جمال العربية

العربية

فتاة الحي
لأبي فراس الحمداني

بين وجهيه الشاخصين: فارسا وشاعرا تكامل من طراز فريد. يذكرنا على الفور بجده الأعلى ـ سيد تغلب وشاعرها عمرو بن كلثوم, كما يذكرنا بآخرين في ديوان الشعر العربي كانوا شعراء كبارا كما كانوا فرسانا ورموزا للبطولة والفروسية, من بينهم عنترة في القديم والبارودي في مطالع العصر الحديث.

لكن أبا فراس الحارث بن سعيد بن حمدان الذي ينتسب بعمومته إلى تغلب وبخؤولته إلى تميم يصنع صورته في الشعر والبطولة على نسق مغاير بعض الشيء لتلك الأنساق المألوفة التي سبقته من طرازه. إن حقيقة الإنسان فيه تسطع من خلال قيمه النبيلة ومثله العليا, ومن خلال مواقف الشهامة والتضحية والفداء, وحياة قصيرة ممتلئة, ملأها بحسن الفعال وصدق المقال, وبالمغامرة حتى مشارفة الموت, وبالصمود في وجه التحديات يقينا بالظفر والانتصار.

عاش أبوفراس بين عامي ثلاثمائة وعشرين وثلاثمائة وسبعة وخمسين هجرية, وخلال سنوات عمره السبع والعشرين تقلب به الحال بين يتم مبكر ـ حين قتل أبوه وهو في الثالثة من العمر ـ ورعاية من الأم ـ التي تركت أثرها عميقا في وجدانه, وسيظل يذكرها ويهتف بها حتى اللحظة الأخيرة من حياته. وعطف من ابن عمه سيف الدولة أمير الدولة الحمدانية في حلب, الذي سيتعهد أبا فراس بالتنشئة الكريمة في مجالات الفروسية والعلم والأدب ثم يقلده في مقتبل العمر إمارة منبج, ويصحبه في حروبه وغاراته ضد القبائل المناوئة لحكم الحمدانيين, وإمبراطورية الروم الطامعة في إمارة حلب باعتبارها مدخلا لابتلاع الدولة العربية التي تمزقت إلى دويلات, وحين يؤسر أبو فراس ومعه نفر من أصحابه في كمين رومي, ويظل أسيرا في بلاد الروم طيلة سبع سنوات, يشدو خلالها برومياته التي أبدعتها شاعريته في الأسر مسجلا بها إضافة عالية القيمة لتراثنا الشعري, يفتديه سيف الدولة ثم تكون النهاية الفاجعة حين ينشب الصراع بينه وبين أبي المعالي الذي تولى إمارة حلب بعد وفاة أبيه سيف الدولة, وهو ابن أخت أبي فراس في الوقت نفسه, وتلحق الهزيمة بأبي فراس ويقتل ثم يحمل رأسه إلى أبي المعالي. ويخسر الحمدانيون بمصرعه واحدا من رجالاتهم المعدودين في الفروسية والشعر.

وحين ينهض أبو عبدالله الحسين بن خالويه العالم النحوي اللغوي بجمع ما تيسر له من شعر أبي فراس وشرحه وتحقيقه, فإنه يقدم له بسطور تكشف عن عمق تقديره وحجم إكباره لشاعرية أبي فراس وعراقة محتده, وكريم خصاله وصفاته حين يصفه بأنه صاحب الشرف السامي والحسب النامي والفضل الذائع والأدب الرائع والشجاعة المشهورة والسماحة المأثورة. ثم يقول عن سيف الدولة إنه مُنبته ومثقفه ومخرّجه وموقفه على سنته العادلة وآثاره الفاضلة. شهدت له شواهد العقل ودعت إليه دواعي الفضل.

ولقد قدر لشاعرية أبي فراس أن تعاصر شاعرية المتنبي, وأن يجتمع الشاعران معا في بلاط سيف الدولة الحمداني ما بقي المتنبي في حلب صفيا لسيف الدولة وشاعره المقرب الأثير, أي أكثر من تسع سنوات, وقيل كلام كثير عن فعل الوشاة والمفسدين والموقعين بين الشاعرين, وهو كلام يمكن قبول بعضه وغض الطرف عن كثير من ذيوله, لكن الذي يمكن أن يقبله العقل والمنطق أن أسباب الغيرة والمنافسة بين الشاعرين قائمة, وأن محاولة كل منهما أن يكون الأقرب إلى سيف الدولة طبيعية وواردة. والمؤكد أن شهرة أبي الطيب الداوية ومكانته الذائعة قد حجبت كثيرا مكانة أبي فراس وجعلته يتأخر كثيرا في المنزلة والترتيب. وربما قارب شعر أبي فراس شعر المتنبي من حيث الحجم والإنجاز الشعري, لكنه لا يدانيه مكانة وتألقا في مجال الحكم والتأمل والتقييم. ولا ينفي هذا أن لأبي فراس روائعه وعيون شعره التي تضعه في مكانة متقدمة بين شعراء عصره وزمانه جميعا ـ باستثناء المتنبي ـ والتي لاتزال حتى اليوم حافلة بتوهج شبابه وتدفق عاطفته وجيشان مشاعره وسرعة استجابته لدواعي الشعر والبطولة, من خلال حرص على القيم الرفيعة, وتمسك شديد بالمثل العربية العليا في الكرم والشجاعة والنخوة والحمية والكبرياء التي تأبى مواقف الذلة والخضوع والهوان.

ولأبي فراس شهرة ذائعة في زماننا بفضل التغني بقصيدته الذائعة الصيت: أراك عصي الدمع, والتي أتيح لها أن تلحن وتغنى في عصرين مختلفين وأن يستمع إليها المتذوقون وعشاق الغناء بصوت عبده الحامولي ثم بصوت أم كلثوم. صحيح أن الغناء اقتصر على الأبيات الأولى من القصيدة ولم يجاوزها إلى الموضع الذي يصور فيه أبو فراس موقف الأسر وصعوبة الاختيار بين ما يواجهه مثله من عار الهرب من المعركة وحتمية الردى, وما سبق هذا الموقف من أبيات يتغنى فيها بشجاعته, وكرمه, وأصالة محتده, ونسبه, إلا أن هذا القدر المغنى جذب اهتمام جمهور واسع إلى شعر أبي فراس طلبا له وعكوفا عليه وتأملا له وهو يقول:

أُسرتُ وما صحبي بعزلٍ لدى الوغى

ولا فرسي مهر ولا ربه غمـرُ

ولكن إذا حم القضاء على امرىءٍ

فليس له بر يقيه ولا بحـرُ

وقال أصيحابي: الفرار أو الردى

فقلت: هما أمران أحلاهما مـرُ

ولكنني أمضي لما لا يعيبني

وحسبك من أمرين خيرهما الأسر

كما تغنى الناس عبر العصور المتتابعة بمقطوعة أخرى من شعر أبي فراس موفورة الجمال والعذوبة والرقة الآسرة, وهي من الشعر الذي قاله وهو أسير ـ سجين في بلاد الروم ـ مما يسمى بالروميات ـ وجامع الديوان ومصنفه يقدم لهذه المقطوعة بكلمات يقول فيها: سمع حمامة وهو في أسره تنوح على شجرة فقال يخاطبها:

أقول وقد ناحت بقربي حمامة:

أيا جارتا هل تشعرين بحالي؟

معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى

ولا خطرت منك الهموم ببال

أتحمل محزون الفؤاد قوادم

على غصن نائي المسافة عال؟

أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا

تعالي أقاسمك الهموم, تعالي

تعالي ترى روحا لدي ضعيفة

تردد في جسم يعذب بال

أيضحك مأسور وتبكي طليقة

ويسكت محزون ويندب سال؟

لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة

ولكن دمعي في الحوادث غال

هذا التناول الشعري الذي يجعل من الشاعر الأسير والحمامة النائحة حالا شعورية واحدة هو الذي يكشف لنا عن عمق اتصال أبي فراس بالوجود من حوله في شتى تجلياته وكائناته: الطبيعة والطيور والكواكب والنجوم والليل والنهار والحلم واليقظة. وهو اتصال وجودي يذكرنا برقة الشعر الرومانسي وإيقاعاته وظلاله وأصدائه وقدرته على استثارة الشجن وتفجير الأسى والتحليق في فضاء العاطفة الفوارة والحزن النبيل الشفيف.

