سلس البول الجهدي عند المرأة

سلس البول الجهدي عند المرأة

لقد حـدث إلى جانب دورها الجليـل والشـاق في استمرار الحيـاة الإنسانية،
ثمة جراح خفية تحتملها المرأة في تكتم وصبر شديد، وأليم، وهذا نموذج منها.

الجراحة حرفة. هذا هو الدرس الأول الذي يتعلمه دارس الطب الذي يريد أن يكون جراحاً. والحرفة ـ كما نعلم ـ ثلاثة أركان: معلم (أسطى), وصبي, وورشة وكل المعلمين الكبار كانوا صبيانا ومشوا الطريق خلف معلمين آخرين, حتى كبروا وصاروا معلمين. وعلى الصبي الجديد أن يلتصق بمعلمه, يساعده ويطيعه, يراقبه, ويلتقط منه خبايا الصنعة وأسرارها, كيف يفكر, كيف يقرر, وكيف ينفذ ماقرر. وهكذا لسنوات حتي يحين فصاله, فينفصل ـ مشروعا لمعلم ـ شبيها بمعلمه الأول. وربما كان موهوبا بطريقة خاصة, فتميز, وصارت له طرائق في الصنعة, تعرف باسمه, ويفعلها الحرفيون من بعده.

الأمر مختلف

هكذا, التصقت بأحد هؤلاء المعلمين الكبار والكرام, علمني ماتعلم, فأخذت عنه الكثير, وتشبهت به قدر جهدي, وافترقت عنه في أشياء ـ ربما ـ بحكم الهوى, وبحكم الطباع والقناعات الأولى في أشياء أخرى.وكان مما تلقيته عن معلمي: أن المرأة أكثر قدرة على تحمل سلس البول من الرجل. لم تكن هذه قناعة معلمي وحده, بل قناعة الكثير من المعلمين غيره. وظللت أردد هذه المقولة وراءه ووراءهم ـ بثقة الصبي الغر ـ وربما مازلت أقولها في مناسبات قليلة, ليس بثقة, ولكن بالكثير من الشك. ربما ساعد على ذلك أن عدد الحالات التي راجعتني كطبيب شاكية من سلس البول الجهدي, تعد على أصابع اليد الواحدة خلال سنوات. لم يكن منطقيا وقتها أن أشك في مقولة معلمي, لكن كانت لي حيرتي, أن يقول كتاب الطب إن 54% من النساء يشتكين من سلسل البول الجهدي على الأقل مرة واحدة في حياتهن, وأن نسبة كبيرة منهن ربما تحتاج إلى علاج جراحي. ولأن كتاب الطب هذا كتاب أوربي, فكان عليّ أن أسأل: هل تختلف المرأة في أوربا عن المرأة في الشرق العربي? وهل يمكن للمرأة الجميلة, الرقيقة, الأم الحنون, الحريصة على نظافة عيالها وصحتهم أن تتحمل شيئا كهذا? أن ينفلت بولها إذا ضحكت, أو سعلت, أو عطست, وفي بعض الحالات المتقدمة إذا قامت من جلستها أو إذا جلست من وقوفها. ناهيك عما يسببه هذا الانفلات للبول من بلل والتهابات ورائحة? فمن أين جاءت فكرة التحمل هذه? كان رد أستاذي والكتاب أن التحمل يمكن أن يكون وصفا غير دقيق, ولكن الخجل يمنع المرأة من الذهاب إلى الطبيب والشكوى.ربما يكون من الصفات المطلوبة في المرأة ـ في إطار المجتمع المحافظ ـ أن تكون خجولا. ولكن أي خجل هذا الذي يمنع المرأة من مراجعة الطبيب شاكية من سلس البول. أتخجل من الشكوى ولاتخجل من المشكلة ذاتها? بما تسببه هذه المشكلة من حرج اجتماعي, يؤدي إلى انعزالها, و انزوائها وربما الاكتئاب, أكثر من ذلك يؤدي إلى مشاكل زوجية. وبحكم عملي, شهدت حالات من هذا النوع. لم تفكر المرأة في العلاج إلا بعد أن تهدد زواجها وبيتها وربما بعد أن انهد البيت بالفعل. فهل هناك خجل في مشكلة صحية اجتماعية, تصيب البيت الذي تحرص عليه المرأة أشد الحرص?

