معركة الأقنعة فهمي جدعان

معركة الأقنعة

إنه لمن الغفلة بمكان أن نزعم أن النفاق في حياتنا هو اليوم أكثر أو أقل مما كان عليه الحال في العصور التي خلت. ولكن الظاهرة تفاقمت في جملة قطاعات حياتنا بحيث أصبحنا نقبل دون دهشة أو استغراب جميع أنواع النفاق التي نشهدها

أريد بهذا القول الذي لا أبتدع فيه شيئا من العدم أن أتابع ما وطنت نفسي عليه منذ عهد من بذل الوسع في كشف الغطاء عن بعض وجوه أفعالنا التي لم يعد واقع الأحوال يأذن بإغماض العين عنها أو بالمرور عليها مر الكرام. وذلك مرافقة لما استقر عندي من الاعتقاد بأن المسألة لا تكمن في العقل وحده، وإنما في الفعل من قبل ومن بعد، ولما يترتب على ذلك من أمر توجيه النظر النقدي المحلل إلى هذه الوجوه التي تعبث بوجودنا كله وتحوله في وجود "زائف" يتعذر بناء عالم حقيقي فعلي عليه، عالم جدير بالثقة وبالرجاء، قادر على أداء مهمات صعبة وأفعال ذات جدوى في كون يحمل كل علامات الخطر.

والصورة الشاخصة التي سأقف أمامها هنا وجها لوجه ليست صورة جديدة وإنما هي صورة قديمة تمتد جذورها في ثقافتنا العربية إلى مبدأ الوحي الإسلامي نفسه، وإلى ما قبله أيضا بكل تأكيد. وقد عبر اللفظ الإسلامي عن هذه الصورة بمصطلح "النفاق"، وأشارت إليها اللغة الخالصة بكلمة تقرب من ذلك المصطلح هي "الرياء". وقد زعم اللغويون أن هذا المصطلح، "النفاق"، "اسم إسلامي لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به" - أي بمعنى الذي يستر كفوه ويظهر إيمانه، أو بمعنى القوم الذين يبطنون غير ما يظهرون - وأن الأصل كان من "نافقاء اليربوع" إذ يدخل اليربوع في النفق أو السرب من باب ليستتر، ثم يخرج من باب آخر. وقياسا على ذلك عرفوا النفاق بأنه "الدخول في الإسلام من وجه والخروج عنه من وجه آخر" (السيوطي) وأيا ما كان أصل اللفظ فإن مفهومه اتسع ليقال على كل من يظهر غير ما يضمر. وعلى ذلك يكون "المنافقون" الذين خصهـم القرآن بسورة كاملة ووصفهم بأنهم "كاذبون" هم أبرز المنافقين القدامى ويشبههم في ذلك كل" المرائين" القائلين بـ "التقية الاجتماعية" أو غيرها، وكذلك جميع الذين في كل العصور، يخفون ذواتهم الحقيقية ويصطنعون أفكارا وآراء ومشاعر وعواطف وفضائل لا يؤمنون بها أو لا يمثلونها أو لا يتحلون بها: وكذلك، وبوجه خاص في عصور "الملك" الكلاسيكية العربية، أولئك الذين جعلوا من "التملق" لأولي الأمر وللخلفاء والسلاطين سبيلهم إلى إدراك أغراضهم الخاصة وتحقيق منافعهم القريبة بأقل جهد وأقل ثمن بوجوه متباينة ودرجات متفاوتة قارب بعضها حدود العبث والجنون واختراق أصول العدل والخير والرحمة، على مثال عامل هشام بن عبدالملك الذي كان يتقرب إليه بتوجيه أصحابه إلى ماشية أهل المصر "فيبقرونها على السخال يطلبون الفراء لأمير المؤمنين فيقتلون ألف شاة في جلد" أو يسومونهم "أن يأخذوا كل جميلة" من بناتهم- مما لا يوجد في كتاب ولا سنة - يبعثونها إليه (تاريخ الطبري) والأمثلة التي يقدمها شعراء البلاط وغيرهم في كل العصور لا عد لها ولا حصر، وأثرها في نشر ثقافة الرياء والملق حتى أيامنا هذه لا يجهله إلا من لا يعرف قراءة النصوص أو لا يتبين شيئا من طبيعة النسيج الذي يقيم أشكال حياتنا اليومية.

