من أسفار الطب الصيني: بكين لا تلاكم الظلال محمد المخزنجي تصوير: حسين لاري

من أسفار الطب الصيني: بكين لا تلاكم الظلال

أفراس بحر منمنمة مجففة. ولحاء شجر عاطر. وإبر بيضاء وصفراء وحمراء. وشهقات وزفرات عميقة بطيئة. ودوائر وأقواس غامضة ترسمها الأجساد في الهواء. ومؤاخاة حميمة بين الماء والتراب والنار والهواء والبدن والروح. تلك لمحات سنحت لنا ونحن نقلب في أسفار الطب والحكمة.. في رحاب بلاد الصين.

وركبنا "الصان لن شي" في جولة عبر تلافيف شوارع بكين القديمة. دراجة ثلاثية العجلات تعتمر بمظلة ملونة من القماش الأبيض والسماوي ويقودها فتى صيني بينما كنا جالسين على المقعد المنبسط وراءه يكاد لا يكفي شخصين. وفي ضوء النهار الموشى بوميض لبني كانت الأحياء الصينية تنبع أمام أبصارنا. شوارع دقيقة ضيقة تصعد وتهبط وتلتف وتتشابك، وبيوت دقيقة وبسيطة، وبشر يتحركون بلا ضجة، على الأقدام، وفوق الدراجات، وفي مركبات "صان لن شي" كالتي تحملنا، بل في سيارات الفولكس الصغيرة المصنوعة في الصين. لا ضوضاء برغم الازدحام النسبي، وكأن الصينيين يمشون على قماش. وبعد ما استدرنا حول فندق "رتيان" سرنا بمحاذاة الحديقة التي تحمل الاسم نفسه، أرسلت بصري عبر دروب الحديقة فتعلقت عيناي بجمع بشري متناثر في انتظام... عدة صفوف يتقدمها فرد واحد وكلهم يتحركون راسمين بأيديهم وأقدامهم والجذوع، دوائر وأقواسا هادئة حتى - إلى أنهم يلاكمون ظلالا بطيئة. وقفزت في خاطري سمية ما أراه: "تاي شي شوان"، فقفزت من "الصان لن شي" لأمسك بطرف من هذا السحر الحيوي الصيني الذي ينساب أمامي في سكينة بين الأشجار.

طمأنينة على قدم واحدة

إذن، ذلك هو فن "التاي شي شوان"، الذي يقون عليه في كثير من كتب الطب البديل، اختصارا بأي شي"، وهو يقوم على سلسلة من الحركات بيئة، الدائرية، تشبه الرقص، ويحسن أن تمارس في الطلق. وهدف كل هذه الحركات الراقصة المتأنية، الإنسان يركز على حالته الذهنية والوجدانية كما على جسده. وعندما سألت بعضا ممن أنهوا شوطا الرياضة، أو الطقوس، في حديقة رتيان، أجابوا ترى نشوتهم العالية وسكينتهم الظاهرة للعيان قائلين: "إن التاي شي شوان"، تضيء الفكر سيرة. ولم أستغرب ذلك فثمة كتب غربية ورصينة في الطب البديل وصفت هذا الفن الصيني : "على الأغلب، أكثر أنواع العلاجات الكلانية HOLIS) كما لا، وطبيعية، وتأثيرا". والطب هو اتجاه معارض لفرط تقسيم الجسد الإنساني - قوي التخصص وتخصص التخصص في الطب الحديث - عند علاجه، فكل خلية وكل نسيج وكل عضو إنما يؤثر ويتأثر بحالة الجسم كله، وحالة الجسم تؤثر فيها بالتالي حالة النفس. لهذا يقيم الطب الكلاني تكاملاً بين الجسد والنفس (كمرآة للروح) عند التعامل مع الإنسان، ويمزج هذا الطب بين طائفة من العلاجات النفسية، والفيزيقية، والإجراءات الوقائية، للوصول بالإنسان إلى حالة الصحة التي هي سلام نفسي وبدني أيضاً.

