عقل جديد لعالم جديد رمضان بسطاويسي

عقل جديد لعالم جديد

المؤلف: روبرت أورنشتاين - بول ايرليش
ترجمة: الدكتور أحمد مستجير
كيف نغير طريقة تفكيرنا لنحمى مستقبلنا؟ كيف نعيد ترتيب أنفسنا حتى نتعامل التهديدات التي لم يسبق للبشرية أن واجهتها مثل تلوث البيئة، وتزايد المخزون النووي، وارتفاع عدد سكان الأرض؟ هذه عينة من الأسئلة المهمة التي يطرحها هذا الكتاب ولا يكتفي بذلك فقط ولكنه يقترح حلولا لتدعيم مناهج لتطوير عقل الإنسان حتى يصلح لعالم جدي ينتظرنا.

ظهرت في الآونة الأخيرة كثير من الدراسات التي تهتم بالربط بين العلوم الإنسانية وعلوم البيولوجيا، وهذا يعكس اهتماما متزايدا بعلوم تجمع بين تخصصات متعددة، تهدف في النهاية إلى معاونة الإنسان في التعامل مع متغيرات البيئة والمجتمع والكون على ضوء التطورات العلمية في مجال الاتصال والمعلومات والتكنولوجيا، فلقد تطور الإنسان حضاريا وبيولوجيا بشكل أسرع من أي كائن آخر على ظهر الأرض، لكن عقله يعمل بطريقة تناسب القرن الثامن عشر، ولا تلائم القرن العشرين، فبرغم كل المنجزات العلمية الهائلة التي أحرزها الإنسان، إلا أنه لم يطور وعيه لكي يتلاءم مع ما أنجزه، وهذا لا يهدد الإنسان فحسب، وإنما يهدد مستقبل الحضارة الإنسانية أيضاً لأن المنجزات يمكن أن تكون وسيلة للبناء، وتكون أيضاً في نفس الوقت وسيلة للتدمير. فمثلا إذا لم يفكر الإنسان في طريقة استخدامه للسيارات، يمكن أن تكون وسيلة لتدمير البيئة هذا ناتج من كون الجهاز الذهبي البشري قد أصبح عاجزاً عن تفهم العالم الجديد، ولم يعد توسيع جهازنا العصبي - مع تزايد تعقيد الحياة المعاصرة - متلائما مع واقع عالمنا اليوم.

ويندرج هذا الكتاب ضمن هذه الأعمال المهمة التي تحاول الاستفادة من تقدم المعارف الإنسانية وتقدم علوم الأعصاب، حتى أن هذا العام يطلق عليه "عام الدماغ" نتيجة للكشوف المتزايدة التي ساهمت في الكشف عن الطريقة التي يعمل من خلالها وعينا في التعامل مع الأشياء، ولهذا فإن مؤلفي الكتاب أحدهما ينتمي لحقل الدراسات الإنسانية وهو روبرت أورنشتاين، وهو يعمل في جامعة كاليفورنيا وله دراسات متعددة عن هذا المجال مثل: "سيكولوجيا الوعي" و"العقل المتعدد" و"المخ المدهش"، والآخر ينتمي للعلوم البيولوجية وهوبول ايرليش ويعمل في جامعة ستانفورد، ومن كتبة: "آلية الطبيعة"، و"نهاية الوفرة مخطط لمستقبلك"، ومترجم الكتاب، وهو الدكتور أحمد مستجير عميد كلية الزراعة جامعة القاهرة، هو عالم يجمع بين الدراستين العلمية والأدبية فعلى جانب اهتمامه بالهندسة الوراثية في الحيوان والدواجن، وكتبه عن الهندسة الوراثية، فقد قدم كتابين في الصياغة الرياضية لعروض الشعر العربي، وله مجموعتان شعريتان.

ويتكون الكتاب من ثلاثة أجزاء، أولها عن العالم الذي صنعنا، والعالم الذي صنعناه، وثانيها عن العقل المتوافق مع العالم، والعقل غير المتوافق، وثالثها عن حاجتنا إلى عقل جديد يختلف عن العقل القديم في القرن الثامن عشر الذي كان يقدم معالجات لم تعد صالحة في السياسة والبيئة والحرب في عالم اليوم.