قناع القيم

في قطاع الحياة الأخلاقية يحرص كل الذين حولنا على أن يظهروا في أهاب من يتمثل القيم على النحو الأكمل، فليس ثمة من يبخس نفسه من حظه التام من الفضيلة والاستقامة والنزاهة والصدق والإخلاص والوفاء، لكن الذين يعرفون الحقيقة يدركون بالخبرة أن وأقع الأمر ليس على ذلك النحو دوما، وأن جملة هذه القيم المزعومة ليست إلا قناعا قد وضبع لأغراض لا يتعذر التعرف عليها.

والأمر نفسه ظاهر في حقل القيم الاجتماعية، وبخاصة في نسيج الروابط الاجتماعية وعلاقات الحب والصداقة، والرؤساء والمرءوسين، وأصحاب النفوذ ومريديهم، فمان الجميع يحرصون على تشكيل "صورة علائقية فردية اجتماعية" تحظى بالرضى والقبول، لا يند عن ذلك إلا "المغامرون" أو "الغاضبون" أو "الهامشيون" أو "الخارجون" على المجتمع، وليسوا هم الأكثرية في الغالب الأعم.

وفي دائرة الحياة الروحية تكثر الأمثلة التي تضرب لأولئك الذين يتلبسون لباس " التدين " والتقى والورع والإيمان وهم في حياتهم المستترة غارقون في شتى أنماط الاستغلال وفي المعاصي والكبائر.

وفي الحياة الثقافية قل أن يبحث مثقفو زماننا عن الحقيقة لذاتها بالتعلم الحقيقي والنظر النزيه والاستقصاء العلمي الجاد، وما يكتبونه في التقريظ العابث لتوافه أقلام الوجوه والأعيان أو للمخرجات الأخيرة للأرواح الجافة أمر يثير ما هو أكثر من العجب العجاب. وهاجسهم المتأصل نشدان الإثارة أو التكريم أو الإعجاب أو تزكية ذوي الحظوة لهم "للوصول" وقطع المراحل، أو إرضاء نزعات الرغبة وبكلمة: "لغاية في نفسر يعقوب". وأكثر المفكرين والمثقفين تعلقا بقيم الحق والنزاهة يتراجعون عن هذه القيم حين "يمثلون" أمام المجتمع، ويعدلون من وجهة مراكبهم كي تسير في اتجاه الريح. وقد طالت الآفة أكبر " العلماء " والأكاديميين، إذ عدلوا عن طلب الحق الذي يصيبهم برذاذ الأذى، وفضح الرياء تواضعهم ووقارهم الكاذبين، وتحدثت الركبان بغريب أحكامهم وأعمالهم إذ تظهر في إهاب الحق والعدل والعقل بينما هي تخفي الهوى والاعوجاج والرغبات الجائرة. وشيوخ العلم المتباغضون يلاقون أنفسهم بحب وود تلهج بهما النوادي ويتحدث بها الداني والقاصي.

قناع الحكم

أما في حمأة السياسة وكدرها فالملق- أي " أن تعطي باللسان ما ليس في القلب " (الفيروز ابادي: القاموس المحيط)- هر سيد الأحكام، يستوي في ذلك طرفا الملق والتلطف والتودد الكاذبين: رجل الدولة الذي يوهم شعبه أنه يعمل لخيرهم بينما هو يعمل لخيره الخاص، ويخطط فيهم بظاهر أشياء يعمل في الخفاء بنقائضها، ويريهم حلاوة في القول والقصد وهو يتوعدهم في الباطن بشر مستطير إن هم عدلوا عن محجته، ويتبجح بقيم العدالة والديمقراطية والحرية والرفاهية بينما هو الخصم العنيد الثابت لكل هذه القيم والمجسد العميق لقيم الظلم والاستبداد واستغلال الرعية ومحق روحها. وأهل الملق من سياسيين ومثقفين وعلماء مزيفين وصحفيين وكتاب وطامحين وطامعين وانتهازيين ووصوليين، تنطق أفواههم بما لا يصدقون منه كلمة واحدة وتلهج ألسنتهم بالثناء والتمجيد لسلاطين يقرون في دخائل أنفسهم وعند من يثقون بهم أنهما أسوأ أهل الخليقة طرا. وههنا، في هذه الحمأة التي شكلتها قرون الاستبداد وقيم ما قبل الحداثة، نعثر على أقصى أحوال الزيف والكذب والخداع.