"التاي شي"، لنختصر الاسم تيسيرا، هو فن مركب يتضمن - كما يشرح أحد أساتذته الصينيين الذين التقيتهم ويدعي (لي جوان) - الصبر، والتدبير، والقدرة على التباسط، والتأقلم، والتغيير. ويقوم على عقيدة إعادة التوازن لطاقة الحياة المعروفة في اللغة الصينية باسم "تشي". ففي حالات التوعك العقلي أو العاطفي يحدث جريان أسرع، أو أبطأ، من المطلوب لهذه الطاقة في أقنيتها داخل الجسد، أو إنها تتراكم في جزء أكثر مما في عداه، في الرأس مثلا أو الصدر أو البطن أو حتى القدمين، ويكون الثقل أو المرض. والعلاج يتاح بتركيز العقل والبدن لتحريك طاقة الحياة (تشي) أو إعادة التناغم في جريانها.

لقد ظل فن "التاي شي" الصحي مجهولا لدى غير المهتمين حتى وقت قريب خارج الصين، وعندما زار الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون الصين في تلك الزيارة التاريخية عام 1972 م نقلت عدسات التليفزيون صور الصينيين الذين يمارسون التاي شي في الصباحات الباكرة في الحدائق، وزاد الفضول الغربي لمعرفة أسرار هذا الفن، وسرعان ما انتشرت مدارسة على جانبي الأطلنطي.

يقول ممارسون لهذا الفن "إنه غير قابل للإتقان دون معلم" وهو فن علاجي ووقائي يفيد كثيرا في حالات التوتر والتأزم لأنه يساعد على الاسترخاء والتوازن، كما أنه يحسن التنفس، ووضع الجسم، ويوقظ العضلات، ويحث دوران الدم على الانتظام. وإجمالا فإن التاي شي توصف كبديل للأقراص المطمئنة. وهي رياضة جسدية نفسية لكبار السن والصغار على  السواء. لقد لاحظت أن مجموعة ممارسي "التاي شي" في حديقة رتيان تضم أطفالا في نحو العاشرة، وكبارا في نحو السبعين. وهذه الساحات المفتوحة للتاي شي في الحدائق الصينية هي ملاعب ومدارس في الوقت نفسه. يجري فيها التعليم والممارسة بهدوء كما أن المعلمين لا يبخلون على التلاميذ بإجابات مستفيضة عن دقائق أسئلتهم. ويجري هذا كله بينما الجميع في ملابس رياضية خفيفة وسابغة والأقدام إما في جوارب أو نعال خفيفة من القماش أو جلد الحور لتتيح فرصة الحركة لكل عضلات الأقدام. ومن أساسيات أداء تمارين التاي شي أن يكون العمود الفقري قائما في استقامة ومستوى الرأس والمقعدة في اعتدال، وأن تجري الحركات باسترخاء يقظ، وبعقل نشط وهادئ بينما تكون البصيرة طامحة إلى شخصية متوازنة وجسد صحيح. ويوجد شكلان من التمارين قصير، طويل. أما الشكل القصير فيتكون من 40 حركة لا تتكرر وتستغرق من 5 : 10 دقائق، وعلى الرغم من الاعتقاد في جدوى هذا الشكل وقائيا فإن تأثيره العلاجي غير ملحوظ. وإما الشكل الطويل فيتكون من 100 تمرين متتابع تستغرق من 20 : 40 دقيقة، وتتكرر، لتعكس إيقاع الحياة نفسه بتوازن  بين ما هو نفسي وما هو جسدي.

ولأن وراء كل نأمة صينية أسطورة، فإن "للتاي شي شوان" أسطورتها، وهي تقول أن البداية ترجع للقرن الحادي عشر، عندما راح المفكر الطاوي (نسبة إلى الديانة والفلسفة الطاوية) شانج سان - فينج يبحث عن طريقه لتطوير الروح بعيدا عن مخاضات المعاناة والقسوة، وبينما كان يشاهد عقعقا من نوع الغربان القعاء يطارد أفعى تسعى على الأرض، لاحظ باندهاش حركة الأفعى البطيئة والمستمرة وهي تروغ من مهاجمها، صارت هذه الحركة الدائرية الناعمة أساسا لشكل جديد من الـ "شو-يان" أو رياضة "القبضة" التي تسعى إلى امتلاك الإنسان لنفسه والسيطرة عليها.

