واحة العربي محمد مستجاب

واحة العربي

الهدهد
رسالة المحبة والألفة والإحساس بالوحدة

في العشرين عاما الأولى من حياتي نجحت في صيد أبى قردان، وأبى فصادة، وفشلت فشلا ذريعا في صيد هدهد، مع أن الطيور الثلاثة يجمعها قانون مصري واحد شهير يمنع صيدها (بصفتها الملقبة بأصدقاء الفلاح لقيامها بتطهير المزروعات من الديدان)، وكنت أتلصص وراء الهدهد ممعنا فيه وهو يلتقط فتات الأرض: حجم صغير - لكنه ليس ضئيلا، جناحان جميلان واسعان مزركشان بدرجات من اللون البني الرصين الواثق مع خطوط ونقاط بيضاء على الأطراف، منقار طويل أنيق يلازمه تقوس ممزوج بكبرياء، ذيل رشيق يختصر لون الأجنحة بنوع من التداخل اللطيف، ثم : تاج صغير أنيق نادراً ما تجد مثله على هامات المخلوقات، ومع صغره - هذا لتاج - فإنه واسع واضح بريشاته المتناغمة مع لون الجناحين والذيل، متحرك يمكن نشره حتى يصبح شراعاً لزورق يتمايل، ويمكن طيه ليصبح ريشة واحدة على رأس هندي أحمر.

ولعل حكاية هذا الهدهد الجميل مع النبي سليمان - وسيطا في موضوع الجميلة بلقيس ملكة سباً، هي الأساس في كل المعاني التي يطرحها هذا الطائر في الذاكرة الشعبية، إذ أنه يرد في التراث باسم (الشبب)، وبالتأكيد- دون رجوع للقواميس- فإن الشيب جاء من التشبيب المعروف: التغزل بالأنثى مع وصف حسنها، ويكنى الهدهد- لذلك- بأبي الأخبار، وأبى الربيع، وفي جسده النحيل تكمن قدرات علاجية، سنرصد بعضها دون الاهتمام بمدى صحتها، فإن هري جسد الهدهد بالشبت (نبات معروف) وصنع منه الشراب: أزال المغص وآلام القولون، ومرارته ودمه مزيج لطلاء البهاق (ما ورد في تذكرة داود الأنطاكي) وأيضا: فإن أضيف إليه العسل كان له تأثير على السفعة (دودة البطن وأعتقد أنها الشريطية)، أما الريش واللسان (!!!) إذا حملا مع شخص أورثاه الجاه والقبول (!!)، في حين أن لحيته السفلى - المقابلة للتاج - مع عظم جناحه الأيسر المثلث تعقد الألسن، وتورث المحبة، ويمكن أن تستعيط دماغه (أي تجعله كالسعوط يستنشق) وأكل لحمه يخفف عن المبتلي مصابه، وتعليقه مذبوحا على الباب يدرأ السحر والنظر وأم الصبيان (ولا أعرف ما هي أم الصبيان - لعلها المرأة ذات العدد الوافر من الصبيان - ترجمة هابطة للمعنى)، كما أن حمل عيون الهدهد يقوي الحفظ ويذهب النسيان ويطرد الجذام، وجناحه يبرئ القروح ويدفع الحسد ويوقف ما حصل، وابتلاع قلبه ساعة ذبحه يقوي الحافظة جدا، وإذا لفت أظفاره وريشه في حرير أصفر ودفن تحت فراش المتباغضين حصل الائتلاف، وشرط ما ذكر أن يحدث والقمر في برج السنبلة (العذراء)، فإذا أراد صاحب الحاجة في العلاج أن يكون تأثيره أقوى: فعلية أن ينتظر إلى كوكب الزهرة من تثليث، فهو أشد وأقطع، إنها خلاصة ما ورد في تذكرة أولى الألباب لداود الأنطاكي، ولا يكفي أن أرش على باقي المساحة علامات التعجب والاندهاش والاستفسار لكي نستوعب، معنى ذلك أن هدهدا واحدا يمكنه أن يحل محل مجمع طبي، مضافا إليه ما لا يصلح المجمع الطبي لعلاجه مثل النوايا الحمراء التي - عادة - ما تشب في الغرام وتمزجه بالرغبات الكاسحة.

ونادراً ما ترى الهدهد في أسراب كمعظم الطيور، وحيدا - تراه أو مرافقا لهدهده، كأنه مثقف أدمن التعالي بعد نشر قصيدته الوحيدة في مكان براق، ثم تراه ينظر حوله بحذر كالغراب، غير أن الهدهد يتمتع بدم خفيف يصل إلى حد إثارة الابتسام في الوجوه الجامدة، ويمكنه - إذا أحس بالأمان أكثر - أن يقوم بحركات لطيفة ذات مرونة ومرح، الهدهد بالذات يبني عشه في الأغصان القوية للأشجار - دون أطرافها، ويكثر - كالغربان - بالقرب من معامل تفريخ الدواجن، وعلى أشجار الحقول، أي في الأماكن التي قد تتوافر فيها الديدان، وفي حالات أخرى قد يبني عشه في ثقوب الصخور القريبة من الوديان.

وقد بدأ صنف الهدهد في التناقص نتيجة لانتشار المبيدات الحشرية في الحقول، وانتفاء الهدهد من المنظر الطبيعي للريف سوف يحيق بالمنظر قصورا وعيوبا تضاف إلى ما اجتاح الريف العصري من قصور وعيوب أخرى سوف تجعل الهدهد نوعاً منقرضا نصفه لأولادنا من الذاكرة - إن بقيت لنا ذاكرة.

 

محمد مستجاب

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات