بحثاً عن مجلس لإدارة شئون العالم

بحثاً عن مجلس لإدارة شئون العالم

لاشك في أن الثورة التكنولوجية التي يشهدها العالم الآن، سوف تكون لها آثار بعيدة المدى في مختلف المجتمعات الإنسانية المعاصرة، وإذا كان يجوز لنا أن نستعير من كارل ماركس، وماديته التاريخية، التشبيه الذي عقده بين أدوات الإنتاج وأسلحة الجيوش، وأن المجتمع يعاد تنظيمه طبقا لتطور أدوات الإنتاج فيه، كما يعاد تنظيم الجيش كلما اكتشف سلاح جديد يدخل ضمن عدته العسكرية، فعلينا أن نحاذر في الوقت ذاته، الوقوع في الخطأ الذي وقع فيه ماركس، حينما تصور أن في مقدوره، بتحليل النتائج الاجتماعية للانقلاب الصناعي وفي مقدمتها قيام النظام الرأسمالي، ومن خلال دراسته الوثيقة لرأس المال، أن يصل إلى تصور شامل لما سوف ينتهي إليه هذا النظام، وهو سقوطه بفعل التناقضات الداخلية فيه، وقيام النظام الاشتراكي بدلا منه، وانتهى الأمر ـ كما هو معلوم ـ إلى توطد أركان الرأسمالية من خلال استيعابها لتطور أدوات الإنتاج تحت أيديها، حتى إذا مابدأت مرحلة الثورة التكنولوجية المعاصرة، كان السقوط من نصيب المجتمعات التي حاولت إعادة ترتيب اقتصادها طبقا لتكهنات كارل ماركس، وزعمه حتمية حلول الاشتراكية محل الرأسمالية كما حدث بالنسبة للاتحاد السوفييتي السابق، والبلدان التي أخذت بنظام شبيه به في شرق أوربا، وفي آسيا، وخاصة الصين، التي لايزال يحكمها حزب شيوعي، ومع ذلك فهي تعيد ترتيب اقتصادها طبقا لقوانين السوق حتى تستفيد من إنجازات الثورة التكنولوجية التي تحققت في الغرب الرأسمالي، وقطعت في هذا الصدد شوطا طويلا، وأمكنها تحقيق تقدم اقتصادي ملحوظ، قبل أن يتخذ التحول إلى اقتصاد السوق من جارتها روسيا شكل الانهيار الكامل الذي تحاول الخروج منه ولاتكاد تتبين طريقها إلى ذلك!كل مافي مقدورنا إذن، هو أن نحاول رصد بعض الظواهر الاجتماعية التي صاحبت الثورة التكنولوجية، أو يمكن أن تصاحبها في المستقبل القريب، دون محاولة للقفز فوق النتائج، وادعاء أن تاريخ المجتمع الإنساني، قد أصبح كتابا مفتوحا، يمكن أن يقرأ المستقبل فيه كما يقرأ ماضيه!

ولاشك في أن الترابط العالمي هو أوضح ظواهر الثورة التكنولوجية، وذلك بسبب الجانب الإعلامي من تلك الثورة، وهو مايطلق عليه اسم ثورة الاتصالات والمعلومات، في عصر التوسع في استخدام أجهزة الكمبيوتر والأقمار الصناعية والبث التلفزيوني المتطور وأجهزة استقباله.. وخاصة بعد سقوط ماكان يسمى بالستار الحديدي مابين المعسكرين، باختفاء أحدهما، وهو النظام الشيوعي ومعسكره، ومحاولة بلدانه اللحاق بركب الآخر، واختفاء الحرب الباردة التي دامت طويلا بينهما، وتزايد الاحتمال والأمل في ألايشهد العالم مرة أخرى حروبا عالمية مدمرة من نوع الحربين اللتين شهدهما القرن العشرون، الموشك على الانتهاء، في أوله وأوسطه، خاصة أن أي حرب عالمية أخرى من الممكن أن تكون حربا نووية قد تهلك فيها البشرية بأسرها أو القسط الأكبر منها. ومن نتائج انتهاء الحرب الباردة نقص الحاجة إلى إنتاج السلاح وتطويره، وإن كانت مصالح صناع السلاح، في كلا المعسكرين السابقين، تضيق بهذا الوضع، وتحاول الاحتفاظ بأسواقها الحالية والمحتملة ولو بإثارة الحروب الصغيرة هنا أو هناك، أو حتى السير بمسارب السياسة الدولية للقوى الكبرى في طريق الاختلاف، مما يسوغ الاستمرار في إنتاج السلاح والسعي إلى تطويره، دون أن يبلغ مبلغ العداء المتحكم في الماضي أو ينقلب التنافس على أسواق السلاح إلى صورة سباق التسلح الماضية التي كانت من مظاهر الحرب الباردة بين المعسكرين.

