لبنان الدرس العربي الباهظ الثمن محمد الرميحي

لبنان الدرس العربي الباهظ الثمن

حديث الشهر
زيارة لوطن الكلمة

قضيت خمسة أيام في لبنان، ولم أزر لبنان منذ خمسة عشر عاما، وكنت أعرف لبنان ما قبل الحرب الأهلية التي تفجرت سنة 1975، وكنت أتابع المأساة اللبنانية، كعربي، من بعيد. فقد كانت نار الحرب الأهلية اللبنانية لا تسمح لأحد بالاقتراب، ولبنان بالنسبة للبناني هو كل الدنيا وبالنسبة للآخرين هو وطن صغير هناك عند ساحل البحر الأبيض المتوسط تكتنفه الصعوبات وهي ليست أكبر أو أصغر من صعوبات عديدة تكتنف العديد من الأوطان خاصة في هذه الفترة الصعبة. لبنان بالنسبة لي ليس بالضرورة كما يراه اللبناني وليس بالضرورة كما يراه الآخرون ولكنه منزلة بين المنزلتين.

قد لا يعرف الجيل العربي الجديد لبنان ولا الدور الثقافي والحضاري الذي قام به في مرحلة بناء الدولة العربية بعد الحرب العالمية الأولى، قد يعرف صورة ممسوخة قدمت له هنا أو هناك بالتضخيم أو التبسيط، بينما لبنان للجيل العربي الوسط له تاريخ وصدى، واحسب أن لبنان الجديد سوف يجدد ذلك التاريخ الإيجابي والصدى الثقافي.

بعد خمسة عشر عاما من فراق لبنان عدت إليه من جديد ولم تكن الفترة التي أمضيتها في ربوعه بكافية لإصدار حكم نهائي ولكنها بالتأكيد أوحت لي بمؤشرات استأذن القارئ في إشراكه معي فيها.

هناك العديد من الثوابت اللبنانية- التي كنت أعرفها- لم تعد حتى الآن ولكنها بقيت كما كانت، وهناك العديد من المظاهر الجديدة إنسانية وعمرانية، اجتماعية وسياسية أفرختها التغيرات التي مرت أو هي أفرخت نفسهـا إبان الحرب الأهلية. الثوابت المتغيرات كثيرة ولا يمكن حصرها في مقالة إلا أن العنصر الأساسي في الثوابت اللبنانية أن هناك دائما مؤيدين ومعارضين، مرافقين ورافضين لأي شيء ولكل شيء من مشروع إعمار وسط بيروت إلى السلام العربي الإسرائيلي، ومن السماح لدخول رءوس الأموال من الخارج إلى ثمن شطائر (السندويتش) التي تباع في المحلات الصغيرة. المعارضة والاختلاف سمتان أساسيتان من سمات لبنان وستظلان كذلك، ومع الاختلاف اللبناني تأتي إجادة تقديم الخدمات بكل الكلمات الطيبة والمعسولة التي يستقبلك بها اللبناني في المطعم والمتجر والبنك رفي البيت، هي سمة تجعلك تحتار وتتساءل: كيف حارب اللبنانيون بعضهم بعضا بالقنبلة والمدفع والرصاص وهم على مات م عليه كأشخاص من دماثة الخلق ورقة الطباع؟ باختصار اللبنانيون يصعب تحليل سلوكياتهم، لذلك فمان الموضوع اللبناني يبدو على السطح بسيطا وواضحا ولكنه في العمق معقد مثل كرة من الخيوط التي تداخلت أطرافها. شعوري أن لبنان قد خرج من غرفة الإنعاش التي دخلهـا عندما دخلت كل طوائفه وشخصياته السياسية في حرب أهلية، ولكنه وبركم انتهاء الحرب لم يخرج بعد من المستشفى، إنه يتعافى وبسرعة ولكن محبيه- وأنا منهم- يخافون عليه من الانتكاسة أيضا سواء كان سببها داخلياً أو خارجياً.

