ضالة المؤمن

ضالة المؤمن

حديث الشهر
لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم ؟

سؤال مازال يحمل حيرتنا وعجزنا، طرحه الجيل الذي سبقنا ونعيد نحن طرحه من جديد فهل نجد له إجابة شافية؟

أحرص على أن يكون حديث الشهر في شهر الصيف هذا بعيدا عن القنوط، يكفي ما نلاقيه من قيظ في كل أرجاء بيئتنا العربية حتى يشتاق الإنسان إلى نسمة باردة ترطب له الأجواء والنفوس، وفي الفكر نحن أحوج ما نكون إلى درجة من التفاؤل والإحساس بقرب الفرج.

لذلك فإن الموضوع الذي أنا بصدده، وإن بدا في عنوانه مغلفا بالقنوط، فإنني أرجو أن يقود في نهايته إلى الانفراج والتفاؤل، فهو محاولة بسيطة ولكنها جادة للإجابة عن سؤال لم أطرحه وحدي، وإنما تم طرحه قبلي منذ ستين عاما مضت، ولم يمض أوان السؤال فهو مازال يطرح في بيئتنا الثقافية العربية وربما سوف يطرح من بعدنا، لأنه يحمل حيرتنا وعجزنا عن إيجاد إجابة مناسبة. وهو: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم?!

السؤال طرحه ـ والله أعلم ـ منذ حوالي ستين عاما الأمير شكيب أرسلان ـ المفكر العربي اللبناني المسلم، ثم أعيد طرحه من جديد بأشكال وصيغ مختلفة إلى أن وقع في يدي أخيراً كتاب يدور حول بعض نشاطات الإمام موسى الصدر الذي ملأ الدنيا والأسماع في السبعينيات من هذا القرن في لبنان قبل أن يختفي في ظروف غامضة حتى الآن، وإذا بجزء منه عبارة عن محاضرة للإمام ألقاها في بيروت وتحمل تقريبا نفس العنوان "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم?" وردد فيها نفس الأسباب تقريبا التي أوردها أرسلان مع فارق المسميات والزمن.

وبرغم فارق السنوات الطوال بين ثلاثينيات هذا القرن وسبعينياته وبرغم ما مر بنا من تغير وتبدل، حروب ومنازعات، سقوط وظهور دول، واجتهادات فكرية، فلايزال السؤال قائما، ومعلقا يبحث عن جواب، والجيل الجديد الذي يقرأ هذه الكلمات مازال يريد جواباً شافيا عن هذا السؤال المعلق.

وقد تم طرح السؤال للمرة الأولى في ظل هجمة إفرنجية كما عبر عنها الأمير شكيب أرسلان ـ قادت إلى تأكيد قبضة الاستعمار الغربي أو بداية هجمته على معظم الدول العربية، ويطرح السؤال مجدداً بعد أن انزاح الشكل السابق من الاستعمار الغربي وظهر عصر جديد يسميه بعضنا العولمة، أي الاندماج رغبة أو غصبا في شبكة عالم تربطه "كابلات" قوية من وسائل الاتصال ويفرض فيه الغرب قيما جديدة للإنسان في الاقتصاد والسلوك تعيد الحصار من جديد وبأشكال جديدة. بكلماتنا اليوم فإن المطروح هو المواجهة التي مازلنا نخوضها والتي تتعلق أساسا بمعضلة التحديث، فينا من يُعرف التحديث بأشكال مختلفة وفينا من يقبل هذا التحديث أو يرفضه، ومازال فينا من يحاول أن يعكس الخطى إلى الخلف سيراً في مفهوم مضاد بالرمز والمعنى لكل خطوات التحديث معتمداً في ذلك على من يتخذ من مسببات هيكلية في ثقافتنا العربية الإسلامية مشجبا، وفينا من يعلق الأسباب على الآخر والغرب بالذات، وفينا من يعلق الأسباب ليس على موروثنا الثقافي ولكن على وعينا بهذا الموروث وعلاقته بالعصر. فأي المشاجب تُرى هو الأوفق في تبرير تخلفنا عن العالم؟

شكيب أرسلان أمير البيان

سماه محبوه أمير البيان، لبناني من منطقة الشوف، وُلِدَ وقد مر على القرن الماضي حوالي سبعين عاما، وتوفي وينقص عمره سنتين عن نصف القرن الحالي ـ اي أنه عاش سني نضجه في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر والعقود الأربعة الأولى من القرن العشرين "توفي 1946" سياسي ومجاهد وكاتب، درس في بيروت وانتقل إلى مصر ولازم فيها الشيخ محمد عبده، ثم ذهب إلى الآستانة ووافى فيها جمال الدين الأفغاني، حارب الإيطاليين في طرابلس الغرب، وشارك في العديد من النشاطات السياسية، أكثرها التصاقا بعمله هو المطالبة باستقلال سوريا وفلسطين ـ وطنه الشرق أوسطي، كان من أوائل دعاة الحلف العربي، وقد أذاع في 1923 بيانا للأمة العربية بهذا الموضوع وزع بآلاف النسخ اقترح فيه مشروعاً قومياً شبيها إلى حد كبير بميثاق الجامعة العربية التي تبلورت على أرض الواقع عام 1945، أصدر لحوالي عقد من السنين مجلة في سويسرا بالفرنسية سماها "الأمة العربية"، عددها الاول صدر 1930 ثم أقفلتها السلطات السويسرية عند قيام الحرب العالمية الثانية بحجة الحياد السويسري!. رافق الشيخ محمد رشيد رضا اللبناني الطرابلسي الذي اصدر مجلة "المنار" من القاهرة في بداية القرن حتى وافاه الأجل في مصر قبل ثلاث سنوات من نشوب الحرب العالمية الثانية، و"المنار" هي المجلة التي حملت لواء التحديث الإسلامي، وكتب فيها شكيب أرسلان مقالا كان هو النص الأول للكتاب الذي صدر بعد ذلك 1930 بعنوان "السؤال الحائر: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم?" ومنع وقتها من دخول العديد من البلدان العربية وكانت مقاومة دخوله شرسة من قبل قوى الاحتلال على تلك البلدان. والحق أن الكتاب جاء بالفعل وليداً للمرارة التي شعر بها أمير البيان العربي حين عاد من رحلة إلى إسبانيا والمغرب العربي فشاهد الآثار الغابرة لنهضة العرب في الأندلس وعايش في المقابل أيضا محاولة فرنسا تنصير شعب البربر في المغرب تمهيداً لتنصير عرب إفريقيا الذين رزئوا بالاستعمار الفرنسي وكأنهم يعيدون ما فعلته إسبانيا بإسلامهم في الماضي.

للكتاب قصة تروى

كتب محمد بسيوني عمران من جاوة في إندونيسيا ـ في أواخر عام 1929 رسالة إلى صاحب المنار في القاهرة ـ ويبدو أنه كان عربيا مقيما في هذا البلد الآسيوي. وقد أوفى هذا الشيخ للأمير شكيب حقه من الثناء والتقدير على خدمته للإسلام والمسلمين واقترح عليه رشيد أن يكتب مقالا للمنار يشير فيه إلى أسباب تخلف المسلمين في هذا العصر، وأسباب قوة الإفرنج واليابان وعزتهم بالملك والسيادة والقوة والثروة. ويبدو أن محمد بسيوني عمران قد كتب أكثر من رسالة بهذا الصدد ألمح إليها رشيد رضا في مقدمة الكتاب الذي صدر بعد ذلك دون تصريح، والسؤال الذي طرحه عمران أو الشيخ عمران يدور حول الآتي:

1ـ ما أسباب، ما صار إليه المسلمون "وخص بالذكر مسلمي جاوة وملايو "الملايو" من الضعف والانحطاط في الأمور الدنيوية والدينية معا، وصرنا أذلاء لا حول لنا ولا قوة وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: [ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين]. فأين عزة المؤمنين الآن؟

أما السؤال الثاني فهو:
2ـ ما الأسباب التي ارتقى بها الأوربيون والأمريكانيون "كذا" واليابانيون ارتقاءً هائلاً؟
وهل يمكن أن يصير المسلمون أمثالهم في هذا الارتقاء، اذا اتبعوهم في أسبابه مع المحافظة على دينهم "الإسلام" أم لا؟.

هل هذه الرسالة أو الرسائل ـ ومرسلها من أهل جاوة، كما هو ثابت في الكتاب، وكما يظهر من اسمه فهو عربي مسلم وربما من مصر ذهب إلى هناك للدعوة ـ هل كان هدفها أن يطلب مرسلها من الأمير أن تدعم هذه الرسالة منطقه في الدعوة، أو أنها كانت أسئلة حائرة تواجهه دون إجابة. المهم استجاب أرسلان لدعوته ووضع رسالته التي نحن بصدد الحديث عنها، والتي ظهرت في كتاب كما قلت بعد ذلك بنفس العنوان.. بغض النظر عن كل ذلك، فإن جوهر السؤال هو الذي كان يبحث السائل عن جواب له والذي كان ولا يزال معلقا، خاصة أن الشيخ محمد عبده قبل ذلك بسنوات سطر كتاباً قدمه له محمد رشيد رضا أيضا وكان بعنوان "الإسلام والنصرانية" يبحث في مجمله عن أسباب التخلف والتقدم، وذكر فيه المقارنة المشهورة التي أعيد ترديدها كثيرا "لقد وجدت في أوربا إسلاما ولم أجد مسلمين ويوجد في الشرق مسلمون ولا يوجد إسلام". هذه المعضلة الفكرية التي وجد المتقدمون أنفسهم في بؤرتها لا أظن أن الزمن قد تجاوزها بمعناها الهيكلي، ولا أظن أن السؤال قد ذهب بعيدا في التاريخ وتم تجاوزه لأننا وجدنا له جوابا شافيا، فلايزال يردده الجيل المسلم والجيل العربي المسلم سواء بسواء، جيلاً بعد جيل وحقبة بعد حقبة، فما كان رد المتقدمين على ذلك السؤال الذي لايزال معلقا؟

كتاب أرسلان وشبهة التاريخية

الاحتفاء بكتاب أرسلان "لماذا تأخر المسلمون?"، هو احتفاء بموضوعه وفكرته أكثر من نصوصه المباشرة، فقراءته اليوم بعقل متفتح لا تستبعده من دائرة النقد والمؤاخذة والتصحيح هنا أو هناك في بعض الموضوعات الفرعية أو بعض الوقائع التاريخية التي استشهد بها، ولم ينج كتاب أرسلان من نقد معاصريه أيضا، ولو أن بعض ذاك النقد كان محملاً بحماقات الاختلافات السياسية والصراعات الشخصية إلا أن بعضه كان موضوعيا إلى حد كبير.

إن عدنا إلى تلك الفترة، الفترة التي اصطلح المؤرخون على تسميتها ما بين الحربين الأولى والثانية في هذا القرن المليء بالحروب وهي حوالي عقدين ويزيد من الزمن، وجدنا أن الدولة العثمانية وقد انحسر نفوذها كلياً عن المشرق العربي أمام دخول الفرنجة ـ كما كانوا يسمونهم وقتها ـ إلى الشام في لبنان وسوريا وفلسطين، وازدياد القبضة الإنجليزية على مصر واستمرار نفوذ الفرنجة "الفرنسيين" في الشمال العربي الإفريقي، فترة الوداع القاسي لنهضة مأمولة تحت الراية العثمانية لم تتحقق، كانت آمالها مشتعلة حتى بداية القرن في الإصلاح والتطوير، وفترة استقبال قاسٍ لاستقلال لم يتحقق، لذلك فإن أرسلان يطالب بأهون الشرين، كما قال، لأن "عقلاء العرب ـ كتب مرة ـ يفهمون أنه إذا وقع الانفصال بين العرب والأتراك، فستسقط بلاد العرب تحت حكم الإفرنج" ولم يكن هذا التقويم صحيحا على إطلاقه وإن سقطت بعض البلاد تحت ذلك الحكم الإفرنجي الذي توقعه أرسلان، إلا أن الكفاح اللاحق قد خلصها ولو بعد حين من ذلك الخضوع المباشر.

ويقول في مكان آخر: "إن الغرب يؤيد الانفصال "عن الأتراك" ولا يؤيد الاستقلال "للعرب""، فلم تكن هجمة الغرب لاحتلال موقع الأتراك على الساحة العربية غربها وشرقها مستحدثة أو جديدة، فقد بدأت قوة الدولة العثمانية تضمر وتتحلل منذ فترة طويلة قبل اختفائها، ولكن خوف وقلق أهل الفكر من الهجمة الغربية في ذلك الوقت "نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين" جعلهم يواجهونها بنهضة إسلامية عربية ممكنة تكاد توأد في مهدها، وأن العداء الغربي الإفرنجي هو محاولة للتنصير كما رآه هؤلاء، وليس محاولة لفرض النفوذ السياسي والاقتصادي فقط، ولم يكن هذا الشعور غريبا أو شاذا، فقد قامت القوى الغربية الجديدة التي لم يعد أمامها أي عائق ولو معنويا بعد سيطرتها على بلاد العرب، قامت بدعوة بعض المسلمين إلى التنصر وخاصة الأقليات ـ كما وجهوا جهودهم لنفس الغرض تجاه قبائل البربر في الشمال الإفريقي العربي ـ لذلك فإن طرح السؤال وقتها: كيف يمكن أن يستجيب العرب والمسلمون لهذا التحدي، وهل العيب فيهم وفي تراثهم أو في فهمهم للتراث? كان طرحاً مشروعاً يتوق إليه معظم المستنيرين من العرب أينما كانت أوطانهم.