وهو ما نجده في قصيدة خيال العامرية التي تعد أطول آثاره الشعرية على الإطلاق ـ أكثر من مائتي بيت ـ كما تعد أيضا نموذجا يحمل كل خصائص شعر أبي فراس وأنغامه الأساسية التي تتردد في كثير من قصائده.. وينتصب من خلال أبياتها شخص الفارس المقاتل متجسدا متهيئا للحرب والنزال مدرعا ثائرا, وحوار يجمع بينه وبين فتاة الحي التي اختارها قلبه وهام بها متيما مستطار العقل والرشاد. ولا ينسى أن يؤكد عفته وشرفه وحرصه على التصون والعفاف, وكأنه وهو يقول:

لعل خيال العامرية زائرُ,

فيسعد مهجور, ويسعد هاجرُ!

وقد كنت لا أرضى من الوصل بالرضا

ليالي ما بيني وبينك عامرُ

وإني على طول الشماس عن الصبا

أحن وتصبيني إليك الجآذرُ

وإني إذا لم أرج يقظان وصلها

ليقنعني منها الخيال المزاورُ

وفي كلتي ذاك الخباء خريدة

لها من طعان الدارعين ستائر

تقول إذا ما جئتها, متدرعا:

أزائر شوق أنت أم أنت ثائرُ؟

فقلت لها: كلا ولكن زيارة

تخاض الحتوف دونها والمحاذرُ

وكم ليلة ماشيت بدر تمامها

إلى الصبح لم يشعر بأمري شاعر!

ولا ريبة إلا الحديث, كأنه

جمان وهي, أو لؤلؤ متناثر!

أقول وقد ضج الحلي, وأشرفت

ولم أُرْوَ منها, للصباح بشائرُ:

أيا رب, حتى الحلي مما نخافه

وحتى بياض الصبح مما نحاذرُ

ولي فيك, من فرط الصبابة, آمر

ودونك, من حسن الصيانة, زاجرُ

عفافك غي, إنما عفة الفتى

إذا عفّ عن لذاته, وهو قادرُ

نفى الهم عني همة عدوية,

وقلب, على ما شئتُ منه, مظاهر

وأسمر, مما ينبت الخط, ذابل

وأبيض, مما تطبع الهند, باترُ

ونفس لها في كل أرض لبانة،

وفي كل حي أسرة, ومعاشرُ

وقلب يقر الحرب, وهو محارب

وعزم يقيم الجسم, وهو مسافرُ

إذا لم أجد في كل فج عشيرة,

فإن الكرام للكرامِ عشائرُ

تثنت فغصن ناعم أم شمائلٌ,

وولت فليل فاحم أم غدائرُ!

فأما وقد طال الصدود فإنه

يقر بعيني الخيال المزاورُ

تنام فتاة الحي عني, خلية,

وقد كثرت حولي البواكي السواهرُ

وتسعدني غبر البوادي, لأجلها

وإن رغمت بين البيوت الحواضرُ

وما هي إلا نظرة, ما احتسبتها

بعد أن صارت بي إليها المصاير

طلعت بها والركب, والحي كله

حيارى إلى وجه به الحسنُ حائرُ

وما سفرت عن ريق الحسن إنما

نممن على ما تحتهن المعاجرُ

فيا نفس ما لاقيت من لاعج الهوى!

ويا قلب ما جرت عليك النواظرُ

ويا عفتي, مالي؟ وما لك؟ كلما

هممت بأمر, هم لي منك زاجرُ

كأن الحجا والصون والعقل والتقى

لدي, لربات الخدور ضرائرُ

وهن, وإن جانبت ما يشتهينه,

حبائب عندي, منذ كن, أثائرُ

وكم ليلة خضت الأسنة نحوها

وما هدأت عين ولا نام سامرُ!

فلما خلونا, يعلم الله وحده,

لقد كرمت نجوى, وعفت سرائرُ

وبت يظن الناس في ظنونهم,

وثوبي, مما يرجم الناس, طاهر

 

فاروق شوشة