المثير وليس المهم

في بداية الكتاب نجد تحليلاً للكيفية التي يدرك بها الإنسان الموضوعات في عالم اليوم، وكيف يقوم الجهاز العصبي بالتعامل مع ما يحيط به من مؤثرات، فاهتمام الناس غير موجه توجيها صحيحا نحو الموضوعات الأكثر أهمية بالنسبة لوجودهم مثل تدهور البيئة، وإنما موجه نحو الموضوعات المثيرة، المرتبطة باللحظة الراهنة التي يعيشونها ولا يفكرون في المستقبل بشكل حاسم، ولهذا فإن الحياة اليومية لكثير من البشر تمتلئ بالمتناقضات، فالسرطان يصيب الناس بالذعر لكنهم لا يزالون يدخنون، وهذا يرجع إلى أن حواسنا لا تدرك العالم كما هو، لأن جهازنا العصبي قد تطور بحيث ينتقي من الوقائع خلاصة صغيرة، ويهمل ما عداها، فبدلا من أن ينقل جهازنا العصبي كل شيء عن العالم، فإنه لا يتأثر إلا بالتغيرات المثيرة، ويقوم وعينا بتكوين بؤرة داخلية تركز لنا ما نتلقاه من العالم بحيث تجعلنا نحس ببدايات الوقائع ونهاياتها أكثر من إحساسنا بالتغيرات الوسيطة، فالإنسان في هذا العصر يدرك العناوين الكبيرة، وتغيب عنه التفاصيل الدقيقة عن موضوعات العالم، ولهذا فإن كثيرا من المآزق التي تواجه مجتمعنا ترجع إلى الطريقة التي يستجيب بها الناس للواقع. فالإنسان يقوم بعملية تحليل داخلي للموضوعات التي يتلقاها من الواقع، وبالتالي تبسيطها وإبراز النواحي المثيرة والجوهرية فيها على نحو ما يصنع رسام الكاريكاتير، حين يرسم وجها من وجوه الساسة فيبالغ في إبراز الملامح المثيرة والمميزة للشخصية ولقد تكيف الجهاز العصبي البشري مع أجهزة الإعلام والاتصال فأصبح يتلاءم مع التغيرات الصغيرة في اللحظة الآنية، وأصبح غير متلائم مع تحديات العالم اليوم الذي يتسم بتغيرات كبيرة وتدريجية. فيهتم البشر بمباريات الرياضة والأحداث اليومية دون أن يوجهوا طاقاتهم لحل مشكلات الانفجار السكاني والبيئة المتدهورة والمعضلات الاجتماعية، حتى يمكن لكل إنسان أن يحيا حياة ذات معنى، وأن يحفظ الأرض من التدمير النووي.

إن هذه المشكلات لن يحلها مشروع سياسي جديد، أو برنامج للحكومة، أو مقالات في نقد التربية والتعليم، إنها مشكلات تتعلق بكيفية إدراكنا لبيئتنا وأنفسنا، بحيث يتم تعديل السلوك الإنساني فيتراكم في اتجاه بناء الحياة وليس تدميرها، وهذا لا يتم إلا بوجود تحول جذري في طريقتنا لإدراك العالم، وأن ننظر لأنفسنا برؤية بعيدة، وأن نفهم تاريخ الإنسان التطوري، ذلك التاريخ الطويل، وأن نتثقف في فروع المعرفة الجديدة مثل نظرية الاحتمال، وبنية الفكر.