هل أدعي أن المرأة في بلادنا مجبرة على هذا التحمل ومدفوعة إلى هذا الخجل, لسوء الفهم ربما, وإساءة التقدير من جانبنا ومن جانبها, أم بعدم وضوح ورسوخ مفاهيم الصحة العامة في مجتمعاتنا? أعتقد أن المرأة قد وقع عليها الكثير من الظلم. بعضه شاركت هي فيه من حيث لاتدري, وبعضه لاتدري, وبعضه هي غير مسئولة عنه إطلاقا. فهي بحكم الطبيعة, تعاني من ضعف خلقي في عضلات الحوض, لأن هذه العضلات مثقوبة بثلاث فتحات (الشرج ـ المهبل ـ قناة مجرى البول) مما يجعل هذه العضلات ضعيفة خلقيا, إضافة لتكرار الحمل والولادة, فيزداد ضعف هذه العضلات وبالتالي تزداد فرصة حدوث سلس البول الجهدي وهذا لادخل لها فيه.

تشريحياً ووظيفياً

تشريحيا: توجد قناة مجرى البول أسفل تجويف الحوض, وهي ـ كما هو معروف ـ أنبوب يوصل بين المثانة وخارج الجسم. وطول هذا الأنبوب حوالي أربعة سنتيمترات وهذا الأنبوب مغلف بالعضلات التي تكون مايسمى بحجاب الحوض Pelvic Diaphragm وهو كذلك معلق بالعديد من الأربطة والأغشية إلى الغلاف الداخلي لعظام الحوض الأمامية ويمكن القول إجمالاً إن هذا الأنبوب مقسم إلى جزأين, داخلي وهو يؤدي وظيفة التحكم اللإرادي Passive Continence, وجزء خارجي يؤدي وظيفة التحكم الإرادي Active

فسيولوجيا: ماالذي يحدث في المرأة الطبيعية?عند ازدياد الضغط ـ بشكل مفاجىء ـ داخل تجويف البطن, كما يحدث وقت السعال أو الضحك ـ مثلا ـ يقابل هذه الزيادة, وبشكل لا إرادي (انعكاس Reflex) ـ انقباض في عضلات حجاب الحوض, يؤدي إلى زيادة الضغط داخل قناة مجرى البول. وفي نفس الوقت يزداد التوتر في الأربطة التي تعلق مجرى البول إلى عظام الحوض, فترتفع قناة مجرى البول إلى أعلى وتنضغط أو تنعصر. هذه المجموعة من الأفعال الانعكاسية اللإرادية المترابطة تؤدي إلى إغلاق قناة مجرى البول وبالتالي عدم انفلاته وبكلمة واحدة: التحكم Continenceفإذا حدث وأصيبت هذه العضلات بالضعف والترهل أو الارتخاء دارت المثانة إلى الخلف وإلى أسفل, وهبط معها عنق المثانة وقناة المجرى. وفي لحظات ازدياد الضغط داخل تجويف البطن, تصبح درجة التوتر في الأربطة وقدرة العضلات على الانقباض غير كافية لرفع عنق المثانة إلى أعلى, وبالتالي لاتنضغط قناة مجرى البول. والنتيجة أن الضغط في تجويف البطن, يكون أعلى من الضغط الفالق لقناة مجرى البول, وعمليا ينغلق البول لاإراديا, وبكلمة واحدة سلس: Incontinence. وهذا النوع من السلس يعرف بالجهدي لأنه لايحدث إلا وقت زيادة الجهد:Stress

فما هي أسباب هذا السلس الجهدي أو ماهي أسباب هبوط عنق المثانة وقناة مجرى البول? أولها وأهمها الضعف الخلقي لعضلات الحوض والتي لاتظهر إلا في سن متقدمة. كثرة الحمل والإنجاب, وغالبا ماتكون هذه الحالة مصحوبة بهبوط في القناة المهبلية بدرجات مختلفة, ويستلزم علاج المشكلتين في آن واحد.

بالنسبة للطبيب نفسه, يكون التشخيص سهلاً, فيكفي وقت الفحص السريري أن يطلب من المرأة أن تسعل, ويلاحظ ما إذا كان البول ينفلت منها لا إراديا أم لا. وثانيا عليه وعلى السيدة أن تساعده في تقدير كمية البول المنفلتة. لأنه لايكفي أن ينفلت البول فقط لكن يجب أن تكون الكمية المنفلتة كافية لتشكيل (حرج اجتماعي). ويتبع ذلك أن يفرق بين سلس البول التشريحي والذي ينتج عن هبوط عنق المثانة عن موضعها, أو سلس البول نتيجة ضعف عقلة وصمام التحكم في قناة مجرى البول Sphincter وغير المصحوب بهبوط تشريحي في قناة مجرى البول. وأخيراً عليه أن ينفي وجود انقباضات غير وظيفية وغير منضبطة في المثانة ذاتها.

