بحثاً عن عالم أفضل

بحثاً عن عالم أفضل

المؤلف: سير كاول بوبر
ترجمة: الدكتورأحمد مستجير

"كارل ريموند بوبر" الذي لايعرفه الكثيرون في العالم العربي، هو أهم فلاسفة العلم في هذا القرن العشرين. ولد عام 1902 وتوفي عام1994. نفضل أن يقدم نفسه إلى القارىء بنفسه:

"إنني آخر بقايا التنوير. أي أنني عقلاني أومن بالحقيقة والعقل البشري، وأن كل شخص معقول يعرف جيدا أن العقل، يلعب دوراً متواضعا في حياة الإنسان.. دور التفكير النقدي.. أو.. (الجدل النقدي) الذي هو أساس الفكر الحر للفرد. ومن خلال هذا الجدل النقدي يصبح الشخص العقلاني مستعداً لأن يتعلم من الآخرين، ذلك لأن الحقيقة ليست احتكارا له، وأنه دائما في حاجة إلى أفكار جديدة. وأن (خذ وأعط) ذات أهمية قصوى في العلاقات البشرية الخالصة. وجين أقول إنني آخبر بقايا التنوير، أقصد أن رجل التنوير يتحدث بأبسط مايستطيع من استخدام اللغة، حديثا يتسم بالوضوح والبشاعة والقوة مثل أستاذنا العظيم " برتراند راسل " لأن الهدف من بساطة اللغة هر التنوير لا التسلط ".

هكذا يقدم "بوبر" نفسه في كتابه المهم "بحثا عن عالم أفضل". ونحن هنا نعرض فكره وفلسفته المتفائلة، وقدرته المذهلة على حملنا معه على موجات فكره المتتد الجسور، عبر العصور المختلفة، مابين الحاضر المضطرم، إلى عصور ماقبل الميلاد في رحلة فلسفية علمية شائقة، يربط فيها بين فكر وعلم ونظريات فلاسفة العصور القديمة وعلى رأسهم: سقراط وأفلاطون وإكساجوراس.. إلى فلاسفة التنوير في القرنين السابع عشر، والثامن عشر، وفي مقدمتهم "كانط ".. إلى قضية التحرر من خلال المعرفة.. إلى التاريخ وكيف نفهمه بالمنهج العلمي..إلى رؤيته للفلسفة.. إلى صدام الثقافات.. إلى المقارنة بين إبداع العلم وإبدإع الفن ومابينهما من تشابهات.

وسوف يلمس قارىء هذا الكتاب المهم، أن ثمة هدفاً واحدا لهذا العالم الفيلسوف هو البحث عن الحقيقة التي هي في النهاية بحث عن عالم أفضل. ويتركز عمل "بوبر" على موضوع مجرد هو مشكلة المعرفة البشرية، والعملية منها على وجه الخصوص. وإذا كان هناك من يفرق بين الفلسفة والعلم، فإن "بوبر" يصحح هذا المفهوم، ويؤصل علاقتهما فيقول:

إن كل الرجال والنساء فلاسفة، وإن يكن البعض أكثر فلسفة من الآخر. أما الفلسفة التي يحترفها البعض فلم تنجح تماماً.. يطرح "بوبر" فكرته هذه حين يصف "دفاع " سقراط في محكمة أثينا، بأنه أفضل ما أحب بين كل ماكتب في الفلسفة. لماذا؟ لأن لسقراط في دفاعه في محكمة أثينا، يتحدث وهو رجل متواضع لايعرف الخوف، ودفاعه بسيط للغاية. يقر على أن يدرك حدوده، وأنه ليس حكيما، وأنه ناقد لكل الرطانة، وصديق لكل المواطنين، وأنه مواطن طيب. لقد أحب "بوبر" دفاع سقراط، ليس حباً في سقراط نفسه، ودفاعا عنه.. إنما دفاعا عن الفلسفة ذاتها. فالفلسفة عند "بوبر" ليست آلفاظا لغوية، بل جزءاً من تاريخ البحث عن الحقيقة. إنه معجب بالمفهوم الكلاسيكي للمعرفة التي عبر عنها "سقراط " بقوله. "إنني أعرف أنني. أكاد لا أعرف شيئا.. وحتى هذا أكاد لا أعرفه ". إنها الجسارة العقلية قلبا وقالبا. إذ كينف يمكن أن نكون. "جبناءعقليا، وفي نفس الوقت نبحث عن الحقيقة؟!. إن الباحث عن الحقيقة عليه ألا يخشى أن يكون ثوريا في مجال الفكر. فالفلسفة ليست طريقا للذكاء، أو تعبيرا عن روح العصر "كما يقول هيجل"، إنما هي البحث عن حقائق مثيرة مهمة.. أي عن نظريات حقيقية. ونظريات كهذه هي نقطة البدء القلقة لكل علم وكل فلسفة.