البيولوجيا تشكل العالم

في بداية الكتاب يقدم مؤلفا الكتاب محاولة لتفهم العوامل البيولوجية والحضارية التي تشكل نظرتنا للعالم من خلال العودة إلى تاريخ التطور البيولوجي للإدراك الحسي حتى وصل إلى ما هو عليه الآن، ودلك حتى يوسع الإنسان من إدراكه الحسي، و يضيف الانعكاسات البطيئة إلى سلوكه، فلقد كان مخ الإنسان واحدا من أسرع الأعضاء تمدداً في تاريخ الحياة البيولوجية، لقد منحه حجمه الكبير القدرة على تخزين ومعالجة قدر هائل من المعلومات، ولا شك أن هاتين العمليتين - الزيادة في حجم المخ والزيادة في قدر تعقيدات الحضارة - قد دخلتا عبر التاريخ البشري فيما يعرف باسم التغذية الاسترجاعية الموجبة، وفيها يشجع التغير في خصيصة تغيرات الأخرى. إن الذهن البشري يعمل كما يصنع رسام الكاريكاتير، يعمل على إبراز التغيرات قصيرة الأجل، ويتغاضى عن تفاصيل الواقع، مما خلق لدى الإنسان انتقائية، تجعله يركز فقط على أجزاء معينة من العالم ويهمل غيرها، وهذه الانتقائية هي إرث حتمي، ساعدت الإنسان في مراحله الأولى، لكنها الآن تؤدي إلى تدمير الحياة، فالإنسان ينتقي من الوقائع ما يتفق للحظة الراهنة، دون أن يفكر في التغير طويل الأمد الذي يحدث في الواقع... ولو عامل الإنسان كل المعلومات الحسية بنفس الطريقة التي يركز فيها على أشياء معينة، لأدى إلى تذكره لجميع التفاصيل لكل ما يراه ويسمعه ويشمه ويلمسه ويحسه.. والإنسان البدائي لم تكن لديه هذه الانتقائية، التي نجدها عند إنسان اليوم، ولهذا فإن الإدراك الجمالي للعالم لدى الإنسان في العصر الحجري يضارع ما لدى إنسان القرن العشري، لأن حواسه كانت متيقظة لا لنقاط التفاصيل دون اختصارها وفق منظومة نفسية وعقلية مسبقة، ويشهد على هذا ما نجده من صور ورسومات في الكهوف القديمة التي كشف عنها علماء الحفريات والآثار... وهذه الانتقائية الموجودة لدى الإنسان موجوده لدى أجهزة الإحساس لكل الحيوانات، لكن يختلف المنبه الذي يثير الانتباه بين الإنسان والحيوان، ويختلف نوع المنبه بين الحضارات الإنسانية المختلفة، وأجهزة الإحساس لها شفرة خاصة تترجم داخل نماذج التفكير لدى الإنسان، فتعطيه فهما للعالم، وتحفزه نحو سلوك معين. ولهذا فإن الفرق بيننا وبين أسلافنا القدماء لا يرجع إلى وجود خصائص فريدة في جهازنا العصبي، وإنما يرجع إلى تطور اللغة التي أعطت مجالا أ عرض لحل المشاكل التي تعترض حياة الإنسان.

ينتقل الكتاب بعد ذلك إلى فصل آخر من تطور الإنسان، حيث يتدخل في تشكيل البيئة، فيستخدم الخرسانة والصلب بدلا من التراب والشجر في بناء البيوت، وأصبح يكدس الألف البشر في بنايات خرسانية في بقعة صغيرة من الأرض، وأصبح يصنع أجواء للتنفس في الأماكن المغلقة، وفي الفضاء، وخلق بيئة أخرى تفصله عن بيئة الطبيعة، وقد أدى التمادي في هذا إلى فصل الإنسان - برغم كونه كائنا طبيعيا - عن بيئة الأصلية، واستنفاد مكوناتها الدفينة في فترة زمنية قصيرة، مثل الغابات والمياه الجوفية، ومصادر الطاقة، لأن صيغة الحياة النابعة من طريقة تفكيره تستهلك أرقاما خرافية من هذه المواد، وجعل الحياة تبدو صعبة في استيعاب مفرداتها، لأن الحمل الزائد من المعلومات بالمجتمع الحديث يعني أنه من المستحيل حتى على أذكى البشر وأغناهم ثقافة أن يخزن أكثر من جزء ضئيل من حضارة مجتمعنا الإنساني، وخلق هذا نوعا من العجز في التآلف مع الحضارة المعاصرة. فهذا التطور الحضاري غير المقصود، قد جعل الناس لا يولون التغييرات التدريجية التي تحدث على المستوى البيولوجي والحضاري أية أهمية، فلم يتم ابتكار جهاز للشعور "بمرور الزمن" يجعلهم يدركون أن التطور الحضاري يمكن أن يكون وسيلة للتقدم والبقاء، ويمكن أن يؤدي أيضا إلى تدمير الحياة بشكل بطيء.