ألوان من العلاج

في الحالات البسيطة, والتي تكون فيها كمية البول المنفلتة قليلة, والتي لاتضطر معها السيدة إلى تغيير الحفاض كثيراً. فإن بعض التمرينات قد تكون مفيدة في العلاج. تهدف هذه التمرينات إلى تقوية عضلات الحوض, بحيث تستعيد قدرتها على رفع وعصر قناة مجرى البول وبالتالي قدرتها على التحكم. وفي هذه التمرينات تتخيل السيدة أن هناك بولاً سينفلت منها, فتقوم بعمل انقباض وقائي إرادي في عضلات الحوض. يؤدى هذا التمرين بمعدل 10 مرات خلال 30 ثانية كل ساعة (مرة واحدة كل ساعة). ربما يساعد هذا التمرين في تحسن بعض الحالات البسيطة, أو يؤدي دوراً مهما في حالة إضافة أنواع أخرى من العلاج.

وفي أحيان كثيرة, لاتستطيع السيدة تحديد العضلات المطلوب تقويتها, ولذلك فإنه يتم استخدام جهاز مساعد, يقوم بتوجيه السيدة ومساعدتها في معرفة العضلات المراد تقويتها, ويسمى هذا النوع من العلاج Biofeed balk. وتبدو هذه طريقة أكثر موضوعية من الأولى, وتصل نسبة التحسن في الدراسات المختلفة من 20 ـ 50% اعتماداً على درجة السلس وحالة العضلات ذاتها.

وهناك العلاج بتعاطي هرمون الاستروجين Estrogen. حيث يتمتع الغشاء المخاطي المبطن لقناة مجرى البول بحساسية خاصة تجاه هذا الهرمون, وهو أيضا يزيد من استجابة عضلات قناة مجرى البول لاستثارة الأدرينالين. وهذه الطريقة ربما يكون من المفيد استعمالها عند بعض السيدات المتقدمات في السن والتي تكون نسبة الهرمون في دمها قد هبطت كثيراً عن معدلاتها الطبيعية, لكنها في النهاية لاتستخدم إلا تحت إشراف ومتابعة الطبيب. وهناك أيضا العلاج بمنشطات مستقبلات الأدرينالين من نوع (ألفا) ولكن لاينصح باستخدامها لأن مضارها الجانبية تفوق فائدتها.

الجراحة أخيراً

وأخيراً يبقي أمامنا الحل الجراحي, الذي يمكن أن نلجأ إليه من البداية في الحالات المتقدمة أو في الحالات البسيطة التي لم تنجح معها وسائل العلاج السابقة. وكل العمليات الجراحية تهدف إلى رفع عنق المثانة إلى أعلى Suspension والاختيار بين هذه العمليات يكون متروكا للجراح. وهي عمليات سهلة تجرى إما من تجويف البطن أو من القناة المهبلية أو بطريقة تجمع بين الاثنين. وربما لاتنجح الجراحة من المرة الأولى في الوصول إلى النتيجة المطلوبة ويمكن إجراء نوع آخر من العمليات بعدها. وكل هذه الجراحات لاتتطلب وجود السيدة في المستشفى لأكثر من يومين أو ثلاثة من إجراء الجراحة. وتصل نسبة النجاح في هذه الجراحات إلى 85% في العام الأول من إجرائها.

أما الجديد نسبيا في علاج مثل هذه الحالات فهو الحقن الموضعي لمادة ما لايقوم الجسم بامتصاصها مثل الكولاجين Collagen أو التيفلون Teflon. ويتم هذاالحقن بواسطة المنظار ويؤدي نفس الدور الذي تقوم به الجراحة من رفع عنق المثانة إلى أعلى ويمكن تكرار هذا الحقن مرات في حالة عدم الوصول إلى النتيجة المطلوبة من المرة الأولى. وكذلك لاتبقى السيدة لأكثر من ثلاثة أيام بعد الحقن.مانود قوله أخيراً إن وسائل التشخيص متاحة, ووسائل العلاج متعددة, فقط على المرأة أن تكف عن تحمل مالايجوز تحمله, وأن تتخلى عن خجل في غير موضعه.

 

إبراهيم البجلاتي

 
  




ليس الحمل والولادة ورعاية الطفل آخر معاناة المرأة





حتى مع الطبيب يصعب التعبير عن المعاناة