لا يستطيع عربي إلا أن يتعاطف بعمق وبعاطفة مع لبنان الانسان، فالانسان اللبناني- وأنا هنا أتحدث عن الغالبية- قد طحنتة الحرب الأهلية الضروس فشتتت تجمعاته وهجرت رجاله وطحنت بالغلاء بعضا من فخره واعتزازه، وتستطيع أن تلحظ ذلك في القرية اللبنانية الجنوبية وساكنيها، كما تلحظه في الأحياء الفقيرة في بيروت، وكذلك تشاهده في هياكل الدمار التي مازالت ماثلة فيما كان يسمى بخطوط التماس بين القوات المتحاربة. ما زالت هناك عائلات بأكملها تعيش في عمارات بلا مياه ولا كهرباء ولا حتى جدران أيضا، وما زالت الهجرات مستمرة أيضا بحثا عن مكان آمن في بلد افتقد الأمان لمدة طويلة.

بجانب هذا المنظر الإنساني، يبرز منظر اللبناني الآخر وهو يشيد العمارات الشاهقة ويقيم الكباري الممتدة ويستورد من الخارج أفضل أنواع المأكولات والمشروبات والملبوسات. وقد سألت أحدهم وهو يشرح لي مواصفات البناء الجديد الذي يتكون من عدة طوابق ومجموعة من المتاجر وناد اجتماعي وصحي حديث في إحدى قرى الجبل السياحية: كيف قمتم بكل هذا في السنوات القليلة الماضية؟ وأجابني وكأنه قد حفظ الإجابة ويعرف وقعها على غير اللبناني: "لقد كنا نبني والحرب الأهلية دائرة وعندما تشتد القذائف متعهدي البناء أشار إلى عدة عمارات نتوقف وعندما تهدأ نعود من جديد" أحد متقابلة في إحدى ضواحي بيروت الفاخرة وقال: "لقد كان علي أن أدفع أجور العمال وأقدم لهم الأكل.. عملوا أولم يعملوا وحتى لا أخسرهم قررت أن أستضيفهم وعائلاتهم في معسكر قريب من موقع البناء. لقد كان علي أن ادفع بأي شكل فقررت أن أدفع وأبني أيضا"!.

مثل هذه القصص كثيرة إلى درجة أنها لا تصيب اللبناني بأي دهشة كما تصيب الآخر حتى لو كان يعرف قدرة اللبناني المطلقة على البناء

لبنان الحرب والطائفية

منذ أن تكون لبنان الحديث وهناك عقدتان تحكمانه، عقدة الإحساس بالغبن لدى المسلمين، وهواجس الخوف لدى المسيحيين، وفي إبان حكم الجمهورية اللبنانية الأولى منذ الاستقلال حتى نهاية الحرب الأصلية سنة 1995 ظلت هاتان العقدتان بارزتين في ظل أوجه الصراع اللبناني على كثرة ما تبدلت الأوجه. لذلك كان العنصر الخارجي دائما حاضرا ومسانداً لأحد الطرفين إما لتغليب فئة على الأخرى، أو تقليل نفوذ فئة لبنانية لحساب فئة أخرى، جيل الاستقلال هو فقط الذي استطاع أن يحافظ وبصعوبة بالغة على هذا التوازن لفترة ولكن سرعان ما انهار هذا التوازن تحت ضغوط الشد والجذب المحلي والإقليمي والدولي، ودفع اللبنانيون- معظم اللبنانيين- ثمنا فادحا من المال والأرواح واستقلال الوطن أيضا.

ومن المفارقات أن جيلي الاستقلال اللبناني في محاولة منه لتخطي هاتين العقدتين معاً (عقدة الخوف وعقدة الغبن) فقد ضمن وثائق الاستقلال اعترافه باعتماد النظام الطائفي منذ أوائل الأربعينيات على انهأ تدبير انتقالي محدود) وكان هذا الأمر يمثل ضرورة سياسية وقتها حتى يخرج لبنان المستقل إلى الوجود.

مهندسو الصيغة اللبنانية الأولى هذه كثيراً ما حذروا من المخاطر الملازمة لمثل هذه الصيغة التي اضطروا للاعتراف بها، إلا أن الطائفية السياسية في لبنان تحولت من تدبير انتقالي محدود إلى ممارسة فعلية مؤثرة لدرجة أدخلت مفردات هذه الصيغة- نتيجة التنافس السياسي- إلى حلبة القوانين، وبلغت قمتها في نص قانون الموظفين الصادر عام 1959 والذي كرس قانون التوزيع الطائفي للوظائف العامة. وهكذا تكرست الطائفية في لبنان في نصوص تشريعات عديدة ومنحت الطوائف اللبنانية بموجب هذه التشريعات صلاحيات واسعة لإدارة شؤونها الداخلية ومؤسساتها. حقيقة الأمر أن ما حدث في دولة الاستقلال هو تعزيز الطائفية فيما كان التصور الأصلي للآباء المؤسسين أن الزمن كفيل بإزالة هذه الظاهرة ليتحول لبنان المأمول من دولة للطوائف إلى دولة للجميع. ولكن ترسيخ هذه الظاهرة لم يتوقف عند التعددية في المراجع السياسية فقط، وإنما امتد ليصبح تعددية في المراجع الروحية أيضا.

ليس بالإمكان سرد العوامل الكثيرة التي أدخلت لبنان في حرب أهلية يسميها كل اللبنانيين اليوم بأنها كانت حرباً (قذرة) بكل معنى الكلمة، وليس في الإمكان أيضا تبرئة العناصر الكامنة في صميم الصيغة اللبنانية والتي ساعدت على هذا التفجير جنبا إلى جنب مع المصالح الخارجية التي أرادت أن تجعل من لبنان ساحة صراع لقوى وأيديولوجيات يراد اختبارها في الشرق الأوسط. ومهما تعددت العوامل فقد كانت الساحة مهيأة، فكلما اهتزت منطقة الشرق الأوسط بحدث كبير كان لا بد أن يسمع صدى هذا الحدث في لبنان. لقد نأى اللبنانيون بالدولة اللبنانية من دخول حروب العرب مع إسرائيل في سنوات 1956، 1967، 1973، فكسبوا الدولة مؤقتا ولكنهـم خسروا الوطن بعد ذلك في حرب أهلية استمرت منذ 1975 إلى 1990 لان اللبناني ببساطة لا يستطيع أن ينزع نفسه عن الحديث في السياسة، فهـو كما يقال كان قبل الحرب الأهلية يتحدث في السياسة ست ساعات ويعمل ساعتين فقط في اليوم- هذا إذا كان له عمل- أما إذا لم يكن له عمل فإنه يتحدث في السياسة ست عشرة ساعة وينام ثماني ساعات. هذا المناخ اللبناني على ضوء الترتيب الطائفي الذي يفرض على المواطن أن يفصح عن هويته الطائفية جبرا وبموافقة القوانين- إن لم يكن عن رضا- اسمح للبعض باستغلال المشاعر الدينية لأهداف سياسية ضيقه في مجتمع بدا أقل ترابطا نتيجة تباين الحقوق السياسية والاجتماعية مما أضعف الشعور بالتضامن الوطني وولد إحباطا وكبتا دائمين في قلة تكافؤ الفرص وتحديد أنصبة مسبقة للطوائف تحت ظل سقوف جامدة 4 وانقسم هذا المجتمع- ما دامت الطائفة هي الأساس- إلى سبع عشرة طائفة معترفا بها قانونا، ومن المصادفات المرعبة أن عمر الحرب الأصلية اللبنانية هو أيضا سبع عشرة سنة..!!

والطائفية في لبنان في مرحلة استقرارها أو صراعها تنبش دائما عن تحالفات إقليمية ودولية تتلاءم مع مصالحها، وبالتالي إن كان هناك صراع فلأن هناك حليفا للإمداد المالي والعسكري وإن كان تعاون فلان هناك حليفا آخر للدعم السياسي. وفي بعض الفترات يختل هذا الاستقرار الحرج لينفجر في نطاق ضيق أو على نطاق واسع.

وقد كانت شكوى كل الطوائف من الطائفية علنية. والكل يلعنها- والكل يتمسك بها حتى جاء اليوم الأغبر واشتعلت شرارات الحرب فتحولت الطائفية إلى سيوف ماضية يطعن بها كل صديق صديقه اللدود.