هكذا يحدد "بوبر" العلاقة الجوهرية بين العلم والفلسفة. فالفلسفة تبدأ من رؤى غير نقدية للحس المشترك. والهدف هو بلوغ حس مشترك نقدي مستنير، يؤدي إلى نظرية المعرفة التي تشكل "القلب من الفلسفة"، الفلسفة غير النقدية، أو مايطلق عليها فلسفة "الحس المشترك".

نظرية العوالم الثلاثة

إن نظرية "بوبر" للحس المشترك، هي نظرية ما أسماه "العوالم الثلاثة" التي حددها "بعالم أول "، هو العالم الفيزيقي المادي، عالم الأجسام الحية وغير الحية.. "وعالم ثان " هو عالم الخبرات الإنسانية الواعية- العالم السيكولوجي- وصولا إلى "عالم ثالث " هو عالم الإنتاج الذهني، عالم منتجات عقل الإنسان الموضوعية التي تشمل الافتراضات الحدسية، والنظريات، والمشاكل، وهو مايسميه الأنثروبولوجيون عالم الثقافة. ومن هذا البعد الفلسفي وصف "بوبر " بأنه فيلسوف ارتيابي، أي أنه ينكر وجود معيار عام للحقيقة. ومن ثم فحين يتناول الحديث عن علم الكونيات الذي تخدمه كل العلوم الأخرى، يضع تقسيمه المشار إليه للعوالم الثلاثة. ذلك لأن عوالم "بوبر" متفاعلة مترابطة.

والنقد عند "بوبر" هو المبرر الوحيد لوجود الفلسفة. والمعرفة العلمية هي معرفة حدسية افتراضية منهجها نقدي، وهي أرفع ضروب المعرفة وأكثرها تقدماً ونجاحاً، وأقدرها على حل المشاكل، وبالتالي من الضروري تمييزها عن غيرها من المعارف، لأنها معرفة موضوعية تبحث عن الحقيقة، والحقيقة قيمة أخلاقية.. بل هي أهم قيمة. وهكذا يكون منهج العلم عند "بوبر" هو المنهج النقدي منهج المحاولة والخطأ، منهج افتراض الفروض الجزئية، وتعريضها لأعنف نقد ممكن كيما نتبين مواطن الخطأ فيها.

وعلى جناحي العلم والفلسفة، يأخذنا "بوبر" معه إلى عصر التنوير القديم الهائل، عصر الفلاسفة والماديين الكبار، خصوم الخرافة.. محرري جنس البشر- ديموقريطس، وآبيقور، ولوكريشيوس. كانت المادية هي السائدة في تلك العصور. وعندما جاءت نظرية "نيوتن " للجاذبية كقوة جاذبة تعمل من بعد، كانت مادية أولئك الفلاسفة الكبار قد تجاوزت ذاتها. وكان كتاب نيوتن "الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية". أكبر ثورة ذهنية في تاريخ البشرية كلها. فقد حقق حلما "عمره أكثر من ألفي عام. وكانت نظريته عن الفعل عن بعد"، هي التي قادته إلى الصوفية، عندما توصل إلى أنه: "إذا كان لكل المناطق البعيدة في الفضاء الهائل أن تتفاعل فوريا مع بعضها البعض، فلابد أن يكون السبسب هو وجود كيان واحد في نفس الوقت - وجود الله ".