وعلى هذا الدرب من التأمل الطاوي للمخلوقات من حول الإنسان، سار آخرون وطوروا أنماطا أخرى من رياضة النفس والجسد استنباطا من سعي الحيوان وحراكه فوق الأرض. ومنهم الطبيب الطاوي "هيواتا - أو" الذي كون منظومة من التمارين تحاكي حراك النمر (الذي يرمز إلى القوة الإيجابية) وهو يحاول السيطرة على القرد (الرامز إلى مصدر الإيذاء) وطرده، شأنه شأن المصادر الأخرى للإيذاء التي يتوجب درؤها كالدب والكركي أو الغرنوق. وهذه كلها تمثل رموزا معنوية  بالطبع وإن كان تشخيصها ماديا، وهذا جانب من سحر الحكمة الصينية التي تبدو شديدة البساطة وهي ترمي إلى غاية العمق.

ومن "الشويان" تطور الشكل الأرقى، الـ "تاي - شي شويان" أي رياضة القبضة الأعلى، أو الأسمى، التي تسعى إلى سيطرة الإنسان على ذاته كاملة وصارت هذه الرياضة تمارس من قبل رهبان الطاوية في معابدهم ومدارسهم الروحية كطريقة تمزج بين الحركة والتنفس ليتكامل بها الجسد مع النفس والروح. ولاحظ الرهبان أن هذه الرياضة تجعلهم يركزون في الإحساس بأجسادهم وعقولهم معا. ومن بعد خرجت "القبضة السامية" بالتدريج إلى حياة الصينيين اليومية لتغدو وسيلة من وسائل العلاج بالتأمل في ميسور أي إنسان. ولقد صارت رياضة شعبية صينية منذ منتصف القرن التاسع عشر، ومازال يمارسها ملايين الصينيين. ولقد رأيت فيما بعد مجموعة صغيرة تمارسها في هدأة المساء بركن من أركان ميدان إسلام السماوي (تيان آن مين) فأحسست في غمرة نسائم صيف بكين الحريري بأن السلام لم يكن مسعى صينيا في رحابة العمارة والساحات الهائلة فقط، بل كان غاية في فضاءات الجسد والنفس، والروح أيضاً.

رنين أقنية الروح

في شارع "زوجوا" توجهت جذلا، إذ عبر أرتال السيارات وأمواج راكبي الدراجات ومن بين واجهات الحوانيت المكللة بالكتابة الصينية لمحت في أحدها تمثال "الرجل البرونزي"، فأدركت أنني وقعت بيسر بالغ على ضالتي، فالمتجر يقع على مقربة من فندق السلام الذي ننزل به. وأسرعت لدخول المتجر وأنا أسر لنفسي أنها لن تكون المرة الأخيرة لوروده ففيه تعرض وتباع أدوات العلاج بالوخز بالإبر الصينية. وبرغم أنني توقفت عن الاقتراب العملي من العلاج بالوخز الذي حصلت على دبلوم عال في فقهه، وممارسته، إلا أن هوي هذا الفرع أمسك بتلابيبي، وخلف عندي ما يشبه الهوس به. وفي المتجر المكدس بصنوف أدوات العلاج بالوخز، رحت أتجول مفتونا وأنا أرى الكثير من وسائل المعالجة بالإبر الصينية، بل الأصح أن نقول بالنقاط الصينية (وقد كان ذلك موضوع مقال لي في "العربي") فالعلاج بالوخز يعتمد على منطق معالجة الداخل من الخارج، حيث تغرس إبرة معينة في نقطة معينة من بين قرابة ألف نقطة تتوزع على سطح الجسم للحصول على أثر علاجي بعينه. هذه النقاط تشبه نوافذ للإطلال على جهاز داخل جسم الإنسان تدور فيه - تبعا لفلسفة هذا العلم الصيني - طاقة الحياة المسماة بالصينية "تشي" والتي تتكون من شقين متوازنين أحدهما سالب "ين" يمثل المؤنث بكل دلالاته، والآخر موجب "يانج" يمثل المذكر بكل دلالاته أيضاً. وما المرض إلا اختلال في توازن شقي طاقة الحياة وما العلاج إلا استعادة للتوازن، بتحريك طاقة الحياة داخل الجسم لتتوزع بعدل بين الأعضاء. وبما أن طاقة الحياة - تبعا للصينيين القدامى تجرى في 12 مسارا أو قناة (ميريديان) موزعة على نصفي الجسم إضافة إلى قناتين عند خطي التنصيف (أماما وخلفا) وثماني قنوات أو مسارات إضافية تم اكتشافها حديثا، فإن تحريك الطاقة يتم عبر نوافذ أو عيون تصل السطح بالعمق. وهذه النوافذ أو العيون متناثرة على الجلد بامتداد قنوات طاقة الحياة في أعماق الجسد. وهي ذاتها النقاط الصينية التي تطبق عليها طرق علاج مختلفة (إبر، أشعة ليزر، أقراص معدنية، ضغط بالأصابع، تسخين بوهج الشيح الصيني المحترق، طاقة مغناطيسية، أشعة فوق بنفسجية...) هذه النقاط مرصودة في الأبيات والآثار الطبية الصينية فكتاب "الطب الداخلي" العتيق "هوانج دي ناي جنج" للأمير الأصفر والذي يعتبر حجر الزاوية في الطب الصيني التقليدي، ويقال إنه أقدم كتاب طبي في العالم يعود تاريخه إلى أكثر من ألفي عام، به فصل خاص مكرس للعلاج بالوخز والكي بأعشاب الشيح ويسمى هذا الفصل "لينج شو" أو "البوابة السحرية". أما خريطة النقاط الصينية على الجسم فإن أشهر أقدم آثارها هو "تمثال الرجل البرونزي" العائد إلى تلك الفترة، والذي تم التيقن - بأبحاث علمية حديثة ومتطورة - من دقة وضع النقاط الصينية على أجزائه، ومازالت تصنع منه نسخ بلاستيكية للدرس والتدريب حتى يومنا، ولقد ابتعت أحدها من متجر أدوات العلاج بالوخز الذي غصت وتهت في أرجائه.

لم يكن البائعون يعرفون إلا الصينية، لكنهم بمودة وبساطة هذا الشعب الكبير لم يكفوا عن محاولة إفهامي ومساعدتي فتركوني أفتح الأدراج وأفتش في المخزن، وبينما تحمل كل من في المتجر إلى فريق مؤرق بالرغبة في إيصالي إلى ما أريد برز طيف جميل لشيخ صينيا مدهشا أسمه "يوتنج - هاو" عمره ثمانون سنة وما زال يرتدي بدلة صن يات صن المتواضعة الزرقاء ويحمل في كتفه حقيبة جلدية كحقائب موزعي البريد... كانت ملامحه ناعمة وشعره الأبيض خفيفا ورقيقا ويرتدي حذاء قماشيا، بدا لي شفافا، وعرفت أنه أحد مترجمي كتب الطب الصينية إلى الإنجليزية التي يتحدث بها ويكتبها باقتدار. خرجت معه من المتجر حاملا نموذج تمثال "الرجل البرونزي" ومصحوبا بشخص الرجل اللطيف الذي بدا لي مصنوعا من البلاتين والفضة الإنسانيتين.

كان الرجل العجوز الرقيق موسوعة متحركة ومتحمسة للطب الصيني في أشكاله القديمة النقية وحدثني عن اكتشاف حديث وبسيط لإثبات وجود قنوات الطاقة بالطرق - بمطرقة طبية خفيفة جدا - على إحدى نقاط القناة، والتسمع - بسماعة طبية عادية - على نقطة بعيدة، والنتيجة: سماع رنين خافت كأنه رنين في قناة معدنية رقيقة مما يثبت اتصال القناة، وبتكرار التجربة وترقيم النقاط تتبدى بوضوح خريطة القنوات الصينية وعليها النقاط كما رسمها الصينيون القدامى منذ أكثر من ألفي عام.

لقد باعت المسافات بيني وبين صديقي العجوز "يوتنج - هاو"، لكن رسائله ما زالت تتواصل بلا انقطاع.

خشب ونار وأعشاب وعقارب و...