لكن ما الذي يستدعي هذا "الملق" الذي يعصف اليوم بكل قواعد النزاهة والصدق والوجود النقي؟ وما هي طبيعة المعركة التي تنتظرن من أجل تحرير البنى الفردية والاجتماعية من هذه " الأقنعة " التي تنتصب أمامنا عدوا صريحا يمكن أن يدمرنا إن لم ندمره؟

إن التعليل القوي الذي يمكن أن يمثل أمامنا هو أن باعث "التملق" أو "النفاق" أو "الرياء" ليس إلا الخوف، الذي هو جماع العلاقة غير المتكافئة بين السيد والعبد، أو بين السلطة التي تطلب الطاعة وبين الفرد الذي يطلب إليه أن يطيع، أو بين نظام الاستبداد وبين الخاضعين لهذا النظام. ويتعلق بهذا الباعث اختلال العلاقات السياسية بين القوى الاجتماعية داخل المجتمع أو خارجه اختلالا يفرض على بعض هذه القوى " تملق " قوى أخرف دفعا لأخطار محددة تثير الخوف، مثلما حدث في السنوات الأخيرة من تملق بعض القوى " القومية " للحركات والقوى الإسلامية لتجاوز مخاطر المرحلة الداعية إلى الخوف. ويمكن سوق أمثلة أخرى لباعث الخوف هذا الذي يمكن أن يعلل التوسل بالنفاق والتملق. لكن الحقيقة أن هذا التعليل لا يمكن أن يفسر كل شيء. وإن كان التفسير الأقوى حين نكون على أرض الدولة والسياسة، وبخاصة الدولة الاستبدادية أو القهرية. فليس ثمة شك في أن نظام الاستبداد المنافي للعدالة والحرية والكرامة الإنسانية لا يمكن أن يولد، إلا عبيدا تحيك أحوال الرهبة والخوف في نفوسهم نسيج النفاق والكذب والزيف. غير أن السؤال الذي يثور هو التالي: لم يخاف المتملق وعلام يخاف؟ إذ الخوف هنا ليس هو نهاية التحليل والتعليل. لا بد أن ثمة شيئا آخر وراء هذه الحالة. ثم إنه إذا كان هذا التعليل يصدق في أفق السياسة الاستبدادية فكيف يمكن قبوله إذا ما تعلق الأمر بالنفاق الديني والاجتماعي أو الأخلاقي، حيث لا يحتل الخوف تلك المكانة التي له في الأفق السياسي ؟ فالتقى المزيف ليس هو الذي "يخاف" وإنما هو على العكس من ذلك تماما الذي "يخاف".... والمثقف المنافق المزيف ليس ملزما بممارسة الفضيلة وإظهارها في مجتمع لا يعرضه للعقوبة إن هو خرج عليها صراحة. ومن البين تماما أن كثيرا من الفضلاء وفاعلي الخير لا يقدمون على ذلك إلا لعلة من طبيعة مغايرة فلا بد إذن أن تكون العلة في مكان آخر تماما.