هكذا حلت "الفيزيقا " محل المادية، لتتجاوز الفيزيقا بدورها ذاتها، مع مجيء أينشتين، وبرودلي، وشرودنجر، ببرامج أبحاثهم نحو تفسير طبيعة المادة نفسها في صيغة ذبذبات، واهتزازات، وموجات. لأن هناك علاقة بين الفيزيقا والبيولوجيا، نجد "بوبر" يرجع إلى نظرية داروين. فمن المعروف أن نظرية اروين تعطي وزناً كبيرأ للانتخاب الطبيعي. وكان داروين قد تأثر بنظرية " مالتوس " حول زيادة تعداد العشيرة البشرية المقترنة بنقص في الغذاء، يؤدي إلى منافسة وحشية يتم فيها انتخاب الأقوى، والقضاء على من هم أقل قوة، ليبقى الأكثر قوة. ولأن "بوبر" من الفلاسفة التفاؤليين، فهو يرى أن كل الكائنات الحية مشغولة بحل مشكلة بقائها.. وأن هناك مشاكل ملموسة لاتحصى تنشأ عن أوضاع بالغة التباين، من أهمها البحث عن ظروف حياة أفضل، وحرية أكبر.. أي.. بحثا عن عالم أفضل. لكن كيف؟

يقول "بوبر".. حين تتعرض الكائنات من خلال ضغط انتخابي خارجي "مفترض "، يبزغ ضغط انتخابي داخلي قوي، تمارسه الكائنات الحية على البيئة، يفصح عن نفسه في صورة سلوك يمكن أن يفسر على أنه بحث أو تشييد موطن إيكولوجي "بيئي " جديد، يصاحبه صور من السلوك تعتبر اختبارا لأساليب الحياة والوسط البيئي. ويعتقد "بوبر" أن ثمة تفاعلإت لولبية بين الضغط الانتخابي الخارجي والداخلي، تنتصر فيه الحياة على الوسط البيئي غير الحي

كيف تتفاعل العوالم الثلاثة؟

إن نشاط الجزء الحي من العالم الفيزيقي "المادي " لحل المشاكل تسبب في بزوغ "عالم الوعي- عالم الخبرات الذاتية"، أي العالم الثاني، الذي يساعد الكائن في رحلته للكشف عن الحقائق، وفي عملية تعلمه. ومن ثم، يتدخل الوعي في آليات الذاكرة التي لايمكن لأسباب بيولوجية أن تكون كلها واعية، و إلا تداخلت مع بعضها البعض. لذا كان لامناص من ظهور مجال من اللاشعور، يرتبط جذريا بجهاز الذاكرة يحمل خريطة ما " لاشعورية" للوسط البيئي وللموطن البيولوجي المحلي. وحتى يتم تنظيم هذه الخريطة "اللاشعورية" بما تحمله من توقعات، ومايعقبه من صياغات لغوية (نعني النظريات)، يقوم بهذه المسئولية الجهاز المعرفي الذي. يحمل مناطق واعية، وأخرى غير واعية، تتفاعل مع العالم المادي، لتقود إلى عالم منتجات الذهن البشري، أو مايطلق عليه "بوبر" اسم- العالم الثالث.

ابتكاراللغة البشرية

يتساءل "بوبر" عن نقطة البدء الأساسية، وماهي الوظائف البيولوجية للوعي وأيهما الأكثر جوهرية؟ وهنا تقف اللغة في المقدمة، والتي يسلط عليها "بوبر" كشاف فكره كأوسع الخطوات التي خطتها الحياة والوعي.. تلك التي قادت إلى خلق الجنس البشري.. وهي ابتكار اللغة البشرية. فاللغة ليست مجرد تعبير عن النفس، أو مجرد وسيلة إشارية. فللحيوانات هاتان المهارتان. إننا نحن البشر وحدنا من اتخذ التدابير للتحقق من الحقيقة يناقش هذا الكتاب مشكلة المعرفة البشرية لأنه يؤمن بأن البحث عن الحقيقة هو في جوهره بحث عن عالم أفضل. الموضوعية، وذلك عن طريق الحجج النقدية. هذه هي وظيفة اللغة "الوظيفة الجدلية" التي مكنتنا من ابتكار النقد والاختيار الواعي للنظريات.

ومن ثم، كلما تجاوزت المادية ذاتها، تجاوز الانتخاب الطبيعي- وفقا لداروين- ذاته أيضا، وهذا يقود إلى لغة تحوي تعبيرات صحيحة وكاذبة، تقود بدورها إلى ابتكار النقد " وبزوغه، وبالتالي إلى طور الانتخاب. هذا الانتخاب الثقافي النقدي، هو الذي يقوم بتوسيع الانتخاب الطبيعي، ويتجاوزه جزئياً، لأنه يوفر لنا وعياً يسمح لنا "بمتابعة نقدية لأخطائنا، فنتخاص بوعينا منها..وأن نحكم بأن نظرية ما تفضل نظرية أخرى.