.. في يوم الثالث عشر من إبريل 1975 تعاقبت في صبيحة واحدة من يوم الأحد وفي حي سكني واحد هو"عين الرمانة" بضاحية بيروت الجنوبية سلسلة معقدة من الأحداث قتل فيها مقاتل مسيحي وحوالي عشرين راكباً فلسطينيا كانوا يمرون- بالمصادفة- على مقربة من المكان الذي فتل فيه المقاتل المسيحي قبل ساعات، ومنذ ذلك الحادث كرت مسبحة الحرب الأهلية متقطعة تارة ومتصلة تارة أخرى، وتبدلت فيهما التحالفات أكثر من مرة فدخلها الحلفاء معا، ثم دخلوها ضد بعضهـم بعضا، ثم تحالفوا وتفرقوا وتصالحوا وتقاتلوا في حروب صغيرة، ولكنها لا تتوقف. وشهدت ممارسات هذه الحرب أبشع ما يمكن أن يوقعه الإنسان على الإنسان، وأكلت الحرب جيل الوسط من السياسيين اللبنانيين فلم توفرهم ولم تحفظهم من أن يكونوا حطبا لها. وسيكون من المبكر كتابة تخليل كامل لهذه الحرب: مسبباتها ونتائجها إلا أن العديد من اللبنانيين من كتاب ومفكرين يكادون أن يجمعوا اليوم على عبثية هذه الحرب التي خرج الجميع منها مغلوبين.

نتائج حروب الدمار ظاهرة في لبنان، وهي ليست فقط على الجدران وهياكل البنايات المحروقة بل في داخل صميم الإنسان نفسه، داخل أنسجه اللبناني الذي صمد في مراحل هذه الحرب ولاحقه الرصاص، ولدى اللبناني الذي هاجر من وطنه قسراً إلى بقاع أخرى من العالم هذا الإنسان الذي لا يريد الآن أن يتذكر أهوال هذه الحرب بل إن هناك جيلا شاباً يتحسر على سبع عشرة سنة من حياته ولا يعرف كيف مرت عليه. ويتسابق الكتاب والمفكرون اللبنانيون على نقد المرحلة برمتها وعلى الإشارة إلى (أمراء الحرب) بشكل سلبي يكاد يصل إلى حد الذم فيهم، وقد قال أحد المثقفين اللبنانيين: "يبدو أنة في لبنان لا يوجد الأقوى فعندما أطلق بيار جميل زعيم حزب الكتائب في بداية الحرب الأهلية شعاره "التقم الحرب وليربح الأقوى" كان يعتقد أن هناك من يمكن أن يكون الأقوى في لبنان، والمطلق، والصيغة اللبنانية تجعل مثل هذا التصور في حكم المستحيل".

الجمهورية الثانية

يرى أغلب اللبنانيين أن التركيبة السياسية التي توصل إليها زعماء لبنان بعد مؤتمر الطائف في 1989 والتي على أساسها أنهيت الحرب الأصلية اللبنانية كانت بداية الجمهورية الثانية بعد أن سقطت تركيبة الجمهورية الأولى في أوحال الحرب الأهلية، وتجد بين المثقفين والسياسيين اللبنانيين من ينتقد توليفه اتفاق الطائف، ونجد بينهم القابل بها كمرحلة في سبيل دولة أخرى شبه موحدة. ولقد غيرت اتفاقية الطائف في المعادلة السياسية اللبنانية، وأدخلت على أثرها مجموعة من الإصلاحات على الدستور اللبناني ووسعت من قاعدة التمثيل السياسي في البرلمان كما وازنت بين الطائفتين الكبيرتين: المسلمين والمسيحيين. وقد قادت هذه الإصلاحات التي أحدثتها صيغة الطائف - والتي توصل إليها اللبنانيون بمساعدة عربية تمثلت في ثقل المملكة العربية السعودية وسوريا بشكل أساسي ودعم دولي- إلى أولويات عمل جديدة في الجمهورية الثانية، وتبدلت صيغة الرأس الواحد الذي يصدر الأحكام وهو غير مسئول أمام أية مؤسسة دستورية- وهي الصيغة التي عاشتها لبنان حتى اتفاق الطائف - تبدلت إلى مسئولية كاملة بين الرؤساء الثلاثة: رئيس الجمهورية، رئيس الوزراء، رئيس مجلس النواب، وهي الصيغة التي يطلق عليها اللبنانيون "الترويكا" مع ميل واضح لدور رئيس الوزراء الذي لا يعين إلا بعد الاتفاق. مع أعضاء مجلس النواب. المراقب المحايد، الباحث في الأدبيات السياسية اللبنانية، بعد الطائف، يلاحظ أن هناك إنجازات حقيقية، فقد انفتحت المناطق اللبنانية على بعضها البعض انفتاحا كاملا، وتستطيع اليوم أن تسير في لبنان من أقصاه إلى أقصاه دون أن يوقفك أحد أو يدقق في أوراقك، اللهم إلا في مناطق الجنوب، أما المناطق الأخرى فيكفي أن تخفف سيرك ليشير إليك من بالحاجز بالمرور. بجانب ذلك فإن النشاط الاقتصادي في لبنان يستعيد قدرته ويعود ذلك إلى سببين: الأول هو حيوية اللبنانيين أنفسهم والثاني هو عون الدول الصديقة والعربية على وجه الخصوص في معافاة لبنان- يلاحظ القادم إلى بيروت أن النشاط في المطار بدأ يدب ولو على استحياء، إلا أن النشاط في شوارع بيروت في شق الأنفاق والطرق السريعة وصولا إلى القرية الصغيرة يدل على أنها ورشة عمل. ومن يطلع على الخطة العشرية التي أطلقتها الحكومة اللبنانية سنة 1993 كي تتحقق سنة 2002 لا بد أن يوقن بالعزم على تحقيق نهوض اقتصادي اجتماعي للبنان جديد، ومع ذلك فإن الأشجان اللبنانية عديدة ومتشعبة: منها ما هو خاص بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لمعظم اللبنانيين ومنها ما له علاقة باحتمالات السلام مع إسرائيل ومساراتها القادمة.

الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية

الحزن الذي رافق وحرك الإنسان في كل حروبه- على مر التاريخ- كان ولا يزال الجانب الآخر للشخصية اللبنانية، فلقد شعرت بحزن دفين في عيون أصدقائي اللبنانيين مهما بدا على وجوههم من ابتسام، هذا الحزن أو في جزء منه حسرة على الماضي وقلق على المستقبل، فأمراء الحرب- أو بعضهم على الأقل- يعد أن خاضوا الحروب الأهلية المتعاقبة وصلوا إلى النادي السياسي اللبناني، بعضهم تعلم لغة المرحلة الجديدة وأجاد التحدث بمفرداتها وبعضهم لا يزال يحن إلى مرحلة (المليشيات) والسلطة المطلقة حتى لو كانت تفرض سيطرتها على حي صغير. ومن فقد المجد من هؤلاء الأمراء يحن إلى الأزمنة الشاذة السابقة، فالغياب الطويل لسلطة القانون قد سهل للبعض انتهاكه. هذا البعض سواء كان متسببا في الحرب الأهلية أو عمل على ملء الفراغ الناجم عن غياب سلطة الدولة تعلم لغة وممارسة تمت صياغتها في قاموس المليشيات ومازال له حنين في العودة إليها بل ممارستها بأشكال أخرى. التحدي الذي يواجهونه الآن هو أن يصبح لبنان الحرب الأهلية هو لبنان التعايش والتنمية، وهو تحد ليس من السهل قبوله لدى بعض المنتفعين بنيران الفرقة. إن النادي السياسي الذي تشكل بعد الطائف من وجوه جديدة ووجوه قديمة لايزال بعضها يمارس السياسة اللبنانية من زاوية الحصول على كل شيء الأمر الذي جربوه إبان الحرب الأهلية فخسروه بقوة السلاح ويريدون ربحه بواسطة بلاغة الحنجرة السياسية. والملاحظة التي قد تصدم الزائر إلى لبنان أنه لم يبق من الأحزاب اللبنانية القديمة شيء تقريبا فقد أحالت الحرب الأهلية الأشكال القديمة من الأحزاب اللبنانية إلى التقاعد وبعضها شيع بالفعل إلى القبر. ولقد كان الشكل التقليدي للأحزاب اللبنانية هو التحزب لزعيم أو عائلة واستولدت الطائفة الواحدة في لبنان حزبا أو أكثر حتى قارب عدد الأحزاب اللبنانية السبعين حزبا أو أكثر. قلبت الحرب معظم الأحزاب تلك إلى مليشيات أو (مقاومات) وعرت بذلك القشور الهشة عن الطبيعة العسكرية لهذه الأحزاب التي لم يعد لها هدف سوى إرضاء الزعماء الجدد الذين ثبتوا زعامتهم في أيام الحرب على ما تبقى من تلك الأحزاب. لقد بدلت الحرب البيئة اللبنانية القديمة وأصبح الرهان بعد الطائف هو: هل هناك مكان تشغله الأحزاب في العمل السياسي اللبناني القادم أم أن هناك جيلا من اللبنانيين يمكن أن يمارسوا السياسة بلا أحزاب، أو على الأقل دون الأحزاب التقليدية السابقة. ففي زمن الحرب الأهلية تأجلت وتبددت كثير من القيم التي كانت تسود المجتمع اللبناني وحلت بدلا منها قيم (المليشيات) القائمة على اضرب واخطف واهرب. قيم هي أعراض من سعار الحرب الذي لف في أتونه كل طبقات المجتمع وأصبحت المشكلة الآن هي كيفية الخروج من قيم الحرب إلى قيم الاستقرار. فهناك تركة مثقلة من المخاوف والقلق والتوتر في نفوس الشباب اللبناني وتكفينا دلالة على هذه الحالة تلك المسابقة التي عقدت لكتابة القصة القصيرة عند الشباب ووجد أن التيمات والأجواء الغالبة في هذه القصص هي الموت والقلق والافتقاد والرغبة في الهجرة. في الأجواء التي أعقبت الحرب برزت قضيتان مستجدتان تبدوان متناقضتين، الأولى هي الرضع الاقتصادي العام والذي أخذ في التحسن وعلى نقيضه الوضع المعيشي العام الذي يواجه صعوبات تنذر بالخطر. فرجل كالدكتور سليم الحص الاقتصادي الموثوق يرى أن هناك أجواء من الثقة المتجددة في المعطيات الاقتصادية اللبنانية ومظاهرها ارتفاع معدلات الإنتاج والإيرادات الجمركية وانخفاض عجز الخزانة وارتفاع نسبي في الحد الأدنى للأجور وغيرها من مظاهر التعافي الاقتصادي في الوقت الذي تتوافر فيه تقارير تقول إن الغالبية من اللبنانيين مازالوا يواجهون شظف العيش، فهناك دراسة تقول إن ثلاثين في المائة من السكان في لبنان يعيشون تحت خط الفقر، كما تتفاقم ظاهرتا البطالة في المدن والهجرة من الريف في المدينة أو هجرة الشباب إلى ما الخارج عندما يواجهون فترات طويلة من التبطل. الظاهرتان تعيشان جنبا إلى جنب: قلة ميسورة في إطار اقتصاد خدمي نشط وأغلبية معوزة، كما أن نسبة الأمية بين الشباب آخذة في التفاقم فقد كانت نسبتها قبل الحرب 12% فارتفعت بعدها لتصبح 34% بمن فيهم من تركوا التعليم وهم في سن الثامنة. والمتفائلون في لبنان يؤكدون أن الأمور تسير في شكل أفضل والمتشائمون يرفعون عقيرتهم بصياح الشكوى، كأنه مشهد من المسرحية التي تشهدها بيروت الآن بعنوان (ابتسم أنت لبناني) وخرجت منها بانطباع أن اسمها كان يجب أن يكون (ابك أنت لبناني) وبين التفاؤل والتشاؤم يظل لبنان حيزا جغرافيا مليئا بالحيوية.

التسوية والتوطين

حقيقة الأمر أن المجتمع اللبناني اليوم على مفترق طرق، فلبنان الواقع لا يستطيع أن يخرج مما ارتضاه اللبنانيون لفترة طويلة سابقة وهو التعايش الحرج بين طوائفه، كما أنه على مفترق طرق في المدى القصير حيث الحديث جار عن انتخابات رئيس جمهورية- قديم أو جديد- لا تتعدى مدته أكتوبر سنة 1995. وأمام هذين المطلبين الملحين تبدو المعضلة الرئيسية في مواجهة عملية السلام في الشرق الأوسط، ففي إطار متاهات السلام السوري/ اللبناني/ الإسرائيلي، سوف تترتب أوضاع البيت اللبناني في المدى الطويل بطريقة مختلفة وجديدة.

لقد كانت مدينة بيروت كلها ترتجف تحت وطأة العسكر وهدير ناقلات الجنود عندما اتخذت الخطوات الأولى نحو سلام مع إسرائيل خلال اتفاقية كامب ديفيد وما تلاها وقد اشتد هدير الدبابات وأصوات المدافع في لبنان في سباق مع مداخل السلام العربية/ الإسرائيلية، وكان فصل الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982 أحد الفصول الدامية والحزينة في طريق ما عرف بالسلام بعد ذلك.

واليوم يقف اللبنانيون أمام التسوية السلمية والتطبيع وهم يحملون هما آخر هو توطين الفلسطينيين في لبنان. هذه القضايا تشغل بال السياسة اللبنانية والشارع اللبناني. وكعهد اللبنانيين يواجهونها بالانقسام في الاجتهادات العلنية، وفي الموافقة والاختلاف مع الأطراف الخارجية إلا أن أحد الدروس في هذه القضية والتي يبدو أن لبنان الدولة على الأقل قد استوعبها هو أن لا حل بالاعتماد على قوة أجنبية، فلقد خابت ـ في رأي المحللين اللبنانيين الثقات - مراهنة طائفة من اللبنانيين على الولايات المتحدة منذ كميل شمعون إلى أمين الجميل والعلاقة مع. الولايات المتحدة يرى العقلاء أن تكون متوازنة، وينقل عن الرئيس صائب سلام في هذا الصدد قوله: "إنه من غير الممكن لأي مسئول في العالم أن يسقط ما تريده واشنطن من حساباته السياسية، ولكن من الصعب جدا الاتكال على واشنطن في حل المشاكل الصعبة التي تعانيها بلاده" ولعل هذا القول الذي نقله الكاتب اللبناني باسم الجسر يؤطر صعوبات لبنان السياسية تجاه التسوية المرتقبة.

وقد صك اللبنانيون في علاقتهم بأمريكا شعارا سموه "الوعود والتخلي" كناية عن الوعود العديدة التي تقدمها واشنطن ثم تتخلي عنها. وتحظى المسألة اللبنانية في الواقع باهتمام من واشنطن ولكنها في الشكل تبدو ثانوية وهي حيرة يقف أمامها اللبنانيون بكلى اجتهاداتهم موقف التساؤل. ومن المفارقات اللبنانية أن الجبهة اللبنانية- الإسرائيلية التي ظلت باردة إبان حروب العرب مع إسرائيل هي التي أصيبت بالسخونة لفترة أطول من أية جبهة أخرى. ويشير اللبنانيون إلى هذه الحقيقة على أنها لب المقاومة والصمود، وينظر البعض في لبنان إلى السلام الآتي على أنه شر لا مفر منه، بعضهم يتخوف على دور لبنان الاقتصادي والعربي والعالمي وبعضهم يرى أن هناك العديد من عناصر الدور اللبناني لا تستطيع دولة أخرى أن تأخذها منه، ومتى ما استقر السلام فان لبنان مرشح إلى أن يعود لدور أفضل على الإطلاق من أي دور لعبه في الماضي. تجربة بعض الدول العربية - حتى في السلام مع إسرائيل - لا تشجع الكثيرين على توقع نمو اقتصادي خارق للعادة أو حتى معقول. فالدول العربية التي وقعت السلام لم تستفد - حتى اللحظة - بأداء دور اقتصادي عالمي، ولن يكون لبنان استثناء من ذلك إنما يراهن البعض على أن ديناميكية اللبنانيين أنفسهم وموقع بلادهم وطبيعتها قد تجعل من لبنان- إن صح العزم- أفضل مكان اقتصادي يستفيد من السلام. إلا أن النقاش دائر بين الموافق والمعارض والمنتظر.

وتبقى قضيتان هما: التطبيع والتوطين، والأولى أكثر سخونة من الثانية. وهناك تيار واسع لأسباب متعددة يرفض التطبيع مع إسرائيل، أما التوطين فإنه هاجس الدوائر المسئولة ولكنه ليس مطروحا للنقاش بنفس الدرجة من الحدة على الساحتين الفكرية والإعلامية.

دروس العرب من تجربة لبنان

في لقاء تأخر طويلا مع الكاتب والمفكر اللبناني معن بشور دار الحديث حول تجربة لبنان والدروس العربية فيها قال لي: "لقد عدت توا من زيارة قصيرة إلى الرياض لحضور مهرجان الجنادرية الثقافي السنوي، وقد كانت هذه زيارتي الأولى. يضيف معن: إنني على قناعة الآن أن أفضل أنواع التغيير هو التغيير البطيء لأنه ثابت ومستقر، لقد نادينا نحن المصلحين بل كل "الثوريين" العرب بالتغيير السريع في الخمسينيات والستينيات فلم نحصد سوى الريح. ولقد كانت نتائج الحرب الأهلية اللبنانية خير دليل يؤكد أهمية التغيير البطيء والمركب.

وعندما نعود لنستخلص دروسا عربية من المأساة اللبنانية فإننا نجد أن لبنان لم يكن أكثر من مختبر لإنتاج جراثيم التمزق الطائفي والمذهبي ولتصديرها إلى الجسم العربي، لم يكن هذا الجسم في بعض أجزائه محصنا فانفلت شيطان (الحرب الأهلية) البشع في أنحاء متعددة من هذا الجسم، بأسماء وشعارات مختلفة ولكن بنفس الآلية، وبنفس الأسباب. وأن كان ثمة دروس نستقيها من تجربة لبنان الدامية فهي سبعة:

الأول: احترام التنوع وحق الآخر في القول والتعبير في إطار الواحد، فالتنوع موجود في كل بلادنا العربية ويمكن أن يكون مصدر إثراء وانفتاح حضاري أن تمت صياغته بشكل ديمقراطي سليم لأن تجاهل هذا التنوع ومحاولة إلغائه أو القفز عليه يقود حتما إلى حرب أهلية تبدأ كلامية ثم تنتهي بالسلاح.

الثاني: موازنة العلاقات بين الداخل والخارج. لقد كشفت الحرب الأهلية خطأ تصور الأوضاع اللبنانية بعيدا عن محيطها وخروجا عن علاقات التفاعل الاقليمي. إن تغييب العامل الخارجي مثله مثل إهمال الداخل خطأ فادح ينطوي على مخاطر جمة. فلا عداء ولا تبعية للخارج مع إقامة علاقات متوازنة مع دول الجوار.

الثالث: لقد أظهرت تجربة لبنان بشكل قطعي وواضح أن لا رابح في الحرب الأهلية، فكل الأطراف خاسرة والخاسر الأكبر هو الوطن. بل أظهرت الحرب أنها تبدأ بصراع بين متناقضين وتنتهي بصراع أكثر شراسة بين متنافسين من الجماعة الواحدة، فهي تلتهم نفسها بنفسها.

الرابع: لا يوجد شيء اسمه حسم عسكري في معالجة الحروب الداخلية فالحسم وإن تم فهو مؤقت لأنه يبذر في التربة الوطنية بذور حرب أخرى.

الخامس: لقد أظهرت الحرب اللبنانية أن الحروب الأصلية هي صراع على الهوية، وكشفت بعمق أن الحروب الأهلية تبدأ في ميادين الثقافة والتربية والإعلام قبل أن تبدأ في الميدان العسكري. أن المتاريس الثقافية والتربوية والإعلامية توضع قبل المتاريس العسكرية، وثقافة الفتنة تولد قبل أن تولد الفتنة ذاتها. فالرؤية الأحادية للهوية كثيرا ما تنطلق من جهل لتقود إلى جهل أشنع.

السادس: الحروب الأهلية تولد آلياتها، فقد توقع الجميع أن تنتهي حرب لبنان الأهلية بعد عام أو عامين ولكنها امتدت إلى سبعة عشر عاما وأصبح استمرار هذه الحرب مع الوقت هو الثابت الوحيد، فإشعال حرب أهلية قد يكون سهلا نسبيا أما وقفها فإنه شبه مستحيل.

السابع: الدولة القطرية العربية تحتاج إلى تعزيز واحترام من داخلها ومن خارجها، فالتوازن بين الدولة والمجتمع المدني يعزز آليات الدولة والتوازن في العلاقات مع الجوار يعزز التعاون دون تعال أو أطماع.

تلك هي دروس الحرب اللبنانية.. وما علينا حتى نستفيد منها في أقطارنا العربية إلا المرور على لبنان، قبل أن تندمل جراح هذه الحرب. لعل هذا الجرح الذي نزف طويلا يفيدنا في تطبيب عشرات الجروح العربية التي تقرحت.

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات