التنمية والتخصيص والمعوقات عامر ذياب التميمي

التنمية والتخصيص والمعوقات

إن التخصيص، يمثل وسيلة لمعالجة الاختلالات الهيكلية التي نشأت في العديد من الدول، وغيبت الكفاءة في الأداء الاقتصادي. لكن يجب أن بفهم التخصيص بكل م يمثله من مزايا ومعضلات في الأمدين القصير والطويل. ولا بد أن تعي الإدارات الاقتصادية لأهمية معالجة ما ينجم عن أعمال التخصيص، وما يتطلبه لتحقيق النجاح المناسب. ومن الأهمية بمكان توفير إطار تشريعي أو قانوني يوفر أجواء المنافسة، وحقوق العاملين.

على مدى نصف قرن ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية شهد العالم استقطابات متعددة منها السياسي والاقتصادي والفكري.. وقد تركز الصراع بين المدرستين الرأسمالية والاشتراكية بشكل أساسي، وادعت كل مدرسة جدارتها المعنوية.. وقد تبع كل مدرسة مريدون في مختلف دول العالم، سواء في الدول الصناعية أو الدول النامية.. لكن تجارب السنوات أو العقود الماضية أكدت أنه ليس هناك من جدوى للادعاء بصحة الموقف الدوغمائى، حيث إن طبيعة الحياة تتطلب المرونة الفكرية بعد أن ثبت أن تطورات على المستويات التكنولوجية والفكرية والعلمية تفرض على البشر أن يتجاوبوا مع مختلف التغيرات، وإلا أصبحوا خارج سياق الزمن أو التاريخ.. ولذلك جاءت نتائج النماذج الاقتصادية بمحصلات متباينة للبشرية، فها هي التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي السابق، وعدد آخر من الدول التي انتهجت الاشتراكية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية تؤكد أن التجربة لم تكن مثالية، و! تتحقق النتائج التي حلم بها الرواد الاشتراكيون.. كما أن النظام لم يفلح في تحقيق عدالة واقعية لتوزيع الثروة، أو يطور من قدرات المجتمعات إنتاجيا وحضاريا.

أما في الجانب الآخر فهناك أيضا مثالب لا تقل خطورة، حيث إنه بالرغم من النمو والتقدم في أعمال المؤسسات وازدهار العلم والتكنولوجيا، إلا أن عدالة التوزيع قد غابت ونمت طبقات جشعة ومستعجلة في تكوين ثرواتها دون مجهودات تذكر.. هناك، أيضا، الفقراء الذين يعانون في العديد من المجتمعات الرأسمالية المتقدمة وتضطر الدولة إلى احتضانهم وتوفير متطلبات الحياة، وبأقل ما يمكن، لهم.. وهكذا نجد البؤساء في شوارع المدن الكبرى في أغنى البلدان الرأسمالية يفترشون الأرض دون مأوى.. ففي الولايات المتحدة، تتسع الفجوات بين الغنى والفقر، ويزيد عدد من تقل دخولهم عن الحدود الدنيا، بالمقاييس الأمريكية، على 35 مليون مواطن أمريكي.. كذلك تعاني المجتمعات الرأسمالية ظاهرة البؤس بين النساء والأطفال، وتفكك النظام الأسري، خصوصا بين الطبقات الفقيرة، ولأسباب مالية واقتصادية بالدرجة الأولى.. كل هذه العوامل في ظل التطور الاقتصادي ضمن النظام الرأسمالي دفعت الدولة لتبني سياسات اجتماعية لتوفير الرعاية، وتحقيق الضمان المعيشي، وبما يتعارض مع بديهيات الفكر الرأسمالي الكلاسيكي.

أطروحات التخصيص

منذ فترة طويلة كانت أطروحات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بان الكفاءة الاقتصادية تتطلب توفير جميع عناصر السوق الحرة من حرية تملك، وتقليص دور الدولة في النشاط الاقتصادي، وتعويم سعر الصرف، وزيادة الادخار، وتفعيل دور القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي.. وأدى انهيار المنظومة الاشتراكية في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات إلى تعزيز هذه التوجهات، دون مجال للشك.. فقد ازداد عدد المهتمين بتطبيق هذه المنظومة من القيم، وحتى أولئك المؤمنون بالاشتراكية أخذت قناعاتهم بالاهتزاز، وزادت الحكومات في العديد من الدول التي أكدت قناعاتها بتحرير الاقتصاد.. وهكذا أخذت برامج التخصيص تطرح في الكثير من الدول، التي كانت قبل سنوات قليلة محكومة من أنظمة متشددة في التزامها بالاشتراكية ودور القطاع العام، والتي لم تكن تسمح للقطاع الخاص بنشاط يذكر اللهم إلا في بعض القطاعات الهامشية، والتي لا علاقة لها بالإنتاج الأساسي في المجتمع..