هكذا يرى "بوبر" أن هذه هي النقطة الحاسمة، لأنها بداية مانسميه "بالمعرفة البشرية". فليس ثمة معرفة دون نقد عقلي في خدمة البحث عن الحقيقة.. لاسيما أهم أنواع المعرفة، وهي المعرفة العلمية، التي تتوقف على النقد العقلي. هذه المعرفة هي التي تحصل الثقافة البشرية. لكن مايهمنا عند استتخدام اللغة، هو محتواها بمعناها الإنساني الحقيقي. فاللغة البشرية هي التي تخلق جزءاً من عالم وعينا. لذا فإن عقلنا هو من ابتكارنا. وهذا الابتكار شيء خارجي وموضوعي مثل كل ابتكاراتنا. والمنتج الموضوعي للعقل البشري ناتج عن نشاط ذهني ومجهود علمي شاق. كما أن عالمنا الذهني- كما يطرح بوبر- يتطور من خلال تفاعلاته من عالم الأشياء المادية، والخبرات الشخصية الذاتية مع عالم اللغة، وعالم المحتوى الموضوعي لأفكارنا مثل- "عالم الكتب، وعالم الفن، وعالم مؤسساتنا أي عالم الثقافة".

ابتكار الكتابة والكتاب

ولأول مرة في تاريخ الحياة على كوكبنا، كان ابتكار اللغة سبباً في وجود المحتوى الموضوعي. وكانت الخطوة التالية هي اكتشاف الكتابة. لكن أخطر الخطوات كانت ابتكار الكتب، وابتكار المنافسة النقدية بين الكتب. والكتب تنقلنا إلى التاريخ الذي هو أفكار البشر.

وهنا يقف " بوبر" عند هذه النقطة ليبدأها بنفسه، وكيف لعبت الكتب دورا في حياته يفوق دور الموسيقى. هذا الإنجاز البشري، مثل الأعمال الرائعة للموسيقى الكلاسيكية التي تتسامى فوق قوى البشر ومع ذلك كانت الكتب عنده هي الأكثر أهمية من الناحية الثقافية. أليست الثورة الثقافية الأوربية مدينة لـ "يوهان جوتنبرج " مخترع الطباعة؟ لكن "بوبر" لايمكن أن يواصل رحلته العملية الفلسفية معنا دون العودة مرة ثانية إلى الزمن البعيد- إلى " 2000 عام " قبل جوتنبرج، قبل الميلاد.هاهو يعود إلى اليونان التي هي أصل الحضارة الأوربية. إنها كما يسميها "المعجزة الأثينية" في القرن السادس، والقرن الخامس قبل الميلاد، عصر صد الفرس، الذي أصبح فيه الشعب الإغريقي بدفاعه عن حريته مدركا لفكرة الحرية.

صدام الثقافات

إن "المعجزة الأثينية" هي معجزة الصدام الثقافي بين الإغريق والحضارات الشرقية. فقد بزغت ملاحم هوميروس، وكان موضوعها " صدام الثقافات "، بزغت في المستعمرات الشرقية على سواحل آسيا الصغرى، لتصل إلى الغرب عن طريق اللاجئين السياسيين الهاربين من الفرس، وكان بينهم " فيثاغورس، وأناكساجوراس، وغيرهما ". كانت ملاحم هوميروس موجودة منذ " 300 عام " قبل أن تجمع وتدون لأول مرة نحو عام " 550 قبل الميلاد". وكان هذا أول كتاب أوربي ينشر في أثينا، وتبعته أعمال إيسخيلوس وغيره من الشعراء. ومنذ ذلك الوقت أصبحت أثينا ديمقراطية، يتلهف الأثينيون على قراءة الكتب. لقد بدأت الثقافة الأوربية بوجه خاص، مع نشر أعمال هوميروس في شكل "كتاب ".

أما أول نظرة علمية ظهرت في التاريخ، فهي العمل الكبير "لأناكساجوراس" تحت اسم "عن الطبيعة "، والذي تبعه العمل العظيم لى "أبي التاريخ " هوميروس صاحب "الإلياذة والأوديسة ". فقد اكتشف هوميروس الطبيعة النقدية والتنويرية لصدام الثقافات، وعلى وجه الخصوص بين الثقافة الإغريقية، والمصرية، والفارسية من المكتبة العربية الوسطية. ومنذ ذلك الزمن البعيد، دفع نظر وبيع هذه الكتب عجلة ثورة ثقافية لاتقل أهميتها عن تلك التي بدأها جوتنجرج بعد "2000 عام ". هكذا يحيا الكتاب بعد مؤلفه " 1000 عام "، ويعمر المحتوى الفكري أكثر من " 1500 عام "، مثل محتوى أول كتاب علمي لأناكساجوراس، كتاب "مع الطبيعة". وكان صدام الثقافات هو الذي دفع أثينا لابتكار الأدب، والتراجيديا، والفلسفة، والعلم، والديمقراطية في تلك الحقبة القصيرة التي لم تتجاوز مائة عام. وصدام الثقافات لايلزم أن يسفر عن معارك دامية.. إنما يكولق سبباً في تطوير مثمر للحياة، يقود إلى تطوير ثقافة متفردة كثقافة الإغريق التي أخذها الرومان فيما بعد، عندما تصادمت ثقافتهم مع الثقافة الإغريقية، لتعود إليها الحياة خلال عصر النهضة، بعد صدامات عديدة خاصة مع الثقافة العربية، لتصبح ثقافة الغرب هي الحضارة الأوربية الأمريكية.

وصدام الثقافات- أو- الحضارات، يقود إلى التنوير الذي يقود بدوره إلى علم كونيات نقدي.. إلى نظريات تأملية نقدية عن هندسة النظام الكوني، ليصل في النهاية إلى العلوم الطبيعية التي نشأت نتيجة لأثر الموقف العقلي والنقدي من التفسير الأسطوري للطبيعة.

الرابطة بين العلماء والفنانين

ولأن بوبر فيلسوف تفاؤلي، فهو يقارع دعاية المتشائمين الثقافيين ضد العلوم الطبيعية فيقول: "إن كبار الفنانين لهم اهتمام محوري واحد، هو عملهم الفني. نفس الشيء بالنسبة لكبار العلماء. فلم يفكر "بلانك " أو "أينشتين "، أو "بوهر"، في تطبيق عملي للنظرية الذرية. على العكس، فحتى عام 1939، كانوا يرون أن مثل هذا التطيق العملي أمر مستحيل. لقد أحالوا الفكرة إلى مجال الخيال العلمي. كانوا يبحثون عن الحقيقة من أجل الحقيقة. كانوا "كوزمولوجين " تدفعهم الرغبة التي عبر عنها "فاوست جوته " في قوله: "أن يعرفوا أي قوة قد تكون تلك التي تحفظ وحدة هذا العالم ".

وإذا قارنا بين الشعر والعلم، نجد أن كليهما له نفس الأصل- أصلهما في الأساطير. ويمكن أن نميز نوعين من النقد، واحداً ذا اهتمامات جمالية أدبية يقود إلى الشعر، والثاني ذا اهتمامات عقلية يقود إلى العلم. فبداية العلم- كما يقول بوبر- هي في الأساطير الشعرية والدينية.. في الخيال الجامح للإنسان الذي يحاول أن " يجد تفسيرا لنفسه وللعالم. يسأل إذا كان الخطاب الأسطوري صحيحا، وعما إذا كان العالم قد تطور كما تحكي الأسطورة، أو كما قال بها سفر التكوين؟.. وتحت ضغط هذه الأسئلة تصبح الأسطورة "كوزمولوجيا" أو علم عالمنا، علم بيئتنا، وتتحول الأسطورة إلى علم طبيعي. والنقد الأول، يقيم جمال اللغة، وطاقة ا لإبداع، وتألق الصور وحيويتها، والتوتر الدرامي وقدرته على الإقناع. وهذا النوع من الحكم النقدي يؤدي إلى الشعر، لاسيما إلى الملحمة، والشعر الدرامي، وإلى الأغنية الشعرية ومعها الموسيقى. أما الثاني، "النقد العقلي "، فيسأل عما إذا كان الخطاب الأسطوري صحيحا. والنقد الذاتي المبدع في الفن، نراه على أحسن مايكون في مسودات "بيتهوفن "، تلك الوثائق عن نقده الذاتي المبدع، عن إعادة النظر المستمرة " في أفكاره. وهذا يسهل علينا تفهم التطور الشخصي المذهل لبتهوفن منذ بدأ التأليف الموسيقي تحت تأثير هايدن وموتزار، وحتى آخر عمل أنجزه.