عقلنا غير متوافق مع العالم

ونتيجة لهذا التطور فإن قدرة الإنسان على الحذف والتضمين قد تزايدت بشكل كبير لحماية الإنسان من التشتت والبعثرة، ولهذا فإن الحواس تختار المهم وتترك بقية العالم، ويفصل الكتاب في شرح الجوانب البيولوجية لعملية الإدراك. من خلال الحواس، وخلايا الأعصاب والأوعية الدموية، ويقوم الجهـاز العصبي بتنظيم المعلومات، بحيث يكفي عدد قليل من الاستجابات لتنويعة عريضة من الأفعال اليومية. والإنسان يحاول التأقلم من العالم، ويتكيف معه من خلال هذا الاختزال الحسي، لعالم المرئيات والسمعيات؟ ويعتمد الإنسان في اتخاذ قراراته على هذا الإدراك الحسي، لكن حواسه عاجزة عن تقدير ارتفاع ثاني أكسيد الكربون في المناخ، ولا يقيس قدر الأوزون في الجو، أو يكشف عن الأشعة فوق البنفسجية، ولهذا فإن الإنسان لا يولى هذه الموضوعات أهمية"، لأنه ببساطة لا يدركها بشكل مباشر، وإنما يراها من خلال وسائط آلية، وهذه الرؤية مقصورة على المختصين فقط، ولهذا فإن الإنسان لا بد أن يراعي هذه التفاصيل الصغيرة، ويغير من طريقة تفكيره حتى يستمر في البقاء، ويجب عليه أن يحارب التعود في أعصابه الحسية، لأن هذا التعود هو الذي يشكل الأساس لقدرة العقل على تجاهل الظواهر المستمرة. ولهذا لا بد ألا يعتمد الإنسان على مخزونه الذهني، ويعتمد كل اكتشاف الوقائع الجديدة، أو يرى الأشياء التي من فرط عاديتها أصبح لا براها، لأن المخزون الذهني، يجعل الإنسان يفكر من خلال الذاكرة، ولا يرى ما هو أمامه، وهذا يضر في اتخاذ القرارات في حياتنا اليومية، لأن الإنسان لا يكون موضوعيا لأنه يختار من ذاكرته ما يتناسب مع موقفة المتحيز. واعتماد الإنسان على الحاسوب فقط، وعلى أجهزة الإعلام كالتليفزيون الذي يختصر له العالم، قد تجعله يصاب بالعمى الحسي الذي لا يجعله يدرك ما حوله من تغيرات طفيفة يتعاظم أثرها بعد فترة طويلة من الزمن. وهذا العمى مسئول عن تزايد الأمراض الجسدية والنفسية والروحية التي تصيب البشر، لأن الأسباب تتراكم بشكل بطيء، لكن يلحظ الإنسان النتائج دون أن يلتفت إلى التغيرات البطيئة التي تحدث من حوله. وقد نتج عن الانفجار السكاني، واقتراب البشر في حياتهم اليومية من القردة، انتقال ثلاثة أمراض خطيرة هي الإيدز، وحمى اللاسا، ومرض ماربورج وقد نجت البشرية من المرضين الأخيرين، وبقي الأول. والإنسان ي واجه عدم توافقه مع العالم بالإشباع الاجتماعي والحسي، بدلا من تنمية الجهاز الذهني، مما أدى إلى تفاقم الأمراض النفسية والعصبية، ففيما يحتاج الأمر إلى تدريب مسئول في مجال العقيدة، ليملأ الجوانب العميقة لدى الإنسان، يوغل الإنسان في خلق مؤسسات إعلامية وعلاجية لتعميق عدم التوافق.

أسئلة عن مشاكل البشر

لا يزعم هذا الكتاب أنه يقدم حلولا لأخطر مشاكل البشرية حاليا، ولكنه يطرح أسئلة عن الوعي بالمصير وسط عالم اليوم، وأعمق ما في الكتاب أنه مكتوب بالطريقة التي يرغب بها مؤلفا الكتاب أنه مكتوب تقوم على بعثرة تفاصيل كثيرة لا تلتئم حول رؤية كلية محددة، والكتاب يتبع في هذا طريقة الكوفلاج، بمعنى رصد تفاصيل بجانب بعضها البعض الآخر، وترك الذهن يحاول إعادة صياغة هذه التفاصيل في اتجاه يؤدي إلى تنمية الاهتمام بموضوع الكتاب.

ويشير الكتاب إلى أنه إذا كانت معظم المشاكل التي تعترض عالم اليوم هي من صنع البشرية، فإن تغيير برمجة المخزون الحسي لدى الإنسان لن يؤدي إلى خلق عالم جديد يتوافق مع حاجات العالم الجديد، وإنما ما يطالب به الكتاب هو تغيير المواقف بالنسبة لقضايا مثل: التحيز العرقي والجنسي، والقوي النووية والحفاظ على البيئة مما قد يؤدي إلى إحداث تغير اجتماعي وفكري بسرعة كبيرة. وليس هناك طريق سهل للخروج من الورطة البشرية، لأن الإنسان يسعى عبر وسائل متعددة للتأقلم مع التهديدات المستمرة، ولهذا فإن أقصى ما يمكن عمله هو أن نوجه انتباه الناس إلى كاريكاتير الواقع وإلى العالم الجديد، ونحاول تطوير برامج التعليم لكي يمكن للأجيال المقبلة أن تعي ما نحن فيه، وذلك بإضافة منهج دراسي حول تاريخ البشرية من الناحية البيولوجية وعلاقته بالبيئة.

 

رمضان بسطاويسي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب