القلب غدة صمّاء.. أيضاً !

القلب غدة صمّاء.. أيضاً !

يعمل القلب ليس فقط كمضخة دموية رائعة، تزود جميع أنحاء الجسم وأعضائه بالأوكسجين وباقي المغذيات الضرورية الأخرى، وإنما يعمل أيضاً كغدة صماء تفرز هرموناً يدعى عامل الهرمون الأذيني الطارح للصوديوم "Atrial Natriuretic Factor"، ويرمز له باختصار بـ "A N F"، ولهذا الهرمون أهمية كبرى لجهاز القلب والدوران في الجسم البشري بصورة عامة.

ولا يزال هرمون القلب وآليته ووظيفته من الأمور الغامضة بعض الشيء، لحداثة اكتشافه، برغم التطور المذهل لعلوم أمراض القلب في السنوات العشر الأخيرة، ومازالت التساؤلات والأبحاث تدور حوله لمعرفة المزيد من أسراره، وهكذا تتجلى عظمة الله تعالى في خلقه سورة الذاريات آية 21وفي أنفسكم أفلا تبصرون.

إن القلب هو المعجزة الإلهية في صدر الإنسان وسر بقائه في الحياة، فهو يضخ ويعمل بصمت وعظمة، ويدافع عن نفسه بهدوء وأناة قدر المستطاع، عن طريق آليات عديدة، أحدثها اكتشافاً إفراز هذا الهرمون الحيوي "A N F" خاصة عند الارتفاع الحاد للضغط الشرياني داخل الأذين، أو نتيجة أي خلل طارىء في القلب قد يؤدي إلى ضعفه أو وهنه، فمم يتكون هذا الهرمون وكيف يعمل في مواجهة لحظات الضعف الحادة والحرجة لتلك المضخة، التي تعمل دون كلل أو ملل، وأمام لحظات الضعف هذه يحاول هرمون القلب إعادة اتزان وتوزيع آلية عمل القلب والأوعية من جديد حتى تستمر حياة الإنسان بصورة أفضل، إنه سورة النمل آية 88صنع الله الذي أتقن كل شيء.

غدة نابضة

لقد كانت بداية انطلاق التفكير نحو وجود مثل هذا الهرمون القلبي عام 1956 بواسطة العالم كيش، حيث قام بدراسة قلب الخنزير الهندي بالمجهر الإلكتروني، وشاهد جسيمات صغيرة الأبعاد في الأذينين ولم يشاهدها في البطينين، ثم تأخرت الدراسة عدة سنوات إلى أن جاء العالمان "جاميسون" وزميله "بالاد" عام 1964، وقاما بالوصف التحليلي لهذه الجسيمات الصغيرة، وقررا بأن الخلية القلبية للأذين لها المقدرة على تشكيل وخزن مجموعة من الحبيبات ذات وظيفة إفرازية. وانتظر العالم أجمع حتى جاء عام 1979 وهو العام الحقيقي للقول بأن أذين القلب يقوم بعمل الغدة الصماء، وإن خلايا عضلة القلب الأذينية لها المقدرة على إفراز هرموني ذاتي، حيث أثبت العالم دي بولد وغيره من العلماء في هذا المجال أن هذا الهرمون يقوم بطرح الصوديوم وإدرار البول، وبالتالي يؤدي إلى توازن الماء والشوارد في الجسم.

وفي مؤتمر علم الحياة وأمراض القلب والأوعية الذي أنعقد في مدينة فيتل عام 1987 تحدث البروفيسور كوانتين من مونتريال عن أهمية وظيفة القلب كغدة صماء تفرز هرموناً يدعى A N F وأكد على وظيفته الموسعة للأوعية الدموية والمثبطة لإفراز الألدوسترون والكورتيزول ودعم بذلك أبحاث العالم دي بولد الذي سبقه في هذا المجال. وهرمون القلب عبارة عن ببتيد متعدد "POLYPEPTIDE" مؤلف من 26 حمضاً أمينياً ويتشكل بصورة رئيسية في منطقة الأذينين. يتحرر هذا الببتيد في الدم استجابة لانتفاخ خلايا القلب في الأذينين، لينقل بواسطة الدم نحو الأعضاء المعنية التي تملك أجهزة استقبال خاصة لهذا الهرمون "RECEPTORS". وتنبيه أجهزة الاستقبال هذه يزيد من نشاط أنزيم الجوانيليت الحلقي "GUANYLATE - CYCLASE"وهذا يؤدي إلى تشكيل حلقة "GMP" داخل الخلية التي هي الرسول الثاني لهرمون القلب "A N F".