في المستشفى الكبير للطب الصيني التقليدي ببكين، شققت طريقي عبر الأفنية الواسعة والردهات الطويلة وسط زحام من البشر، مرضي وأطباء ومرافقين وممرضات وزوار. فعدد المترددين على قسم العلاج بالوخز - وحدة - ألفا مريض يوميا. زرت أقسام العلاج بالوخز وتفقدت بنفسي حالات إصابات بجلطات وأنزفة في المخ تتحسن من إعاقات الشلل والنطق التالية للإصابة عبر معالجة بالوخز التقليدي بالإبر الصينية. وشاهدت كيف يجري تشخيص الأمراض بالكشف على اللسان وتحسس الجلد وقياس النبض بالطريقة الصينية التقليدية حيث يميز الطبيب بأصابعه على معصم المريض أثنى عشر نوعا من النبض على الأقل. وهذه تحس فوق كل من الشريانين الكعبريين بثلاثة أصابع فوق كل شريان يتلو بعضها بعضا وتمارس نوعين من التحسس أحدهما سطحي والآخر عميق، بذلك يحدد الطبيب أي قناة معتلة وبالتالي يحدد مواضع وآليات وتوقيت الوخز الذي يتحدد طبقا لفلسفة طبية صينية قديمة تقول بأن كل شيء يتكون من خمسة عناصر هي: الخشب، والنار، والتراب، والمعدن والماء، مع سيادة الطابع الرمزي لهذه العناصر وبما أ، كل عضو من أعضاء الجسد يمثل شقاً من شقي طاقة الحياة "نتشي" سواء مذكر (يانج) أو مؤنث (ين)، وحيث أن كل الأعضاء منضوية تحت راية العناصر الخمسة المرتبطة معاص بعلاقات متبادلة في دورتين أولاهما للتحطيم وتسمى "كو"، وثانيتهما للتوليد وتسمى "شنج". وبمعادلات معينة (يسرها شكل توضيحي على هيئة نجمة خماسية) يتم توقيت وموضعة الوخز الهادف إلى نقل الطاقة من أماكن الزيادة في أحد المسارات إلى أماكن النقص (أو العكس). وكمثال لدورة التحطيم بمنطق الطب الصيني التقليدي فإن النار تحطم المعدن بنسخه وصهره. والمعدن يحطم الخشب بقطعة. أما دورة التوليد ففيها يحترق الخشب فيولد الرماد (التراب)، ومن التراب (الأرض) يولد المعدن... وهكذا فإذا شئنا مثالا لمنطق عمل الطبيب الصيني التقليدي نقول : إنه بقياس النبض حدد نقصا في طاقة قناة أو مسار "القلب" وهذا تابع لعنصر "النار"، بينما وجد زيادة في طاقة قناة "الكبد" التابعة لعنصر الخشب. وهنا علية في المعالجة أن يوخز نقاطا معينة لينقل الطاقة تبعاً لأحد الحلول القائلة بأنه مادامت الطاقة تتدفق في اتجاه من الخشب إلى النار، إذن يوخز نقاطاً على مسار القلب ليسحب إليه الطاقة الزائدة في مسار الكبد، كما توجد حلول أخرى بديلة (وهذه قصة أخرى تخص أصحاب الاختصاص).

كنا نتنقل بين جنبات المستشفى الكبير، ولاحظت برغم وجود أقسام البحث المتقدمة التي تحدث الوخز التقليدي باشراك الكمبيوتر، والأجهزة الإلكترونية، وأجهزة الليزر سواء في التشخيص أو المعالجة إلا أن السائد هو الطريقة التقليدية التي يعتقد الأطباء الصينيون أن فعاليتها أكبر وآثارها الجانبية أقل. ومن أقسام الكبار إلى أقسام الأطفال. ومن جانب الوخز إلى جانب العلاج بالأعشاب. وكانت لنا وقفة طويلة في عيادات هذا الجانب وصيدليته التي تمثل نمطا مغايرا تماما للصيدليات التي اعتدناها على النمط الغربي. وقد صادفت كثيراً من مثل هذه الصيدليات في الشوارع الصينية.

ليس الأمر وقفا على الأعشاب في الصيدلية التقليدية الصينية فإلى جانب الأعشاب التي يجرى تجفيفها وحفظها في إدراج وأوعية خشبية وزجاجية، توجد كائنات بحرية وبرية دقيقة، معقمة ومجففة، وأجزاء من أجسام حيوانية وبذور وأعشاب. ومن الطريف أنهم أرونا عقربا صغيراً مجففا يجري طحنه مع مقادير من أعشاب مختلفة ويؤخذ كدواء لالتهاب المفاصل. وقد علقت ضاحكا عندما وضعوا العقرب المجفف في راحتي: "عقرب بعد الآكل 3 مرات يوميا! هل يكتب الطبيب هذا لمرضاه". لكن الصينيين الجادين إلى درجة الصرامة أثناء العمل لم ينتبهوا إلى المزحة، فأخذوا يصححون لي ويوضحون الأمر، وهو أمر كبير، يبدأ من الفلسفة وينتهي في الجسد.

تحليق على أجنحة صينية

لا يكفي للإنسان حتى يوقن، أن يعلم، بل يتطلب الأمر كثيرا أن يجرب... وعلى نفسه. وبرغم أنني درست العلاج بالوخز والتطبيب المنعكسي والطب البديل عموما، إلا أنني لم أصدق النتائج قبل أن أجربها. فبعد إنهائي لدراسة دبلوم في هذا الاختصاص بقسم طب الأعصاب في أوكرانيا، حدث أن تعرضت لتيار بارد هصر أحشائي هصرا بينما كانت درجة الحرارة عشرين تحت الصفر. ولم تكن عندي أية أدوية وكان استدعائي للإسعاف يعني دخولي المستشفى وخضوعي لإجراءات طويلة صارمة لم أكن مستعداً لها. وبعد أن تمرغت من شدة الألم، خطر لي - يأسا - أن أجرب شيئا مما درسته، وكان لدي مجموعة من الإبر الصينية انتقيت من بينها إبرة فضية (حيث الفضة مهدئة، تبعاً للتقسيم الفلسفي الصيني للمعادن). وغرست الإبرة حتى رأسها في نقطة تسمى "تسوزان لي" (ومعناها "بوابة الآلام") تحت الركبة وبين رأسي عظمتي الساق. ورحت أدير رأس الإبرة - بطريقة معينة - كما تعلمت. عشر دقائق، واختفى الألم، فأصابني الذهول والفرح، واليقين. مرة أخرى، وفي ثنايا الركض اللاهث أثناء رحلة الصين هذه أحست ببوادر أزمة تشير إلى شيء من نقص تروية القلب. وبدأت القبضة الغامضة الخرساء تمسك بقلبي وكان الألم ينتشر من الصدر إلى الكتف اليسري فالذراع، ودخلت إحدى الصيدليات الصينية التقليدية وسألتهم إن كان لديهم ما ينفعني. وأعطوني علبة بها زجاجات صغيرة جداً بداخلها حببيبات مدورة منمنمة عرفت أنها خلاصات أعشاب وأدوية صينية تقليدية، وازدردت حبات، وشربت شاي الياسمين في مقهى صيني قريب، دقائق، وانحلت القبضة الخرساء عن قلبي، فواصلت العمل، بل صعدت سور الصين عند قمة بادلنج في اليوم التالي، بكفاءة وانتعاش وكأنني أطير.

فلسفة مختلفة

لقد شاع كثيرا - خارج الصين - أن الطب الصيني التقليدي هو الوخز بالإبر، وحسب، لكن المدقق في الأمر يكتشف أنه منظومة من الطرائق التي تضمها فلسفة طبية واحدة، تختلف كثيرا عن فلسفة ومفاهيم الطب الغربي، وما الوخز بالإبر الصينية إلا طريقة واحدة، بينما هناك طرق أخرى تعتمد على التنفس، وحركة الجسم والأعشاب، وأجزاء من الحيوانات، بل من نواتج الحيوانات أيضاً. ولقد صادفت في صيدليات بكين التقليدية دواء مأخوذا من مسحوق اللؤلؤ الطبيعي لعلاج طائفة واسعة من الأمراض تبدأ من أمراض النساء، وتمر بأمراض الأعصاب (كالصرع) وتنتهي بعلاج بعض أمراض العين!

