الظهر

يظل كل مايبدأ بحرف الظاء عزيزاً في لغتنا العربية, ومعدوماً ـ برغم الجهر به ـ في كثير من اللغات الأخرى ,وفي الموسوعة العربية الميسرة لاتحتل كل هذه المادة (الظائية) العربية التي تحتاج إلى تعريف سوى صفحة وربع, فما بالك وقد وقعنا في (الظهر)? ولاسيما (أن من له ظهر (لاينضرب) أبداً على بطنه) حكمة راسخة طوال أحقاب التاريخ: الظاهر والباطن. ولقدرة الظهر الحي على تحمل الأعباء المختلفة في الحياة ومسئولياتها ومنقولاتها, أطلق الظهر على كل مايقوم بذلك من حيوان, ثم تقلصت اللفظة منسحبة إلى الحمير فقط تاركة الخيول والبغال والجمال تسرح وتمرح بظهورها العارية في الهواء الطلق.

وإذا كان للقبيلة بطون من قبائل متفرعة عنها, فبالتأكيد لها ظهور من قبائل أخرى تقع في دائرة مساعدتها وحمايتها, أنا لا أعرف ذلك إنما هو استنباط فقط, وسترى ذلك في ظهير كرة القدم الذي يقوم بدور رياضي مشابه, أيمن, وأيسر, وهو مأخوذ أصلاً من تقسيمات الجيوش ـ العربية بالذات ـ من أيام فرسان (التكتيكات) خالد بن الوليد وعمرو ابن العاص, ويعنى به القوات الضاربة في أقوى حالات الجيش والتي تكون تالية للمقدمة المهاجمة, تغير ذلك الآن ـ بالتأكيد ـ بعد ثورة علوم الحرب العصرية الجوية والأرضية, ومن عصور الفراعنة سوف تجد من ألقاب القائد (منفتاح) أنه رأس الجيش وظهره, ويعتقد كثير من المؤرخين أن هذا العسكري من أبناء رمسيس الثاني ـ الذي أصبح ملكاً, هو الذي دحر بني إسرائىل وطاردهم إلى البحر, أي أنه كان (فرعون موسى).

والظهور هو البروز بعد الخفاء, أو التخلق بعد العدم, وأشهر ما ظهر على وجه الأرض: طوفان سيدنا نوح, ونار سيدنا إبراهيم أيام اختباره حين كان شابا, ثم خروف سيدنا إسماعيل أيام اختبار والده النبي إبراهيم: أي بعد أن أصبح نبياً, وأشهر ظهر في نص أدبي هو للشاعر الفرنسي فيكتور هوجو: أحدب نوتردام, وظهراً لبطن ـ عنوان نص قصصي محدود الشهرة لصبري موسى, مع أن مادة (ظهر) ذاتها تستطيع أن تتمدد في المعاني إلى عالم أوسع, ظهر الشيء على الحائط: علاه, وظهر على الأمر: اطلع, وظهر على عدوه ـ أو ظهر بعدوه: غلب عدوه { إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم } صدق الله العظيم وظهر بالحاجة: استخف بها ولم يهم, أو لم يخف إليها, وظهر عنه العار: زال ولم يعلق به, وظهرت الطيور من بلد ما إلى بلد آخر أي انحدرت منه إليه, وظهر بالشيء: افتخر به, ثم هناك ظهر فلان فلانا ظهراً: تعني ضرب ظهره, مما يسبب له ألماً باقياً ومستمراً, بين الجاهلين وقد شاع قول بعضهم (أنت عليّ كظهر أمي, أي أنت عليّ حرام, وكان هذا طلاقاً في الجاهلية وقد نهى عنه الإسلام.

وأشهر حوادث التاريخ كله: ظهور الإسلام, وأجمل مايمكن للعين أن ترى: ظهور البدر القمري, وأجمل لحظات العمر: ظهور سفينة الإنقاذ, وأكثر اللحظات الإنسانية شجناً: ظهور الشعر الأبيض, وأكثرها تألقاً: ظهور المحبوب قادماً من بعيد في أول لقاء, وأكثرها دفئاً: ظهيرة صحو الشتاء, وكانت ظهيرة يوم الاثنين تمثل لنا ابتهاجاً دافقاً أيام أن كنا صبيانا: إنه الموعد الأسبوعي للطبيخ, و يقال: أظهر فلاناً على السر أي أطلعه عليه, وأظهر فلان القرآن الكريم: قرأه على ظهر لسانه محفوظاً دون صفحات, ومظاهرة الشيء: جعله وراء ظهره, وهذا يقودنا إلى المظاهرات التي كان أشهرها في مصر أيام النقراشي باشا أواخر الأربعينيات عندما تم فتح كوبري الجيزة على التجمعات الهاتفة بسقوط الوزارة, وفي عام 1977 ـ كانت مظاهرات 18 و 19 يناير واشتهرت بمظاهرات الحرامية ـ على رأي الرئىس أنور السادات ـ أو مظاهرات الخبز على رأي مثقفي عصر الرئىس السادات, وكل هذا لايساوي ماحدث من مظاهرات ثورة 1919 العتيدة التي شملت كل طبقات الشعب, والفعل (ظاهر) يعني المطابقة بين شيئين (ثوبين مثلا) ليختار أحدهما, أما التظهير فهو عملية عصرية يوقع فيها أحد الأطراف على ظهر الكمبيالة (الصك) أو أية أوراق مالية ليتحمل مسئولية صرفها أو تحويلها إلى شخص آخر, في حين أن الاستظهار يعود بنا إلى الحفظ عن ظهر قلب, والظاهر اسم معروف من أسماء الله جل وعلا, والظاهر بيبرس حاكم مصري هو بيبرس البند قداري من أقدر سلاطين المماليك في مصر, والذي انتصر على الصليبيين في المنصورة ونجح في أسر ملك الفرنجة لويس التاسع, ثم عين جالوت, وله سيرة شعبية في مصر توازي سيرة أبي زيد الهلالي, له مسجد شهير بالقاهرة, وحي كامل وسطها هو حي (الظاهر), وقد دفن الظاهر بيبرس في الحي الذي يحمل اسمه ـ الظاهرية ـ بدمشق, أما (ظاهر الرواية) فهي كتب في الفقه الحنفي وصل عددها إلى ستة, وظاهر العمر: حاكم على دمشق قاتله سليمان باشا العظم, والظاهرة هي تفشي أمر بين عموم البشر.