ويتمثل خطر السلام الدائم على مصالح القوى الكبرى المنتجة للسلاح في احتمال تزايد البطالة بين صفوف عمالها الذين يعملون في تلك الصناعة والصناعات المغذية لها، في الوقت الذي تعتبر فيه البطالة هي أخطر المشاكل المترتبة على الثورة التكنولوجية!

مشكلة البطالة

لقد كانت البطالة هي أسوأ الآثار الاجتماعية التي ترتبت على الانقلاب الصناعي وظهور النظام الرأسمالي المعاصر، حيث شرعت الآلات الحديثة تحل محل العمل اليدوي في جميع الميادين، فقضت على كثير من أرباب الحرف، وحولتهم إلى جنود بؤساء، أو بروليتاريا، في جيش الصناعة الاحتياطي، كما أسماه كارل ماركس، واعتبرت آفة الرأسمالية الكبرى التي سوف تقضي عليها في المستقبل، حيث يتزايد الاستقطاب داخل المجتمع الصناعي، بين قلة تملك أدوات الإنتاج، وكثرة لاتملك إلا قوة عملها تبيعها للرأسمالي، الذي لايتردد في الاستغناء عن بعض عماله إذا ماظهرت آلة جديدة تحل محلهم، ولا يتردد أيضا في طرد بعضهم، إذا وجد من بين المتعطلين من هو على استعداد لقبول أجر أقل مما كان يحصل عليه زميله، وأن النتيجة النهائية لهذا الوضع هي أن تثور البروليتاريا وتستولي على المصانع وتدير عملية الإنتاج لصالحها محققة بذلك أحلام الاشتراكية! لولا أن الرأسمالية قد أتيح لها في الفترة مابين الحربين العالميتين، استيعاب هذا الدرس، وتلافي هذا الخطر عن طريق الإصلاحات الاقتصادية التي دعا إليها مفكرون اقتصاديون من أمثال جون ماينارد كينز البريطاني، الذي دعا إلى زيادة الطلب الفعال على المنتجات عن طريق رفع أجور العمال بحيث تستمر عملية الإنتاج في الدوران بفضل زيادة مايستهلكه هؤلاء العمال مما ينتجون، فلا تحدث الأزمات الدورية التي كان يتم فيها التوقف عن الإنتاج وإفلاس المصانع من جانب، وتتزايد فيها أعداد المتعطلين وتتناقص قدرتهم على استهلاك المنتجات المكدسة في مخازنها من جانب آخر! وبالفعل نجح كينز في إنقاذ الرأسمالية على حد قوله بتلك السياسة الرشيدة، وشهد غرب أوربا والولايات المتحدة في الحقبة التي تلت أزمة الثلاثينيات الخانقة ولادة مايعرف باسم دولة الرفاهية التي يرتفع في ظلها مستوى معيشة العمال مع ازدهار نشاطها الصناعي والتجاري، بما في ذلك حصولهم على تأمينات مجزية ضد البطالة والمرض والشيخوخة، وكانت السويد هي النموذج الذي يحتذى في تطيبق تلك السياسة.

والآن، مع التقدم الهائل في نوعية أدوات الإنتاج وصناعتها، في عصر الثورة التكنولوجية، فإن الآلة الإلكترونية لم تعد تحل محل العمل اليدوي فحسب، سواء كان بسيطا أو مركبا، بل تحل محل العمل الذهني أيضا في كثير من مجالاته، وأصبحت ظاهرة البطالة تشمل المتعلمين من مختلف درجاتهم أو تخصصاتهم، ومع انهيار المعسكر الاشتراكي وإفلاسه، وذهاب الخوف من منافسته، سقط شعار دولة الرفاهية، واتجهت كثير من دول الغرب الرأسمالية إلى محاولة نبذه وإلغاء كثير من الامتيازات التي حصل عليها عمالها في ظله، كما حدث أخيراً في فرنسا، من محاولة لتقليص حجم الإنفاق العام على التأمينات الاجتماعية، مما ترتب عليه لجوء العمال إلى الإضراب والتظاهر، في الوقت الذي ارتفعت فيه من جديد أسهم الاشتراكيين والشيوعيين السابقين في معظم بلدان المعسكر الاشتراكي السابق، ونجح كثير منهم في العودة إلى السلطة، وذلك بسبب تفاقم المشاكل الاقتصادية التي ترتبت على التحول إلى اقتصاد السوق وفي مقدمتها البطالة والتضخم، وإن كان أحد هؤلاء "العائدين" لم يجرؤ على الوعد بالعودة عن اقتصاد السوق إلى الاقتصاد المركزي الخاضع للدولة، بل تدور أكثر وعودهم على مراعاة الجانب الاجتماعي في عملية التحول الاقتصادية، ويعتبر كبيرهم "جينادي زيوجانوف" زعيم الشيوعيين الروس الجدد، دولة السويد هي النموذج الذي يريد احتذاءه!

ومما يزيد مشكلة البطالة تعقيدا في الدول الصناعية المتقدمة، أن الشركات متعددة الجنسية، عابرة القارات، التي تعتبر الآن بمنزلة شركات عالمية للرأسمالية الدولية، كثيرا ما تلجأ إلى نقل خطوط إنتاجها على نطاق واسع إلى البلدان النامية حيث يتاح لها تشغيل تلك الخطوط بأجور زهيدة تتناسب مع مستوى المعيشة المنخفض في تلك البلدان، وتقل كثيرا عما يحصل عليه عمالها في المركز، أو في الدولة الصناعية المتقدمة التي ولدت فيها تلك الصناعة، مايزيد من تفاقم مشكلة البطالة في الدول المتقدمة، ومنها تتولد الحركات العنصرية المعادية للأجانب وخاصة الوافدين منهم من البلدان النامية التي شرع أبناؤها ينتزعون من أفواههم لقمة العيش، سواء وفدوا على بلادهم وقبلوا أجورا أرخص، أو انتقلت بعض خطوط الإنتاج إلى بلدانهم الأصلية!

آفاق النمو وحدوده!

إن العملية المذكورة آنفا، أي نقل خطوط الإنتاج الصناعي إلى البلدان النامية هي جزء من ظاهرة الترابط العالمي الذي تزيده الثورة التكنولوجية وثوقا، والرأسمالية العالمية لن تسعى إلى البلدان النامية بخطوط إنتاجها فحسب، بل سوف تعمل على ذيوع ثقافتها وأساليب معيشتها بكل الصور في تلك البلدان، بحيث تصبح ـ إلى جانب كونها سوقا للعمالة الرخيصة ـ سوقا أخرى لاستهلاك مختلف منتجاتها، التي يتدفق الجديد منها كالسيل في كل يوم جديد من أيام الثورة التكنولوجية!ولكن السؤال يثور: هل ستفضي عملية الغزو الجديدة واسعة النطاق للبلدان النامية ثقافيا وصناعيا واقتصاديا إلى حدوث توازن عالمي جديد يتيح للعالم التخلص من كثير من أشباح الحروب والبطالة والمجاعات? قد يحدث هذا إذا ما أفضى هذا الترابط إلى إنعاش حقيقي لاقتصادات البلدان النامية، بحيث لاتصبح قادرة فحسب على استيعاب الواردات المتطورة القادمة من البلدان الصناعية، بحيث تستمر عجلة الإنتاج في الدوران في تلك البلدان، ويقل معدل البطالة بين صفوف عمالها، بل لابد من حدوث تنمية حقيقية في موارد البلدان النامية بحيث تكون لها مساهماتها الواضحة في الإنتاج العالمي حتى تستطيع الاستمرار في عملية التبادل التجاري على نحو متكافىء، ويساعد على تقليص مديونياتها الخارجية بدلا من زيادتها عن طريق الاستيراد فحسب، دون تصدير يذكر:ولكن الزيادة المطردة في الإنتاج بالأساليب التكنولوجية المتطورة، لايمكن أن تكون مفتوحة بغير حدود، فهناك حدود للموارد سوف تفرض نفسها، بما في ذلك المواد الغذائىة ومواد البناء والطاقة.. إلخ، كما أن الحدود التي ينبغي أن تراعى في الحفاظ على البيئة من التلوث، سوف تفرض نفسها أيضا وإلا تعرضت الحياة على الأرض كلها للانهيار.

إن العالم الذي يزداد ترابطا في ظل الثورة التكنولوجية التي تقود مسيرته الآن، سوف يكون بحاجة إلى تطوير أجهزته الدولية، وفي مقدمتها هيئة الأمم المتحدة، إلى شيء أشبه مايكون بحكومة عالمية، أو بالأقل مجلس إدارة لشئون العالم، لمواجهة مشاكله المتعددة المترابطة.

 

عبدالرحمن شاكر