تنظيم الضغط

يملك هرمون القلب عدة صفات يمكن أن تكون نافعة جداً، ولقد توضحت وثبتت هذه المميزات في التجارب التي أجريت على الحيوان والإنسان. ويعتبر هذا الهرمون طارحاً للصوديوم ومدراً للبول، ولكنه لا يؤثر على إطراح الصوديوم وتوازنه وإدرار البول عند الإنسان السليم بالرغم من حقنه به لساعات طويلة، حيث لوحظ تجريبياً نقص أو زوال تأثيره الطارح للصوديوم، وهذا يثبت للذهن بقوة أن ظهور هرمون القلب وطرحه للصوديوم يكون متلازماً ومتعلقاً بضغط الشريان الكلوي. ولهرمون القلب صفات موسعة للأوعية الدموية بصورة مباشرة، كما يستطيع أن يقلل حساسية الأوعية الدموية للأنجيوتنسين 2 الذي يسبب ارتفاع الضغط الشرياني. كما يعاكس هرمون القلب عملية إفراز الرينين والألدوسترون وبالتالي يساعد على خفض الضغط الشرياني المرتفع، ومازلنا نعرف القليل عن آلية انخفاض إفراز الرينين بواسطة هرمون القلب. بينما يحدث انخفاض الألدوسترون نتيجة لتأثير الـ "A N F" المباشر على صنعه وكذلك نتيجة انخفاض إنتاج الرينين والأنجيوتنسين.

ويرفع هرمون القلب من مستوى الهيماتوكريت عندالشخص السليم. يظهر هذا التأثير مبكراً ولا يعكس حجم البلازما المرتبط بطرح ماء الصوديوم من الكليتين.

ونحن نعلم اليوم أن تأثير الـ A N F على الهيماتوكريت يكون نتيجة نقص حجم البلازما كنتيجة ثانوية لإعادة توزيع السائل داخل الأوعية الدموية باتجاه القسم خارج الأوعية وهذا من الممكن أن يحدث نتيجة لتأثيره على زيادة معدل النفوذية الشعيرية.

ويخفض الـ A N F الضغط الشرياني عن طريق تقليله للمقاومة المحيطة بواسطة تأثيره المباشر على ارتخاء العضلات الملساء للأوعية، وكذلك بواسطة تثبيط نشاط الرينين والألدسترون. وهكذا فإن لهرمون القلب تأثيراً معاكساً لانقباض الأوعية الدموية.

الدواء المنتظر

يزداد إفراز هذا الهرمون بصورة عامة في حالة قصور القلب الاحتقاني "CONGESTIVE HEART FALLURE" وبصرف النظر عن سبب هذا القصور يكون هذا الازدياد عند بعض المرضى مرتفعا جدا، وقد يصل إلى عشرة أضعاف الحالة الطبيعية وربما أكثر. وهنالك علاقة إيجابية بين معدل الهرمون في الدم والضغوط السائدة في الأذينين.

ومن هنا يمكن البرهان من الفرضية القائلة بأن التنبيه العالي لإفراز هذا الببتيد يكون نتيجة ارتفاع الضغط داخل الأذينين.

وعند مرضى قصور القلب الاحتقاني أو خاصة عندما يكون سبب القصور ضيقا في الصمام التاجي فان ضغط الأذين الأيمن هو الذي يتحكم في تركيز الـ A N F المرتفع في البلازما.

وعند المرضى الآخرين المصابين بآفات صمامية من النصف الأيسر للقلب مثل قصور الصمام التاجي "MITRAL INSUFFICIENCY" أو قصور الصمام التاجي أو الأبهري "MITRAL DISEASE OR AORTIC" فإن ضغط الأذين الأيسر هو المسئول عن التحكم في تركيز الـ A N F المرتفع في البلازما.

أما ضعف القلب نتيجة نقص التروية الإكليلية الذي يسبب الذبحة الصدرية فهنالك علاقة محدودة إيجابية بين ضغط وامتلاء البطين الأيسر للقلب وتركيز الـ A N F في البلازما.

وعملياً، إن معدلات الـ A N F في الدم من الممكن قياسها كمؤشر دال على درجة ضعف القلب.

من هنا فإن معظم الدراسات الحديثة تظهر بوجه عام أن حقن هرمون القلب "A N F" عند أصحاب قصور القلب لها تأثيرات علاجية نافعة، من خلال تأثيراتها على زيادة طرح الصوديوم، وتقليل ضغوط التعبئة لحجيرات القلب، وفي الإقلال من مقاومة الأوعية الدموية المحيطية.

ومازالت الدراسات قائمة لمعرفة المزيد عن أسرار هذا الهرمون حديث العهد، ولمعرفة طرق المحافظة عليه أو استخراجه تجارياً.

ومازالت التجارب تجرى حاليا على قدم وساق لدراسة الدواء المناسب والمسمى علمياً بمثبط تخرب عامل القلب الأذيني الطارح للصوديوم وكمثال لهذا الدواء واسمه التجاري "SIMOPHRAN" وهو ما يقوم العالم دوبك من باريس بتجربته على قصور القلب الحاد، ونتائج الدراسات الأولى لهذا الدواء حسنة ومبشرة جداً. والتفاؤل موجود والأمل كبير في أن تشهد نهاية القرن العشرين القفزة المنتظرة في إيجاد هذا العلاج بشكل إيجابي وتجاري موسع ورخيص، لتخفيض آلام مرضى القلب وإعطاء البسمة لهم، وتحقيق أحلام الباحثين الذين يعملون في الظل لإسعاد البشرية جمعاء.

 

مصطفى ماهر عطري

 
  




يوما بعد يوم يكشف القلب عن بعض أسراره





جهود ضخمة لكشف أسرار القلب لكن الفوائد أكبر





انه ليس مجرد مضخة فهو هبة من الله في اجسادنا