قناع الوجود

والحقيقة الأساسية التي ينبغي أن نتنبه لها هي أن المنافق أو المرائي أو المتملق إنسان يضع "قناعا"، وهذا القناع يخفي "وجودا" من جهة ويبدي "مظهرا" من جهة أخرى. إنه يخفي الوجود الحقيقي لصاحبه، وهو يخفيه لسبب بسيط هو أنه وجود "غير مفيد" أو "غير مجد " أو " ضار" أو " غير مرغوب فيه"، "وبكلمة "عديم الفائدة والجدوى ". وهو يبدي من وجه آخر وجودا آخر يمكن أن يكون مفيدا مجديا مفضيا إلى "امتلاك " شيء لا يفضي إليه الوجود الحقيقي وجالبا لمنفعة يتعذر على الوجود الحقيقي جلبها. لا شك أن الوجود الحقيقي، وخاصة لدى " أعيان " الأفراد والمتميزين منهم، يمكن أن يكون وجودا "ممتلئا" غنيا، خلاقا، مبدأ لأفعال جليلة... بيد أنه في نوع محدد أو أنواع محددة من النظم الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية يصبح غير ذي بال، عاطلا عن " الإنتاج"، عاجزا عن تحقيق " الرغبات " الصريحة أو الخفية لصاحبه، وهي رغبات لا يمكن أن تتحقق إلا إذا ما أذنت لما " السلطات " الخارجية بذلك: الدولة، المجتمع، الأيديولوجيا السائدة، المؤسسات القائمة،... وغير ذلك. فلا يتبقى من سبيل لتحقيق هذه المنافع أو الرغبات إلا اختيار ما يمكن أن نسميه ب " الأنا الظاهري " للآليات التي ترضي تلك السلطات وينجم عنها منفعة أو "تملك".

وهكذا نستطيع أن نزعم أن الذين يرتدون أقنعة النفاق الثقافية إنما ينشدون الاستحواذ على إعجاب الأفراد أو قبول المجتمع أو رضى الدولة أملا في ممارسة سلطة، أو إدراك منفعة أو تحميل فائدة. وهذا لا يمنع بطبيعة الحال من الإقرار بأن ثمة مثقفين يضعون القناع "تقية" وصرنا لأنفسهم وفي ذلك منفعة مشروعة بكل تأكيد.

وكذلك نستطيع أن نزعم أن التقي المزيف الذي يخفي حقيقته ويتظاهر بالتقى والورع لا يهدف إلا إلى غاية محددة هي الاستحواذ على ثقة المؤمنين لممارسة السلطة عليهم والاستئثار بخيرات لديهم وتحصيل منافع دنيوية منهم.

وأيضا لا نحتاج إلى عناء كبير من أجل أن نتحقق من أن كثيرا من أقنعة الفضيلة والتواضع والتودد والتأدب والدماثة هي أقنعة تخفي زيفا يؤدي وظيفة ذات "مردود خاص".

ومثلما هو متوقع فإن العالم السياسي هو أحفل العوالم الاجتماعية بالنفاق والخداع. وفي النصف الثاني من قرننا هذا، حيث نادت الأنظمة السياسية " الوطنية " ذات النزوع التوتاليتاري أو الاستبدادي أو الجماعي أو الديمقراطي الضعيف أو المزيف، اتسع نطاق ارتداء " الأقنعة " لدى الأنظمة والأحزاب والجماعات السياسية فضلا عن الأفراد، واتخذت بعض القضايا القومية الكبرى ذريعة لتسويغ جميع السياسات وجميع الغايات، ولن يبخل أحد على نفسه من نسبة نفسه أشد المنافحة عن مبادئ القومية والحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية والنضال من أجل دولة الوحدة والتحرر والتقدم. لكن الوقائع جميعا أثبتت بالتجربة القاطعة في أي مدى كان كثير من أولئك منا أصحاب " الأقنعة " لا أكثر ولا أقل. إن الأمثلة الكثيرة التي تضرب واحدا تلو الآخر لا تعزز إلا فكرة واحدة هي أن "الوجود الأصلي" قد تم "حفظه" ومصادرته، وأن الوجود " الظاهر" هو الذي يشكل التحققات الشخصانية الفعلية. وبتعبير آخر: لقد تم قمع "الأنا الحقيقي" وكبت قواه الغنية، وتم ترويض "الأنا الظاهر" وتحديد وظيفته في التملك وفي آليات حفظ البقاء. الأنا الحقيقي "ملجم"، والأنا الظاهر "مقنع"، فأي إنسان يرجى من هذا الحال وأي عالم يمكن تشييده عليه؟

لا محل للأوهام. ولا للأوثان. فالسبيل واضح والدرب بين ولا وجه لإفراغ الوسع في بنيات الطريق. وليس المقصود أبدا قلب الأطراف بقمع الظاهر وإطلاق الحقيقي تعسفا. لكن المقصود تحرير الأنا بكليته، حقيقيا وظاهريا. أما تحرير الأنا الحقيقي فيكون برفع الحصار عنه وإطلاق تراه الخلاقة وكف أذى جميع الأيدي التي تضيق الخناق عليه. وأما تحرير الأنا الظاهر فيكون بإسقاط جميع الأقنعة والكشف عن ظاهر وجه يتمثل الوجود الحقيقي لصاحبه ويعكس روحه. وليس يتيسر حرق الأقنعة إلا بتحرير الروابط التي تصل الفرد بالمجتمع وبالدولة، وبإعادة بناء النظم الاجتماعية والسياسية والأخلاقية على تواعد مباينة للقواعد القديمة. وليس ينبغي علينا أن نمل من تكرار الفول أن هذه القواعد تتمثل في مبادئ أصبحت ثوابت راسخة: الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية والمواطنة والمشاركة ونشدان الخير العام والرفاهية. ومرة أخرى لا محل للأوهام. فليس المقصود التوسل بأدوات مثالية مصطنعة، ثورية كانت أم غير ثورية، وإنما المقصود تنبيه كل أحد في أن عالم الحداثة لن يسمم بمجاراته إلا لأولئك الذين يستطيعون أن يكونوا أندادا له جديرين به وهو لن يفسح أي مكان حقيقي فيه بعد اليوم لأية أمة أو شعب تقوم فيه الأدوار على علاقة السيد بالعبدأو المستبد بالمستعبدأو القوي بالمستكين، أو الآمن بالخائف. وهو إذا سمح فمن أجل أن أسر سبل دماره وهلاكه. ومعنى ذلك أن أيا من المجتمعات العربية التي يستشري فيها النفاق ويهددها بالزيف وفقدان الروح الحقيقي الحي مدعو إلى أن يخوض في رجه أقنعة الزيف والخداع معركة لا رحمة فيها، هي سر خلاصه ومعقد رجائه، معركة سلاحها التحليل والنقد وكشف الغطاء والتعرية والضغط الأخلاقي والأدب والاجتماعي. أما الدولة فلها في هذا الشأن دور ليس كأي دور. وهذا الدور ينبغي أن يستند أشد وعي جديد بحقائق الأمور المستحدثة في العالم. إن الدولة العربية الحديثة لا تستطيع أن تستمر في الاستناد أشد مبدأ السيد والعبدفي علاقتها مع مواطنيها، كما أنها لا تستطيع أن تستمر في اعتبار القيم الدارسة في الحكم أو أن تتجاهل على الدوام الحقائق الثاوية وراء تقدم العالم الحديث وظفر الحداثة وأهلها. وكل شيء يوجب عليها أن تعيد تشكيل نفسها ما دامت لا ترضى بأن يعيد تشكليها أحد سوى ذاتها وذلك من أجل تربية مواطنين أحرار لا يعرف الزيف والخداع إليهم إلا أضيق السبل.

وإنه لأمر ثابت أن إعادة تشكيل نظام القيم لن تفضي على المدى المنظور إلى اختفاء " الأقنعة " كلية، لكنها على الأقل سترد الظاهرة أشد حالة تعتبر فيها " قيمة غير عادية " بل مقيتة.

وفي نهاية التحليل إذا كان النفاق لا يعني أكثر من سيادة الأنا الظاهر التملكي وطغيانه وتغييب الأنا الحقيقي ولجمه، فإن استراتيجية الفعل الأساسية التي ينبغي الأخذ بها تقضي باستخدام جميع الأدوات والآليات من أجل بث الروح في الأنا الحقيقي الوجودي، وتقديمه لدفع عجلة حياة الأفراد والمجتمع والدولة، بإرساء القيم التي تتيح له تحقيق هذه "الدفعة الحيوية"- إن شئنا استخدام مصطلح برغسون المشهور - التي يمكن أن تؤذن بمسار جديد أبعث للأمل والرجاء، وتلك رسالة المفكر الحقيقي، والمؤسسة المطهرة، والدولة الطيبة.

 

فهمي جدعان

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات