذي يتحول إلى عنصر تكويني، يؤدي وظائف متعددة في بناء الرواية. وأكثر هذه الوظائف لفتا للانتباه، من المنظور الذي أتحدث عنه، ماتقوم به الطبيعة بمشاهدها المستعادة في الذاكرة من دور خاص في سياقات كتابة الرواية نفسها، وذلك من حيث الموازنة التي أحدثتها بين متعة العين الباصرة التي حدقت في الطبيعة الأوربية وبث الذاكرة عن مواز لهذه الطبيعة في الانتساب إلى عوالم الأنا الذاتية، فمشاهد الطبيعة في الرواية استبدلت الإعجاب بالحنين في العملية التي قلبت التلقي إنتاجا في فضاء الآخر. وظني أن هيكل لم يفكر بالدرجة الأولى، أثناء كتابة هذه المشاهد، في الحبكة الروائية، أو الانتصار لفن الرواية على فن المقالة أو حتى على النثر الفني. وإنما كان يفكر في كتابة تستجيب إلى مايتلقاه على مستوى المنظر الطبيعي في المذكرات، وتستجيب بالمعارضة لهذا المنظر في الرواية التي كتبها في الوقت نفسه. ولذلك كانت غنائيات الليل والبدر والحقل والنيل وجمع القطن، في فعل كتابة الروإية، منطوية على المبدأ الدافعي نفسه الذي انطوى عليه شعر عباس محمود العقاد بعد ذلك بسنوات، حين استبدل هذا الشعر، في علاقات معارضة الآخر، بحضور أشباه "القبرة" المرتبطة بالطبيعة في الشعير الإنجليزي حضور "الكروان " الدال على الطبيعة المصرية، وخصص له ديوانا بأكمله هو ديوان "هدية الكروان " سنة 1933 الذي كان بمنزلة النغمة الاستهلالية لرواية طه حسين اللاحقة عن "دعاء الكروان " سنة 1942. أعني مبدأ المعارضة الذي يستبدل بالمعجب به في طبيعة الآخر أو في أدبه نظيره المقابل في طبيعة الأنا أو إبداعه، وذلك على سبيل تأكيد الهوية. في فعل تعويضي لآلية دفاعية لاتخطئها العين الفاحصة.

إلى مصروحدها

ويزيد الموقف إبانة، من هذا المنظور، أن هيكل يهدي روايته التي كتبها ما بين باريس وجنيف ولندن إلى مصر وحدها، الطبيعة الهادئة اللذيذة، مهبط وحي الشعر والحكمة منذ الأزل. ويسترجع ظروف كتابة الرواية، في مقدمة الطبعة الثالثة، مشيرا إلى ماكان يفعله في غرفته الباريسية التي كان يغلق نوافذها ويسدل ستائرها ويضيء أنوارها الكهربية أثناء النهار. كي يزداد عزلة وانقطاعا عن الحياة النهارية الباريسية، ويزذاد توحدا بما يعيده إلى حضرة الواحد الذي يستحضره، الوطن، ليرى في وحدته وانقطاعه حياة هذا الوطن وطبيعته الخاصة مرسومة في ذاكرته وخياله. ولاينسى فني هذا الاسترجاع، أن يذكر مافعله في سويسرا حين كان يسرع إلى كراسة زينب كلما بهره منظر من مناظرها الساحرة، ليستبدل بطبيعة الآخر طبيعة الأنا حتى ينجو من سحر الأولى، كما لو كان يعارض حضورا بحضور، في آلية دفاعية لاتخفيها العبارات التي عارضت الطبيعة السويسرية بالطبيعة المصرية، فإذا بهر الكاتب بالريف المصري المرتسم في خياله لايقل عن بهره بمناظر سويسرا التي ارتسمت أمام ناظريه. ولذلك يمكن النظر إلى "زينب " بوصفها فعلا من أفعال "المعارضة" الذي ينطوي على معنى المحاكاة ومعنى التمرد على الأصل في وقت واحد، فالعلاقة بين "زينب" والنصوص الفرنسية التي أحاطت بوعي كاتبها أثناء الكتابة، وظهرت علاماتها في ناتج الكتابة، علاقة توتر معقدة توميء إلى الأطراف المتقابلة المتعددة للتعارض، وليست علاقة أحادية البعد، على نحو ماتوحي به الدراسات السابقة العديدة عن هذه الرواية، ولاننسى في هذا السياق، أن حامد بطل الرواية، كما وصفه يحيى حقي بحق، لم يع تخلف عالمه إلا بعد أن نظر إليه بعيون الأفكار التي قرأها في كتابات "مفكري الإفرنج "، وهي الأفكار التي ألقت به في دوامة التوتر بين مبدأ الرغبة ومبدأ الواقع، بعد أن كشفت له عن طريق مغاير لما سار فيه بحكم الوراثة والوسط، فظل سترددا بين المضي في هذا الطريق الجديد إلى نهايته والمراوحة فيما ورثه عن الوسط الذي أصبح يعي تخلفه، إلى أن أدركته رعشة الحيرة التي يحصفها بقوله. "شعرت كأن كل وجودي يصرخ في وجه عقلي يريد أن يقف عند حدوده: كفى من هذه الفلسفة التي يقذفنا بها مفكرو الإفرنج والألمان، ولنبق عند ما خلفه لنا آباؤنا لنسير فيه بالخطى المتمهلة التي نضمن معها ثباته. هل تريد أن أخرق سياج القانون والعادة وأستمع لهوى نفسي وأتبع في الحياة العملية ما توحي به النظريات، والأولى مرتبة من قبل، متبعة، والثانية لاتزال في حيز الفكر"؟

وبرغم هذه الرعشة فإن عقل حامد انتصر على اعتقاداته التي اكتسبها من التربية والوسط، واستمر في طريقة الجديد، محاولا مواجهة "ظلامات الجمعية" التي تحول دون حلمه في التقدم الذي يوازي تقدم الآخر ويتميز عنه بخصوصية الهوية. وكان اغترابه النهائي عن قريته وتقاليد أسرته فيها، وانتقاله من القرية إلىالمدينة ليبدأ حياته المتوحدة، معتمدا على نفسه وليس على أسرته، هو الثمن الذي دفعه والمكافأة التي نالها نظير اختياره الإبحار ضد تيار العادة والوراثة. ولكن، من ناحية مقابلة، فإن علاقة حامد بالأفكار التي نقلها عن "مفكري الإفرنج" لم تكن علاقة اتباع أو تقليد أحادية البعد.، فهو لم يكن يريد آن يستبدل اتباعا باتباع، أوتقليدا بتقليد، وإنما كان يبحث عن هوية تبحر ضد تيار العادة والموروث من ظلامات الجمعية، من غير أن تتنكر هذه الهوية للجذور التي تتميز بها عن غيرها، أو تجحد الخصوصية الأصيلة للوسط الطبيعي الذي هو موضع فخرها في مواجهة الآخر الذي لايكف عن تهديدها وغوايتها في آن.

مزاج لاتيني .. أم عربي؟

صحيح أننا نجد في رواية "زينب" بعض مايمكن أن يكون مصداقا لغلبة الطابع الفرنسي على مولد الأدب العربي الحديث في مصر كما ذهب يحيى حقي في دراسته الرائدة التي اتبعها عشرات الدارسين والنقاد، فالرواية دليل على غلبة المزاج اللاتيني لا السكسوني إذا استخدمنا مفردات المناظرة الشهيرة بين العقاد وطه حسين في الثلاثينيات. ومن المغالطة أن نزعم، فيما يذهب يحيى حقي، أن الذي أخر تأثر هيكل بالأدب الإنجليزي أنه أدب الدولة المحتلة للوطن، وإنما السبب راجع إلى هذا التقارب الخفي بين التيارات الثقافية في حوض البحر الأبيض، تقف فيها إنجلترا بمعزل بجزيرتها وضبابها وكنيستها، وإلى أن الجيل الذي سبق هيكل تلقى علومه في فرنسا، وترجم عنها، وبقيت رواسب هذه الثقافة متشبثة بأرض مصر، لايفلح الإنجليز في اقتلاعها بتحويل تيار التعليم والبعثات من فرنسا إلى إنجلترا. ولم يبدأ الأدب الإنجليزي يزاحم الأدب الفرنسي إلا حين تخرج طلبة المدارس الثانوية والعالية التي اعتيدت مناهجها على اللغة الإنجليزية.

هذا التأويل لعمليات المثاقفة التي انطوى عليها هيكل، فيما قرأه يحيى حقي الذي يشاركه في مزاج اللاتين، له مايدل عليه في كتابات هيكل المتعددة، ابتداء من مذكرات الشباب وانتهاء بمقالاته الأخيرة المنظورة بعد وفاته في كتاب " شرق وغرب "، وله مايدل عليه فيما أكده يحيى حقي نفسه من أن رواية زينب " ثمرة قراءة بول بورجيه وهنري بوردو في استطراد السرد وقلة الحفاوة بالحوار وإقامة الحبكة على عمود الحب والدوران حوله. ودليل ذلك أن البطلة تصاب من جوى الحب بالسل وتموت كغادة الكاميليا الفرنسية والدماء تنزف من فيها فتمسحها بمنديل إبراهيم. أضف إلى ذلك التأثر بفلسفات مسيحية لاتعرفها القرية المصرية. ومجيء ذلك بصورة لايألفها أدبنا أو قصصنا، كما حدث في اعتراف حامد لشيخ الطريقة، أو تقبيل الحبيبة ثور الحبيب الغائب إذا اشتاقت له كما فعلت زينب.

هذه الملاحظات دالة على مزاج يحيى حقي وطريقته في القراءة بالقدر الذي يمكن أن تدل على "زينب" المنظور إليها، تأويليا، من خلال عدسة المشابهة بالآخر الفرنسي تحديدا، وهي عديمة تؤكد المماثلة على حساب المغايرة، وتبرز منطق الاتفاق أكثر من إبرازها منطق الاختلاف، فتؤدي الى استنطاق معطى النص بما حددته بؤرة العدسة من قبل، ومن ثم تفسيره بطريقة: هذه بضاعة الآخر ردت إليه، وإنجاز الأنا المردود إلى الآخر في العلاقة التي تصل التابع بالمتبوع. حيثما ينطوي فعل المقايسة على نوع من القيمة المرتبطة بمنظور التابع لا المتبوع. ولكن ماذا لو استبدلنا بعلاقة الأصل- الصورة، المضمرة في فعل المقايسة، علاقة التقابل بين أطراف متوازية؟ وكيف نرى المشابهة نفسها لو نظرنا إليها من منظور المخالفة، في الفعل الذي تتوتر العلاقة بين أطرافه؟

أتصور أن ملاحظات يحيى حقي نفسها يمكن رؤيتها بواسطة عدسات مغايرة، تقلل إلى حد. كبير من دلالة التقليد في اعتراف حامد لشيخ الطريقة الصوفية، خصوصا حين تقرن هذه العدسات الجديدة مابدا على أنه "اعتراف " باستهلال "أخذ العهد" الذقما يصل المريد بالقطب فيما يجاوز معنى الاعتراف المسيحي ويختلف عنه اختلافا جذريا. وبالقدر نفسه، تصل هذه العدسات، على مستوى ضبط بؤرة المنظور المغاير، بين تقبيل زينب لثور الحبيب والمعتقدات الشعبية الريفية التي تصل الحيوان بصاحبه الوصل الحميم، فضلا، عن الموروثات الأدبية القومية التي أباحت لعنترة العاشق رغبة تقبيل السيوف لأنئها لعمت كبارق ثغر عبلة المتبسم. وسمحت لجمل المثقب العبدي أن يشكو له ومنه كل ذلك الحل والارتحال الذي لايبقي ولايقي بالقدر الذي سمحت للمنخل اليشكري أن يحب بعيره ناقة حبيبته كي يشمل "بالحب الذي شعر به كل الكائنات حوله.

ولا أهدف من هذا التأويل المضاد إلى مايمكن أن يبدو. في نظر البعض على الأقل، تهوينا من ملاحظات يحيى حقي الذي ندين له بالكثير، خصوصا في تأسيس أفق "فجر القصة" العربية في مصر، وإنما أسعى إلى بيان أن ملاحظاته نفسها تؤدي دلالة مغايرة، لو نظرنا إليها من منظور مضاد، هو منظور الأدب القومي الذي سعى هيكل إلى تأسيسه بالإئجاز الإبداعي وتأصيله بالصياغة الصورية للمفاهيم، وذلك منظور يستبدل بعلاقة الأصل - الصورة علاقة التقابل بين أطراف متوازية، متكافئة، ومن ثم البحث عن دلالة متأصلة، حيث ميراث الأنا، بدل الاقتصار على الدلالة التي تعطف الأنا على الآخر في علاقة اتباع وحيدة الجانب. واذا أضفنا إلى ذلك النظر إلى ملاحظات يحيى حقي من منظور فعل المعارضة الذي أتحدث عنه، والذي يؤديه نص "زينب" في بعد وظيفي أساسي من أبعاده، غاصت الملاحظات نفسها بوصفها دوال مغايرة في المعاني التي يؤديها النص، من حيث هي، في هذه الحالة، مؤشرات على فعل المعارضة الذي يلزم عنه أن يقوم النص المعارض "بكسر الراء " بالتذكير بالنصوص المعارضة "بفتح الراء" على مستوى المشابهة، ليؤكد بعلاقات المخالفة مغايرته الخاصة، في الآليات التي تحيل النصوص المعارضة "بفتح الراء" إلى ما يشابه الأصل االأدبي للنص المعارض "بكسر الراء" الذي يستمد نسغ وجوده من الأب الذي تمرد عليه.

تمرد على الأعراف

هذا البعد هو، ما يصل المناظر والأخلاق الريفية في "زينب" بدلالة من دلالات النزعة التي تغنى بها "شاعر الوطنية العظيم" مصطفى كامل فيما وصفه هيكل في تراجمه المصرية، وهي دلالة لم تفارق، في هذا السياق، دلالة التمرد على الأعراف القديمة الجامدة التي تنتفل بالوراثة وبالوسط، ومن ثم التمرد على أخلاق " الجمعية الغاشمة " أو المجتمع الظالم الذي يريد المرأة على مالا تحب، ويفرض عليها حجاب الوجه والعقل وسجن الجسد والروح. ومن منظور هذا البعد، كانت الرواية تحقيقاً للمعنى الذي سبق أن أكده قاسم أمين الذي تأثر به هيكل أبلغ التأثر عندما قال إن الإنسان لايباح له أن يغضب على وطنه إلا كما يغضب الولد من أبيه غضبا ممزوجا بالأسف والحنو. وكانت الرواية من هذا المنظور وصلا بين مشاعر الأسف والحنو من ناحية، والمشاعر التي يثيرها التطلع إلى المستقبل الموصول بفضاءات الآخر بمعنى أو غيره من ناحية أخرى، أعني المشاعر التي تلفتنا إليها كلمات الراوي المباشرة عن حامد بطل الرواية وقناع هيكل الشاب، خصوصا حين تؤكد هذه الكلمات "أن أحلام حامد وآماله في المستقبل كبيرة جدا، وأنه مهما يكن مخلصا في قوله أحيانا إن خير عملنا أن نغنم الحاضر، فإن قضية المستقبل تشغل باله وتعاوده في أوقات مختلفة، وكأنه كان يدين بمذهب أستاذه قاسم أمين: اللذة التي تجعل للحياة قيمة هي أن يكون الإنسان قوة عاملة ذات أثر خالد في العالم، فلم يكن يمر به وقت ييأس فيه من المستقبل، بل كان هو الشيء الوحيد الذي يجعله يستبقي حياته ". ولم تكن الكلمات الأخيرة للراوي مؤكدة علاقة التلمذة التي وصلت حامد "قناع هيكل " بأفكار قاسم أمين الداعي إلى "تحرير المرأة" فحسب، وإنما كانت هذه الكلمات، في الوقت نفسه، قريبة القرب من شعار مصطفى كامل " لاحياة مع اليأس ولايأس مع الحياة" في الوعي الذي ينطق من وراء قناع حامد، فمصطفى كامل هو الوجه الآخر من قاسم أمين في مكونات النزعة الوطنية الجديدة التي انطوى عليها هيكل، وهو يصوغ الملامح الأولى لما أطلق عليه اسم " الأدب القومي " الذي كانت رواية "زينب " نموذجا من نماذجه الأولى البارزة.

 

جابر عصفور