أسباب التخلف وطرق النهوض

في محاولة شكيب أرسلان البحث عن أسباب التخلف وطرق النهوض يطوف بالأسباب مقارناً بين تجارب الأمم منقبا في الأحداث والوقائع باحثا عن الأحدث ثم المهم والأصيل في تجاربهم بعيدا عن المزيف، معتمدا على الذاكرة دون المذاكرة والاختصار دون البسط، والإجمال دون التفصيل، باحثا عن قصة التخلف بين المسلمين، وهل هي قصة قديمة أم قصة محدثة؟ وهل ما يحدث الآن هو انكسار طارىء ونكبات ظرفية وخسائر موضوعية أم هو انكسار دائم ونكبات متكررة وخسائر عامة شاملة? ويجمل أرسلان في مقدمة كتابه رأيه فيقول: "بالإجمال حالة المسلمين الحاضرة ولاسيما مسلمو القرن الرابع عشر الهجري أو العشرين المسيحي لا ترضي أشد الناس تحمساً للإسلام وفرحاً بحزبه، فضلا عن غير الأحمسي من أهله". حالتهم لا ترضي من جهة الدين ولا من جهة الدنيا، ثم يعدد حالة المسلمين الذين يشاركون غيرهم الأوطان فيقدر أن حالتهم أدنى دائما من حال الساكنين معهم من أتباع الديانات الأخرى، أما الاستثناء من ذلك فقليل، ولكن هذا الاستثناء يلفت نظرنا اليوم بشدة، فيقرر أرسلان أن حال مسلمي البوسنة ـ في ذلك الوقت ـ أفضل من حال سواهم من النصارى الكاثوليك أو النصارى الأرثوذكس الذين يحيطون بهم، وواضح أن هذه الإشارة لها معنى فقد كان مسلمو البوسنة يمتلكون الأراضي وبالتالي فهم أغنياء يشغلون الفلاحين الصرب في أراضيهم، ولقد تغير ذلك الحال بعد مجيء الاشتراكيين بعد الحرب العالمية الثانية فيما سمي ب"يوغسلافيا" وتأميم الأراضي وتوزيعها فأمسوا لا يملكون نقيرا وساءت حالتهم التي أدت إلى ما نراه اليوم من دمار في البوسنة والهرسك، ولا يقتصر المثال الاستثنائي على مسلمي البوسنة في رأي أرسلان بل يتعداه إلى بعض مسلمي آسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا. ما يريد أن يصل إليه في تركيزه في نقاط جوهرية أولية هي أن سبب التأخر ليس الإسلام بحد ذاته، إنما المسلمون بما استكانوا إليه من قيم سلبية في حياتهم.

أسباب الانحطاط: الضن بالمال والنفس

لقد فقد المسلمون السبب الذي ساد به أسلافهم، في رأي أرسلان، إن أحد الأسباب الجوهرية هو فقد الإيمان "فلم يتبق من الإيمان إلا اسمه ومن الإسلام إلا رسمه ومن القرآن إلا الترنم به، دون العمل بأوامره ونواهيه" لقد غير المسلمون ما بأنفسهم فغير الله وضعهم، ثم يدخل المؤلف في جوهر نظرته، فيتساءل كيف ترى في أمة ينصرها الله دون عمل، ألا يكون ذلك مخالفا للحكمة الإلهية، وكما لا توجد غلة دون حرث وزرع، ولا يوجد فوز دون سعي، كذلك لا توجد عزة دون استحقاق، وينعي أرسلان على أمة العرب والمسلمين تقاعسها وعدم بذلها "المال والنفس" في سبيل عزتها، ويشير إلى تفوق الفرنج في ذلك، فيعدد ما فقده الألمان والإنجليز والفرنسيون والروس من مال ونفس بشرية في الحرب العالمية الأولى، ويتساءل: "فليقل لي قائل أية أمة مسلمة اليوم تقدم على ما أقدم عليه هؤلاء النصارى من بيع النفوس، وإنفاق الأموال من دون حساب في سبيل أوطانهم ودولهم، حتى نعجب لماذا أتاهم الله هذه النعمة والعظمة والثروة وحرم المسلمين اليوم أقل جزء منها؟".

والجواب ليس في المسلمين اليوم من يفعل ذلك لا فرداً ولا أقواما ونرى في المسلمين من لا ينفق الزكاة الشرعية. يتحسر الكاتب كيف يجمع الآخرون المال لنصرة قضاياهم، ويجودون بالأنفس للدفاع عن أوطانهم، ويتخلف المسلمون عن ذلك. بل يخذل بعضهم بعضا، ويصف بإسهاب طوائف وفئات وجماعات من العرب والمسلمين وقفت في أوطان عديدة مع المعسكر الإفرنجي ضد إخوانهم المسلمين.

أظهر الأسباب: الجهـل

وهو يعني الجهل الذي يجعل فيهم من "لا يميز بين الخمر والخل"، فيتقبل السفسطة كقضية مسلم بها ودون أن يعرف كيف يرد عليها، ويذهب أرسلان بنفس رؤيته لمفهوم الجهل فيراه إنه "العلم الناقص" الذي هو أشد خطراً من "الجهل البسيط"، لأن الجاهل إذا قيض الله له عالماً مرشداً أطاعه، ولم يتفلسف عليه، فأما صاحب العلم الناقص فهو لا يدري ولا يقنع بأنه لا يدري، ثم يعرج إلى فساد الأخلاق فيقول "من أكبر أسباب تقهقر المسلمين فساد أخلاق أمرائهم بنوع خاص، وظن هؤلاء ـ الا من رحم ربك ـ أن الأمة خلقت لهم يفعلون بها ما يشاءون" ثم "جاء العلماء المتزلفون لأولئك الأمراء، المتقلبون في نعمائهم، وأفتوا لهم بجواز قتل ذلك الناصح بحجة أنه شق عصا الطاعة، وخرج عن الجماعة".

ويفصل المؤلف هنا في أهمية دور العلماء لتقديم لا النصيحة فقط للأمة والقادة على السواء وإنما المثال الذي يحتذى من الزهد إلى الخشونة إلى قول الحق، لأنه من أعظم أسباب تقهقر المسلمين "الجبن والهلع".

المقارنة الأولى

يعقد شكيب أرسلان مجموعة من المقارنات الذكية في كتابه بين المسلمين والإفرنج كما يسميهم، فيتحدث عن أن بعضا "من السخفاء" يحاول القول إن الشجاعة والإقدام كانتا في غير عصر المدافع والدبابات، وهو يُسفه هذا القول واصفا إياه بالحماقة لأن "أمور الخلق كلها نسبية" فمن وجد العزيمة وجد الوسيلة، ويشير في هذا السياق إلى تجربة اليابان ـ ولعلنا نتذكر أننا في أواخر العشرين من القرن ـ فهو يقول وقتها: "أنظر إلى اليابان فحتى 1868 ـ كانوا أمة كسائر الأمم الشرقية الباقية على حالها القديمة، فلما أرادوا اللحاق بالأمم تعلموا العلوم الأوربية وصنعوا صناعاتهم، واتسق لهم ذلك في خمسين سنة ـ ولم يغيروا عقيدتهم ـ وكل أمة من أمم الإسلام تريد أن تنهض وتلحق بالأمم العزيزة يمكنها ذلك وتبقى مسلمة، فلو أن أمة من أمم الاسلام أرادت أن تتسلح لوجدت السلاح الحديث بأنواعه" ويلخص هذه المقارنة الأولى بقوله: "كأن القرآن ضمن للمؤمنين النصر من دون عمل وبلا كسب ولا جهاد بالأموال وبالأنفس، بل بمجرد قولنا إننا مسلمون، أو بمجرد الدعاء والتسبيح، وأغرب من ذلك بمجرد الاستغاثة بالأولياء، فأصبح الكثير من المسلمين وهم عزل من السلاح الحديث لا يقومون للقليل من الإفرنج المسلحين المجهزين" هذه المقارنة الأولى جوهر فكرتها أن تبقى مسلما متمسكا بدينك ولا يمنعك هذا في الوقت نفسه أن تتعلم أن العلم الحديث النافع هو طريق الإعداد الجيد للنهوض.

المقارنة الثانية

وينتقل الكاتب المرحوم شكيب أرسلان لنقاش قضية مازالت وبعد نصف قرن محل جدل وخلاف بين المسلمين والعرب، بل محل كتابات عديدة معمقة وهي ما سماها قضية "ضياع الإسلام بين الجامدين والجاحدين" وسنلاحظ برغم اختلاف التفاصيل أنها قضية اليوم، ودليلنا على ذلك أن محمد خاتمي رئيس الجمهورية الإسلامية الذي انتخب أواخر شهر مايو الماضي يعيد في كتاباته المقارنة بين ما يسميه المتدين المتحجر والمثقف اللاديني، وأرسلان تحدث عن الجاحدين والجامدين. اختلفت التسميات وظلت الفكرة هي هي، يقول أرسلان في الجمود: "من أكبر عوامل انحطاط المسلمين الجمود على القديم، فكما آفة الإسلام هي الفئة التي تريد أن تلغي كل شيء قديم، دون النظر فيما هو ضار منه أو نافع، كذلك آفة الإسلام هي الفئة الجامدة التي لا تريد أن تغير شيئا" ثم يتحدث عن الثوابت في رأيه والمتغيرات، فيرى أن الحفاظ على الثقافة القومية أو الثقافة المحلية في مفهومنا اليوم ليس شيئا ضاراً، فالنصارى الذين تقدم بهم المقارنة يحتفظون برغم ديانتهم العامة بلهجاتهم ولغاتهم ومذاهبهم الدينية ويعطي أمثلة حول سويسرا ذات الاقسام الثلاثة: ألمانية وفرنسية وإيطالية "في الحقيقة هي أربع ثقافات"، وفي أيرلندا القريبة من بريطانيا التي تحتلها ـ في ذلك الوقت ـ وهي تناضل من أجل الخلاص، وفي البشكنس جنوب فرنسا.

كما يشير إلى مقاومة الشعوب في آسيا لهيمنة الروس، فاختلاف الثقافات وتعدد مصالحها لا يعني أن لها مصالح مشتركة فقط ولكن لها اجتهادات مختلفة أيضاً.

المقارنة الثالثة

ينطلق شكيب أرسلان أيضا في إبداع وابتكار ليسائل: لماذا لا نسمي اليابان وأوربا رجعية بتدينها، وسؤاله هو أن هؤلاء الاقوام لهم ديانات مختلفة يتمسكون بها فهل هم رجعيون? وهنا يثير قضية يبدو أنها كانت مثارة في بريطانيا في بداية هذا القرن وهي قضية دينية تستحق أن تُحكى من جديد بسب رمزية معانيها، وهي قضية عرفت باسم "الخبز والخمر" وقد أخذت ضجة في الأوساط السياسية البريطانية، وهي تنطلق مما رواه الإنجيل من أن السيد المسيح ـ عليه السلام ـ قبل صعوده إلى السماء تعشى مع تلاميذه العشاء الأخير وودعهم ، وبينما هو على المائدة تناول قطعة من الخبز وقال: كلوا هذا فهو جسدي، وشرب جزءا من الخمر وقال: اشربوا هو ذا دمي، وتكونت من هذه الكلمات في المسيحية عقيدة أن الخبز والخمر يتحـولان إلـى جسد الرب تماما حقيقة لا مجازاً، وجاء البروتستانت بتفسير آخر فقالوا إن ذلك كان أمرا على سبيل المجاز وليس الواقع، ولكن الكنيسة الإنجليكانية "الإنجليزية" اختلف فيها الرأي فقال بعضهم بالحقيقة وآخرون بالرمز، وانتقل هذا الانشقاق إلى أوساط الرأي العام فقامت الحكومة البريطانية على تأليف لجنة من الأساقفة تحت رئاسة أسقف كنتربري "وهو لقب يعطى لكل رئيس للكنيسة الإنجليزية" وانعقد المجمع ولم يوفق إلى حل، فألحت الحكومة البريطانية للوصول إلى حل حتى ولو بأكثرية دون الإجماع، فحكمت الأكثرية بأن الخبز والخمر يتحولان في قداس الكاهن إلى جسد المسيح وروحه، وعليه تجب عبادتهما والسجود لهما ووضعهما في أعلى المذبح لا في كوة بحائط الكنيسة، وخالف الرأي ذاك ستة من الأعضاء، ولما كان القانون الأساسي في بريطانيا يوجب أن يكون القول الفاصل في جميع هذه القضايا الدينية لمجلسي اللوردات والعموم عملاً بكتاب الصلاة الذي هو مرجع الأمة البريطانية أحيل حكم الأساقفة إلى مجلس اللوردات، وكان يوم التصويت في مجلس اللوردات مشهودا، فقد حمل إليه حتى من لا يستطيع السير من أعضائه ليشهد التصويت، وصوت بالأغلبية لصالح قرار مجمع الأساقفة. ولم يكن ذلك كافيا، إذ لابد لإعمال الحكم أن يقره مجلس العموم، فلما جاء إلى مجلس العموم مالت الأغلبية إلى نقض قرار مجمع الأساقفة، وما وافق عليه مجلس اللوردات، وقرر مجلس العموم أن الخبز والخمر لا يستحيلان بالبداهة إلى جسد المسيح ـ عليه السلام ـ وروحه، وتوكأوا في حكمهم على كتاب الصلاة وهو مرجع الكنيسة الإنجليكية الوحيد. ما أثارته تلك القضية في الرأي العام من أخذ ورد لم تنقصه الحدة، وتدخل المجالس السياسية بل والدولة البريطانية، ويشير أرسلان إلى هذه القضية للمقارنة، فعلى الرغم، كما قال، من "أن الأمة الإنجليزية بمبادئها الدنيوية اهتمت بهذا الموضوع وهي في طليعة الأمم الراقية، فإن من يتشدق بالقول إن أوربا نبذت الدين، وفصلت الدين عن السياسة وإنه حري بالمسلمين أن ينهجوا نهجها إن كانوا يريدون لأنفسهم رقياً، فأين فصل الدين عن السياسة هنا"؟. ولعل هذا النوع من الأمثلة وطريقة النقاش تقود المؤلف إلى ما يريد قوله وهو أن العلة ليست في الدين، "كما هو في جوهره" ولكن في فهم الناس لهذا الجوهر وطرق تطبيق هذا الفهم ومبادئه على حياتهم، ولايترك المؤلف هذا المثال يذهب أحاديا فيأتي بأمثلة من اليهودية وحتى الكونفوشية، وينتهي إلى القول: "جميع هؤلاء الخلائق تعلموا وتقدموا وترقوا وعلوا وطاروا في السماء والمسيحي منهم باق على إنجيله وتقاليده الكنسية، واليهودي باق على مزاميره، كل حزب منهم فرح بما لديه، وهذا المسلم المسكين يستحيل أن يترقى إلا إذا رمى بقرآنه وعقيدته ومآخذه ومتاركه ومنازعه ومشاربه ولباسه وفراشه وطعامه وشرابه وأدبه وطربه وغير ذلك وانفصل من كل تاريخه، فإن لم يفعل ذلك فلا حظ له في الترقي!".

هكذا بمرارة يشجب المؤلف ما سماه بحجج الجاحدين، وبنفس المرارة يشجب ذرائع الجامدين: "فالمسلم الجامد ليس بأخف ضررا من المسلم الجاحد، فالجامد هو سبب الفقر الذي ابتلي به المسلمون لأنه جعل الإسلام دين آخرة فقط". فالجامد هو الذي أشهر الحرب على العلوم الطبيعية والرياضية والفلسفية وفنونها وصناعتها ، فالعلوم الطبيعية هي العلوم الباحثة في الأرض "والأرض لا تخرج أفلاذها إلا لمن بحث فيها، فإن كنا طوال العمر لا نتكلم إلا فيما هو عائد للآخرة قالت لنا الأرض اذهبوا توا إلى الآخرة فليس لكم نصيب مني".

والمسلم الجامد إن نظر إلى هذه الحالة التي عليها المسلمون اليوم "عللها بالقضاء والقدر" وهذا شأن جميع الكسالى في الدنيا، يحيلون النقص فيهم على الأقدار ويأتي بعد ذلك المؤلف ليستعرض آيات القرآن الكريم التي تحث على العمل وبذل الجهد وهي كثيرة، وكلها ناطقة بأن الإسلام دين العمل لا دين الكسل ولا هو دين الاتكال على القدر المجهول.

تخلف المدنية الإسلامية

يتصدى المؤلف إلى الفكرة القائلة بنفي مدنية الإسلام، وقول الفرنج إن الاسلام لم يتمكن من تأسيس مدنية خاصة به ودائمة، وسبب تخلف المدنية الإسلامية في رأي المؤلف: "كثيرا ما يضعف تأثير الدين في الأمم فتفلت من قيوده وتفسد أخلاقها وتنهار أوضاعها، فيكون فساد الأخلاق هو علة السقوط ولا يكون الدين هو المسئول". ويضرب في ذلك أمثلة لمدنيات خلت، كالمدنية اليونانية فهل يمكن القول إن هذه المدنية العظيمة عندما دخلت المسيحية تراجعت واضمحلت، وأصبحت في نهاية المطاف ولاية من جملة ولايات السلطة العثمانية "أفيجب أن نقول إن النصرانية كانت المسئولة عن هذا الانحطاط"؟.

ثم كانت روما عاصمة الدولة العظمى التي لا يذكر معها دولة ولم تزل كذلك إلى أن تنصرت ومنذ ذلك الوقت بدأت بالانحطاط ولم تسترجع روما شيئا من مكانتها الأولى إلى هذه الساعة، "أفيجعل تنصر الرومان هو العامل في انحطاط روما وتدحرجها عن قمة تلك العظمة الشاهقة"؟.

في هذا النوع من المناقشة يصل الكاتب إلى القول إن الدين ليس بالضرورة هو سبب التخلف، فالسبب داخلي وهو في رأيه: "منافسات ملوك الإسلام الداخلية للشهوات وإمعانهم في الضلالات ومحيدهم عن جادة القرآن القويمة، وفقدهم ما يزرعه في الصدر من الأخلاق العظيمة، وقد قضت من الداخل ما عجز عن تصفيته العدوان في الخارج، فليس الذي في هذا التخلف ذنب الإسلام ولا التبعية في هذا الانقلاب عائد على القرآن.. إنما هي تبعية المسلمين الذين رغبوا عن أوامر كتابهم واشتروا بآياته ثمنا قليلا، إلا النادر منهم".

لماذا نهضت أوربا؟

في هذا القسم من الكتاب تحول أديبنا المرحوم شكيب أرسلان لفحص أسباب السقوط والنهوض، "فالحق الذي لا ريب فيه ـ كما يقول ـ أن النصرانية نفسها لم تكن المسئولة عن حالة الإفرنج المسيحيين في التخلف مدة ألف سنة في القرون الوسطى، بل للمسيحية الفضل في تهذيب برابرة أوربا" وبنفس المنطق يتابع المؤلف فيقول: "وكذلك الوثنيون في اليابان فلا كانت الوثنية سبب تقدمهم الحاضر أو تأخرهم الماضي".

ويصل إلى نتيجة مفادها: "فليترك إذن بعض الناس جعل الأديان هي المعيار للتأخر والتقدم"، وهذا ما توافق عليه الدراسات الحديثة بعد خمسين عاماً من نشر كتاب أرسلان السابق ذكره وهو ينظر إلى الأسباب كالتالي: "إن لهذه الحوادث "التخلف" أسبابا وعوامل متراكمة ترجع إلى أصول شتى، فإذا تراكمت هذه العوامل في خير أو شر تغلبت على تأثير الأديان والعقائد وأصبحت فضائل أقوم الأديان عاجزة بإزاء شرها، كما أصبحت معايب أسخفها غير مؤثرة في جانب خيرها". ويكمل المؤلف في مجمل مفيد قوله: "إن إدخال الأديان في هذا المعترك وجعلها وحدها معيار الترقي والتردي ليس من النصفة في شيء، أما الإسلام فلا جدال في أنه سبب نهضة العرب، مما أجمع على الاعتراف به المؤرخون شرقاً وغرباً، ولكنه لم يكن سبب انحطاطهم.. بل كان السبب في تردي المسلمين هو أنهم اكتفوا في آخر الأمر من الإسلام بمجرد الاسم، والحال إن الإسلام اسم وفعل".

ويمضي المؤلف فيستعرض الآيات القرآنية العديدة التي تحث على العلم وطلب العلم، ويناقش أن العلم الذي تحث هذه المفردات على طلبه ليس هو العلم الديني فقط، وإنما العلم بمعناه الأوسع والأشمل بما فيه من جغرافيا وتاريخ واقتصاد وسياسة وثقافة وحرث وعقيدة وأخلاق.

الدائرة المغلقة

بعد كتاب شكيب أرسلان، "لماذا تخلف المسلمون" وقبله كانت هناك كتابات عربية متوازنة تستثير الهمم وتخرج عن المعادلة الصفرية التي تقول بالأسود والأبيض ولابينهما، فقد دخلت المنطقة العربية بعد ذلك الكتاب بفعل الاستقلال عن الأجنبي في أتون الحرب الباردة، فجاء من قال إن التأخر سببه الدين وجاء من قال إن النهوض هو العودة إلى الدين ـ بمفاهيم محددة ارتضاها ـ ومازالت هذه الثنائية قائمة.. تقوى وتضعف ويختلف الناس حولها في حين أن ما زاده شكيب أرسلان على وجه الدقة القول بأن قضية التأخر ليست في دين الإنسان، إنما هي في الإنسان نفسه، فلم تمنع المسيحية أهل الغرب من النهوض ولم تمنع الكونفوشية أهل الشرق من النهوض، ولن يمنعنا ديننا عن النهوض، ما يمنعنا هو عدم لحاقنا بالعلم الحديث وما يمنعنا عدم تنظيم أنفسنا بما يفرضه العالم من حولنا، ما يمنعنا هو أعمال العنف المعنوية والرمزية والمادية التي نقوم بها تجاه بعضنا البعض.

لذلك تراجع العقل المبدع في عالمنا العربي ليترك مكانا فسيحا للعقل الناقل، وتأرجحنا بين الجمود والجحود لفترة طويلة، فهناك أمران لا يحدد لهما وقت بدقة النوم في حياة الأفراد والانحطاط في حياة الأمم، فلا يشعر بهما أحد إلا إذا غلبا واستولىا، وقد استولى علينا التخلف، وبعد انتهاء الحرب الباردة وولوج العالم في حالة العولمة شديدة التغير تعود الاسئلة التي طرحها شكيب أرسلان منذ نصف قرن إلى رأس أولويات المثقف العربي، فهل فاتنا الأخذ بتلك النصائح؟

 

محمد الرميحي