وحين نقارن بين الفنون والعلوم، نجد أن العمل في العلم هو الفرض والقوة التفسيرية. وهدف النشاط العلمي هو الحقيقة. وهذا الهدف ثابت إلى حد بعيد. ومن ثم، فهو السبب في وجود التقدم الذي قد يمكث قروناً، ليتقدم نحو نظريات أفضل وأفضل. أما النقد الأكثر أهمية في الأدب فهو النقد الذاتي الخلاق للفنان. أما في العلم، فلايكون النقد نقداً ذاتيا فحسب بل نقداً مشتركا.. عندما يغفل العالم خطأ يكتشفه غيره من العلماء. وهكذا يكون منهج العلم "ذاتي النقد وتبادلي النقد في نفس الوقت ". والنشاط الإبداعي للعالم يشبه مثيله للفنان. فالمنظِّر الكبير في العلم، يوازي الفنان الكبير في الفن لكن النظرية العلمية الكبيرة- على عكس العمل الفني تبقى دائما خاضعة للتحسين.

النقد إذن- كما يقول بوبر- هو دم الحياة للفلسفة، وإنه لأمر مهلك حقما ذلك النقد الصغير لنقاط صغيرة دون فهم لمشاكل الكون الكبرى، للمعرفة البشرية، للأخلاقيات، للفلسفة السياسية، دون محاولة جادة مخلصة. إن كل الناس فلاسفة، لأننا جميعا بطريقة أو بأخرى نتخذ موقفا تجاه الحياة والموت وهناك من يرون ألا قيمة للحياة لأنها زائلة، وينسى هؤلاء الحجة المقابلة لهذه، " وهي: "لو لم تكن ثمة نهاية للحياة، لما كانت لها قيمة، نعني- جزئياً- أن خطر فقدها الماثل دوما هو الذي يجعلنا ندرك قيمتها".

نلاحظ أن النقد- في رأي بوبر- هو المبرر الوحيد لوجود الفلسفة، وأن المشكلة الفلسفية الوحيدة، هي نفسها المشكلة العلمية والوحيدة: "المشكلة الكوزمولوجية"، أي مشكلة فهم العالم بما في ذلك نحن أنفسنا ومعرفتنا بأنفسنا كجزء من العالم. فالعلم والفلسفة معا يسهمان في حل هذه المشكلة.

تاريخ العلم هو تاريخ الافكار

ترى، ما الذي يجمع بين الفن، والأساطير، والعلم؟ يقول " بوبر"، إنها جميعا تنتمي إلى طور مبدع يسمح لنا بأن نرى الأشياء في ضوء جديد. إن فيزياءنا كلها ليست فقط فيزياء المادة والتركيب الذري، إنما أيضا فيزياء المجالات الكهربائية، والمغناطيسية والجاذبية. كل هذا هو وصف لعوالم افتراضية نتصور أنها مخبوءة بعيدا عن عالم خبراتنا. هذه العوالم الافتراضية كالفن من نواتج تخيلاتنا وحدسنا. لكنها في العلم محكومة بالنقد. ذلك لأن النقد العلمي. والنقد العقلي يحل محل التبرير توجهه فكرة الحقيقة.

إن تاريخ العلم، هو في جوهره تاريخ الأفكار. مثلا كانت العدسات المكبرة موجودة لزمان طويل قبل أن تطرأ على ذهن "جاليليو" فكرة استخدامها في التلسكوب الفلكي. وكان علم نيوتن فرعا من فروع الفيزيقا. ومع تطور العلم وصلنا إلى البيولوجيا الجزيئية، والاختراق الفذ الذي حدث في علم الوراثة بعد نظرية "جيمس واطسن و فرانسيس كريك ". وكانت فكرة الجن " العامل الوراثي " فكرة قديمة جدا، كانت مضمنة في أعمال "جريجور مندل- Mendel". فلم يقدم " واطسن وكريك " فقط نظرية عن البنية الكيماوية للجينات، وإنما أيضا نظرية عن التضاعف الكيياوي للجين، بل وحتى نظرية عن أثر النمط المشفر بالجينات على الكائن الحي.

واكتشف العالمان أيضا "الفبائية" اللغة التي كتب بها هذا النمط، أي "الفبائية الشفرة الوراثية".

 

ليلى الجبالي

 
  




بحثا عن عالم أفضل - غلاف الكتاب