كل الطرق الطبية الصينية التقليدية، على اختلافها، يتم توظيفها في ثمانية اتجاهات علاجية، لمواجهة ثمانية متلازمات مرضية، بسبع وصفات دوائية لها أبع خصائص وخمسة طعوم! وهذه قصة صينية أخرى طويلة جدا، لكنني أوجز رءوس أقلامها في: إن فسيولوجية (وظائف الأعضاء) وباثولوجية (أصول الأمراض) في فلسفة الطب الصيني التقليدي تنبع من انتظام أو اضطراب دوران طاقة الحياة (تشي) التي تتوزع على خمسة أعضاء (القلب، والكبد، والطحال، والرئتين، والكليتين) وستة أحشاء (المرارة، والمعدة، والأمعاء الدقيقة، والأمعاء الغليظة، والمثانة) المدفئات الثلاث (أي التجاويف التي تضم الأعضاء، فيما فوق الحجاب الحاجز، وتحته، وتحت السرة). أما أسباب الأمراض تبعاً لهذه الفلسفة، فهي أربع ثنائيات هي الريح والبرد، وحرارة الصيف والرطوبة، والجفاف والنار، وجروح الداخل والخارج. أما التشخيص فيتم بأربع طرق هي: المعاينة بالنظر (ملاحظة تغيرات الجلد واللسان وغير ذلك)، والتسمع (بالأذن أو البوق على الأعضاء الداخلية من الخارج)، والاستجواب (تدقيق شكوى المريض)، والجس (كالتقاط النبض وتحسس الأعضاء عبر الجلد). وأما وسائل العلاج الثماني فهي: التعريق (زيادة إفراز العرق)، والإرجاع (التقيؤ)، والتطهير (بالملينات أو بغيرها)، والتأمل الباطني، وتخفيض الحرارة، ورفع الحرارة، والتصريف (البلغم، والسموم، والدم الفاسد، وغير ذلك)، والتقوية. ويتم "التوليف" بين هذه الوسائل على قاعدة من مراعاة التوازن بين متناقضات: الداخل والخارج، والحار والبارد، والزيادة والنقصان، وأخيرا شقي طاقة الحياة. أما الوصفات الطبية فهي: عقاقير شديدة أو خفيفة، بطيئة التأثير أو سريعة أو مختلطة، وهناك بالطبع طائفة واسعة وقوائم محددة لموانع الاستعمال والآثار الجانبية والتحذيرات. وكمثال طالعناه في ممارسات الطب الصيني التقليدي، نأخذ حالة المريض "وانج شن" وهو طفل عمره أربع سنوات، كان يعاني من التهاب بالحلق، وحرارة مرتفعة، وصداع، وفقد شهية للطعام، وإمساك، وكان بوله أصفر غامقا. ولقد شفي المريض من هذه الأعراض بعد تناوله جرعتين من دواء مكون من: دان دوي كي" (فول صويا مطبوخ) لإزالة الأعراض الخارجية، و"لوجين" (جذور الغاب) مع "با ماو" (عقد القصب) لتلطيف حرارة الداخل، و"شي شاو" (نبات الفاونيا - أو عود الصليب - ذي الزهور الحمراء) لتطهير الدم، و "دي لونج" (ديدان الأرض) لتيسير مرور السيال العصبي ومنع التشنجات، و"زنج رند" (مرارة الدب) لطرد البلغم، "جوهرا" (زهور الاقحوان) لإزالة الألم بتبديد الريح والبرد.

لقد اخترت هذه الحالة، لأبين مدى احتمال مريض صغير للدواء الصيني التقليدي، وفعالية هذا الدواء. وقد يتخوف البعض من مادة كديدان الأرض ولكن ما رأيته في صيدلية مستشفى الطب الصيني التقليدي ببكين، من تعقيم وتجفيف وحفظ، يجعلني أساوي بين سلامة هذا العنصر وأوراق النبات أو الزهور. وبعد ذلك وقبل، تظل هذه العناصر الطبيعية رحمة كيري إذا ما قورنت الأدوية الكيميائية المصنعة Synthetic التي تشبه سكينا ذات نصلين يقطع هنا ويخرب هناك. وهي قضية تتكشف جوانبها المظلمة يوما بعد يوم، مما حدا بمجلة أمريكية معروفة هي أخبار الولايات المتحدة - عدد 9 يناير 1995 - أن تنشر تقريرا دوليا تحت عنوان نقاط العلاج عبر "صيوان الأذن" على نموذج مطاط "عقاقير خطرة" ورد فيه الكثير، ومنه أن دواء تسكين آلام الأسنان "دورا جيزك" الذي بيع منه بـ 83 مليون دولار في عام واحد، تسبب في قتل مرضى أثناء أخذهم لحمام دافي ثبت أن الحرارة تزيد انطلاق هذا العقار شكل مدمر. ودواء الفولتارين الشهير في علاج لالتهابات الروماتيزمية بيع منه في عام واحد بـ 280 مليون دولار وتسبب في قتل عديد من الأمريكيين بالفشل الكبدي والقائمة تطول بأسماء أدوية غربية حديثة، وشهيرة، ومكلفة، ومريحة تعالج بعض الأعراض والأمراض لكنها تسبب كوارث كبرى كتخريب نخاع العظام، وتدمير الكبد، والفشل الكلوي، والسرطان. ناهيك عن بشاعات مافيا شركات الأدوية العالمية، ليس في غلاء أسعار منتجاتها وحسب، بل في التلاعب والغش أيضاً. وهو ما كشف عنه منذ فترة قريبة الدكتور "روبرت هارتوج" العامل في مجال الأدوية والذي كشف أن دولة غربية (محترمة!) تعتبر ثالث مصدر أدوية للعالم الثالث تبيع لهذا العالم (التاعس) أدوية بعضها خطير وبعضها لا يفيد، و47% من هذه الأدوية ليست مطابقة للاختبارات التي تسمح بتصديرها غلى أي مكان!!

نظرة إلى الشرق

إن ما ينكشف من ظلمات العقاقير الكيميائية المصنعة (وإن لم تكن كلها ظلمات) يقود العالم الآن إلى توجه جديد، يكاد يطابق توجه الطب الصيني القديم. فقد عقد في لندن أخيراً مؤتمر طبي يحمل شعار "عقاقير من الطبيعة"، يبشر بأدوية جديدة من كائنات كالضفادع وديدان العلق وسمك القرش، بل حتى الذباب. وهذا الاتجاه يسمى التنقيب البيولوجي وهو يفتح مناجم دوائية قديمة جديدة، إذ يعتقد العلماء أن قدرة هذه الكائنات الدنيا على العيش في بيئات موبوءة بالميكروبات، إنما يعود إلى قدرتها على إفراز مواد حيوية (ببتيدات) تحصن هذه الكائنات ضد الميكروبات. ولقد قامت شركة الأدوية الأمريكية "ماغنين" بإجراء تجارب لاستخراج دواء من الضفادع الإفريقية يبشر بالكثير. كما أن علماء جامعة طوكيو يجرون تجارب على (ببتيد) يسمى "سباسين" يوجد في السائل شبه الدموي ليرقات الذباب وهو مضاد حيوي قوي يحمي هذه اليرقات من ملايين البكتريا الضارة التي تعيش في اللحم الفاسد الذي تتكون عليه هذه اليرقات هذا وقد نوه مؤتمر "أدوية من الطبيعة" أن 25% من الأدوية الغربية الحديثة أساسها مواد نباتية، وأن خمسة من أشهر 30 دواء عالميا مستخرجة من الطحالب. إذن، استخدام الصينيين القدامى والمحدثين لأدوية من النباتات والكائنات الحية ليس بدعة، بل هو علم له جذور قديمة من التجريب والخبرة وها هو الغرب الصناعية يلتفت للنهل من هذا النبع القديم المتجدد، الآمن. فهل نولي نظرة أعمق إلى ذلك الشرق البعيد؟

ألقي بالسؤال، فتتداعي إلى خاطري صورة جماعة "التاي شي" في حديقة ريتان. وأجدني أتمتم: لا، لا، إنهم لا يلاكمون ظلالا، بل يزيحون جبالا مما يهدد البدن والروح، بوداعة لا أقوى منها، وبجهود ناعمة يسيرة. فهل نطلب الحكمة والعلم.... ولو في الصين؟

 

محمد المخزنجي 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




في صيدلة مستشفى الطب الصيني التقليدي





أحد مستشفيات الطب الصيني التقليد في بكين





المراجعون بالآلاف والغاية هيالعلاج بالإبر والمواد الطبيعية





مجموعة من الأطباء الكنديين يدرسون العلاج بالوخز على يد بروفسيرة صينية في بكين





جهاز الكتروني لتحديد ووخز النقاط الصينية التقليدية





في مطبخ مستشفى الطب التقليدي إعداد الصيني بالبخار غذاء ودواء





مريض صغير وطبيب تقليدي يشخص مرضه عن طريق النبض





الإبر الصينية تعالج مريضا من الصداع النصفي





علاج الكتف المتيبسة بالمساج الصيني





مناقشة حول علاج آثار جلطة المخ





الهدف في الدماغ والعلاج في الذراع





نقط العلاج عبر صيوان الأذن على نموذج مطاط





كرتان في اليد تولدان شحنة كهربية للتقوية والوقاية





ساعة مغناطيسية لتوازن الين واليانج لعلاج ارتفاع ضغط الدم