وفي البلدان النامية التي يعاني معظمها أزمات اقتصادية هيكلية، وتئن من وطأة الديون الخارجية، أخذت الحكومات، بعد تردد، بالقبول بوصفات التكيف الهيكلي والتي تعتمد على وصفات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمرتكزة على ما سبق ذكره من شروط تعزز آليات السوق الحرة.. ولا بد من ذكر أن سقوط الاتحاد السوفييتي وانهياره أو تفككه، وصعوبة الأوضاع المستجدة في روسيا، قد أفقد الكثير من الدول النامية إمكان الاستفادة من المساعدات الاقتصادية من هناك. ولا شك أن هذه التطورات السياسية والاقتصادية قد مكنت الولايات المتحدة والعديد من دول أوربا الغربية والمؤسسات المالية العالمية من فرض شروط للمساعدات، أهمها وصفات التكيف الهيكلي..

ولا ريب أن التخصيص، في الظروف المناسبة والمعقولة، يؤدي إلى تحسين الكفاءة وزيادة الفعالية الاقتصادية، وتقليص الفساد المالي والإداري. وقد تحققت نتائج جيدة في عدد من البلدان على مدى السنوات العشر الماضية مثل الأرجنتين وشيلي، وهناك دول أخرى ما زالت في طريق الإصلاح، ومن المبكر إصدار أحكام على تجاربها في الوقت الراهن.. لكن مقابل ذلك فإن التخصيص يواجه معضلات مهمة في أكثر من بلد.. فمثلا لا يمكن توقع تحسن الأوضاع المعيشية للسكان خلال فترة وجيزة، بل على العكس من ذلك هناك احتمالات لمواجهة صعوبات وعراقيل، وربما ترتفع معدلات التضخم، ويصبح العديد من العاملين ضمن العاطلين عن العمل بسبب إجراءات الترشيد التي تنتج من التخصيص.. في إطار التخصيص، قد تضطر الجهات المالكة الجديدة إلى أن تراجع هياكل الرواتب والأجور، التي كانت سائدة في السابق، وربما تضطر إلى تعديلها لتتناسب مع معايير التكاليف والأداء، ولذلك فقد تواجه الإدارات الجديدة العمال بضرورة تخفيض الأجور والمنافع والامتيازات.. وهذه العوامل تؤدي إلى احتكاك بين الإدارة والعمال، لكن الأهم من ذلك أنها تؤدي إلى انخفاض مستوى المعيشة لهؤلاء العاملين.

لكن ليست هذه هي المشاكل الوحيدة للتخصيص.. فهناك معضلات هيكلية قد لا تجعل التخصيص ممكنا في بلدان معينة.. بداية يجب أن تتوافر في البلاد قاعدة من أصحاب رءوس الأموال ورجال الأعمال الذين يستطيعون المساهمة في تحريك عجلة الاقتصاد الوطني ويدفعون بوتائر التنمية.. ونتيجة لتجارب الاقتصاد الموجه ونمو رأسمالية الدولة فقد اندثرت هذه الطبقة، أو أن بعضها هرب أمواله إلى الخارج للاستفادة من المزايا الموجودة في البلدان الصناعية، أو فقد البعض من هؤلاء كل ممتلكاته نتيجة لقرارات المصادرة، وأصبح خالي الوفاض.. أكثر من ذلك فإن بعض أصحاب رءوس الأموال هم في الحقيقة من البيروقراطيين الذين استغنوا من خلال مواقعهم وانتشار الفساد الإداري.. هؤلاء أيضا هربوا أموالا كثيرة إلى الخارج، ولم يحاولوا أن يوظفوا تلك الأموال في بلدانهم.. وهكذا نجد أن عملية التخصيص في العديد من البلدان تفتقر إلى الطبقة القائدة التي يمكن أن تلعب الدور الحيوي في إنضاج عملية التخصيص وقيادة التنمية.

يضاف إلى ما سبق ذكره أن التخصيص لكي يكون جذابا للفئات المالكة للأموال في هذه البلدان، أو للمستثمرين الأجانب، يجب أن يكون في الشركات والمؤسسات العامة، أو المملوكة من قبل الدولة، والتي تحقق عوائد أو أرباحا معقولة على رءوس أموال.. ونتيجة للإدارة الحكومية لهذه المؤسسات فان معايير الأداء والربحية تكاد تكون مفقودة تماما، حيث لا يهتم الموظفون المعينون من قبل الإدارات السياسية، وربما لأسباب سياسية، بماذا تحقق تلك المؤسسات.. وفي كثير من الأحيان تتضخم رواتب وأجور كبار العاملين، ويتقاضون إلى جانبها مزايا جزيله ومجزية، دون أن تكون هناك محاسبة على معدلات الأداء.. كما أن هياكل التمويل في هذه المؤسسات تعتمد على الدعم المقدم من الحكومة، في كثير من الأحيان، أو أن الحكومات توعز للمؤسسات المالية بتقديم التمويل ضمن شروط متساهلة وبمعدلات فوائد منخفضة.. ولذلك عندما تتحول هذه المؤسسات إلى القطاع الخاص تطبق معايير اقتصادية صارمة.. عندئذ يصبح من الضروري الاستغناء عن العمالة الفائضة وتقليص الرواتب والأجور والمزايا، والتوجه نحو هياكل تمويلية متوافقة مع شروط الاقتصاد الحر.. كما يمكن أن تكون هذه الشركات أو المؤسسات منتجة لسلع أو خدمات قد لا تكون لها جدوى اقتصادية، لكن الإنتاج ينجز لأسباب سياسية أو اقتصادية.. ولذلك فربما يكون الحل لهذه المؤسسات هو التصفية وليس التخصيص، حيث لا تكون هناك مبررات اقتصادية لاستمرارها.

التخصيص والقاعدة الاقتصادية

في عدد مات البلدان، خصوصا النامية، يتركز الاقتصاد حول وأحد من النشاط الاقتصادي.. فمثلا ربما يكون التركيز حول إنتاج وتصدير سلعة أولية أو مادة خام واحدة، مثل إنتاج وتصدير البترول، أو مادة زراعية مثل البن أو الشاي أو القطن، أو مواد معدنية مثل النحاس أو القصدير أو الحديد.. وتعتبر مثل هذه الدول هذه المواد الخام سلعا استراتيجية يجب أن تخضع لهيمنة الدولة، ولذلك حتى وقتنا الحاضر ما زالت العديد من هذه الدول تعتبر أن التخصيص يجب إلا يشمل هذه القطاعات... ولذلك يبقى التخصيص محصورا في قطاعات هامشية، حيث إن أغلب النشاط الاقتصادي خارج إطار النشاط الرئيسي، ما هو إلا نشاط مساعد أو خدمي.. ويجد أغلب المستثمرين أن الولوج في هذه الأنشطة غير موات اقتصاديا.. كما أن الاقتصادات التي تتسم بالتركيز على السلعة الواحدة أو الخدمات المركزة مثل السياحة قد تكون معرضة لتقلبات التطورات الاقتصادية الخارجية، مثل نمو أو تقلص الطلب أو العوامل السياسية مما يجعلها ذات مخاطر عالية..

ولا شك أن تنويع القاعدة الاقتصادية واتساعها يمنح فرصا أفضل لنجاح برامج تخصيص الملكية، ويوفر جاذبية للمستثمرين.. لكن البلدان النامية، في أغلبها، تعتمد على نشاط واحد أو عدد محدود من الأنشطة التي يعتمد عليها الاقتصاد الوطني، وتوفر له الموارد المالية، وحصيلة من إيرادات التصدير.. ولكي تصبح عملية التخصيص مجدية في مثل هذه الاقتصادات النامية فلا بد أن تصبح جميع الأنشطة محررة ومفتوحة، وأن تسمح القوانين بالتملك في المؤسسات العاملة في سائر القطاعات، وقد عمل بعض دول أمريكا اللاتينية في السنوات الأخيرة على اتخاذ إجراءات في هذا الاتجاه، مما شجع العديد من الشركات الوطنية والأجنبية على الاستثمار في مختلف القطاعات ضمن برامج التخصيص.. وقد شمل التخصيص في هذه البلدان قطاعات عديدة منها النفط، والخدمات مثل قطاع الاتصالات والكهرباء، وأحيانا الطرق.. كذلك تم جعل قطاع البنوك والنشاط المالي مجالا يمكن الاستثمار فيه من قبل رجال الأعمال والمؤسسات الأجنبية.

وقد تواجه هذه التوجهات معارضات سياسية في بلد أو أكثر، وهذا يعتمد على التراث السياسي والفكري في هذه البلدان، إلا أن تعطيل إنجاز الإصلاح، وتهيئة الظروف لتنفيذ أعمال التخصيص، لن يتأتى منه سوى استمرار الأوضاع الاقتصادية المتخلفة. لكن هناك أهمية لتعزيز دور القطاع الخاص من خلال اقتصاد متكامل لا يعتمد على قطاع اقتصادي واحد، ويفتقر إلى إمكانات التنويع.. أن ديمومة الحيوية في أي اقتصاد تعتمد على وجود قطاعات اقتصادية عديدة يكمل بعضها بعضا، وتستطيع أن توفر فرصة عمل وإمكانات لتحصيل موارد مالية من الداخل والخارج بحيث تساهم في استقرار النظام الاقتصادي..

ونجد أن البلدان التي تعتمد على نشاط اقتصادي رئيسي، مثل البلدان المنتجة للنفط، والتي أدت تجاربها الاقتصادية إلى زيادة مساهمة الدولة في النشاط الاقتصادي بعد تأميم ملكية الشركات النفطية الأجنبية، هذه البلدان تواجه صعوبات كبيرة في عمليات التخصيص.. فكما هو معلوم أن النشاطات الاقتصادية الأخرى تبدو هامشية أو ليست ذات أهمية، كما أن الأموال التي توفرت لدى الحكومات جعلتها تتحكم في جميع مسارات الاقتصاد، حتى أصبح القطاع الخاص فيها تابعا للنشاط الحكومي ومتوددا للعطف الحكومي.. وقد تبرز هذه الظاهرة في بلدان نفطية أكثر من أخرى، حسب تطور التجربة أو مدى هيمنة الدولة على الأنشطة الاقتصادية، بيد أن الأنفاق الحكومي يظل في مختلف هذه البلدان هو المحرك المحوري لجميع الأنشطة.

وعندما تطرح أفكار التخصيص في مثل هذه البلدان فان البعض يقترح أن يشمل التخصيص قطاع النفط، حتى يتمكن القطاع الخاص من لعب دور حيوي وفعال في النشاط الاقتصادي.. لكن الأنظمة السياسية لا تحبذ أي دور للقطاع الخاص في هذا القطاع لأن ذلك يفقد البيروقراطية القدرة على التحكم في المصالح العامة، وربما يضعف من موقفها السياسي.. كذلك هناك سياسيون يعتقدون أن الثروة الطبيعية في البلاد يجب أن تظل ضمن الملكية العامة أو لا يعبث بها من قبل المصالح الخاصة سواء كانت محلية أو أجنبية.. وتظل هناك إمكانات للانفتاح على القطاع الخاص والسماح له بالاستثمار في القطاع النفطي أو أي قطاع رئيسي آخر، إذا شعرت الحكومات بأن إمكاناتها أو قدراتها لتحسين النتائج أو زيادة الإنتاج أصبحت محدودة، وبات من المحتم البحث عن أموال لتحديث عمليات الإنتاج أو زيادة ذلك الإنتاج ولن يتحقق ذلك دون دعوة القطاع الخاص لتوظيف أمواله في هذا القطاع.

حرية تداول الأصول

ليس بالإمكان الادعاء بتوفير حرية اقتصادية في بلد معين دون أن تكون هناك سوق حرة لتداول الأصول.. وقد تطورت هذه السوق إلى مستوى أسواق الأوراق المالية بشتى ا أنواعها.. ولذلك فان تداول أسهم الملكية في هذه الأسواق يمنح المستثمر الأمان، ويمكنه من القدرة على تسييل الأصول في الوقت الذي يراه مناسبا، وخصوصا عندما يتيقن بأنه يستطيع أن يجني ربحا رأسماليا جيدا من استثماراته.. إذن فان توافر هذه السوق يعزز من فرصة نجاح برامج التخصيص.. وقد سعت العديد من الدول النامية، والدول الاشتراكية السابقة في أوربا الشرقية، أو حتى روسيا إلى تأسيس أسواق لتداول الأصول أو أسواق مالية تدرج فيها أسهم حقوق الملكية في الشركات التي يتم تخصيصها.. ويعتبر وجود السوق المالية، وفرص التداول فيها من أهم المحفزات لعملية التخصيص. كما أنه حتى لو تم امتلاك جميع حقوق القطاع العام من فرد واحد أو مؤسسة واحدة في أية شركة أو مؤسسة، فان المالك الجديد لا بد أن يسعى لتحويل الأسهم إلى أموال سائلة بعد حين وهذا لن يتحقق دون وجود إمكان طرح هذه المساهمة في سوق مالية يتم خلالها التداول الحر للأصول.

وقد يكون فقدان العد يدمن البلدان العربية للأسواق المالية، آو عدم تطور الأسواق القائمة من أهم معوقات الاستثمار الخاص في هذه البلدان.. منذ أواسط السبعينيات سعى الكثير من الدول العربية المخ جذب الأموال من الخارج، سواء كانت هذه الأموال عربية أو أجنبية، لكن التجاوب من القطاع الخاص كان محدودا، ذلك أن معظم الأموال التي انتقلت إلى هذه البلدان العربية كانت أموالا عامة من الحكومات التي تكونت لديها فوائض مالية نتيجة لارتفاع أسعار النفط.. لكن القطاع الخاص ظل مترددا حتى هذا اليوم في الولوج إلى هذه البلدان لتوظيف أمواله، حيث إن إمكانات التحرر من الأصول تظل صعبة لأسباب عدم توافر فرص التداول الحر للأصول..

وبالرغم من أن عددا من البلدان النامية، ومنها بلدان عربية، وفرت أسواقا مالية وسعت إلى جذب الأموال من خلال تشجيع صناديق خاصة بها، إلا أن قدرة هذه الأسواق على اللحاق بالتطورات الجارية في الأسواق المالية الدولية مازالت محدودة.. فلا يكفي توفير الأسواق بل يجب أن تتوافر فيها آليات للتداول تحقق للمستثمر القدرة على التعرف على البيانات الخاصة بكل مؤسسة مدرجة اسهمها فيها، وتمكن المستثمر من الحصول على أموال على شكل قروض يضيفها لأمواله الخاصة لشراء حقوق ملكية في الشركات المدرجة، وفي ذات الوقت يتمكن المستثمر من نقل أمواله، وبالسرعة اللازمة واليسر المناسب إلى أي مكان في العالم.

قضية الاحتكار

عندما تفكر السلطات الحكومية في تحويل الملكية من القطاع العام إلى القطاع الخاص في عدد من المؤسسات المهمة، مثل تلك التي تضطلع بالخدمات الأساسية مثل الاتصالات الهاتفية أو الكهرباء أو المياه وغيرها، فان مسألة الاحتكار الخاص تطرح بإلحاح من عدد من المهتمين.. فكما هو معلوم أن هذه الخدمات تعتبر مؤسسات عامة لا منافس لها، وهي تقدم هذه الخدمات بأسعار مدعومة وتقل في أحيان كثيرة عن التكاليف الحقيقية لهذه الخدمات.. وعندما يجري البحث في تخصيص هذه المؤسسات تطرح مسألة شكل الكيان والملكية المطلوبين. هناك من يعتقد أن تحويل الملكية إلى القطاع الخاص دون توفير ضمان للمنافسة سوف يؤدي إلى احتكار خاص لا يأخذ بعين الاعتبار المصالح الاجتماعية، ولذلك فان تسعير الخدمات سيكون غير موات لمصالح أوسع الفئات الاجتماعية.

وقد طرح بعض الاقتصاديين في بلدان عديدة، تمر بتجربة التحول الهيكلي، أهمية تفتيت المؤسسات العامة وجعلها أكثر من منشأة.. كما يطرح هؤلاء الاقتصاديون مسألة خلق المنافسة، وتشجيع فعاليات القطاع الخاص لتطوير منشآت منافسة في كل من هذه الأنشطة الاقتصادية، والتي كانت تضطلع بها المؤسسات الحكومية.. وقد يؤدي خلق المنافسة وزيادة عدد المنشآت إلى تخفيض التكاليف وتسعير الخدمات بأسعار معقولة، تعوض إلى حد ما المواطنين عن فقدان الدعم الحكومي الذي كان يتمثل في الأسعار المنهارة لهذه الخدمات قبل التخصيص.

من جانب آخر هناك سلبيات أخرى للاحتكار الخاص، حيث يمكن أن يخلق شعورا لدى المواطنين بأنهم أصبحوا تحت رحمة أصحاب المنشآت التي سبق أن كانت مملوكة للقطاع العام.. وعندما تحقق هذه المنشآت، في ظل الاحتكار، أرباحا كبيرة فان هناك العديد من المواطنين سيفهمون ذلك بأنه نتيجة للأسعار العالية التي تفرض عليهم نظير الخدمات الأساسية. لكن هناك معوقات مهمة أمام خلق المنافسة في عدد من الأنشطة الاقتصادية.. فكما هو معلوم فان الجدوى الاقتصادية لقيام أية مؤسسة أو منشأة اقتصادية تعتمد إلى حد كبير على توافر طلب مناسب، وفي العديد من الدول فان الطلب على هذه الخدمات يبقى محدودا ولا يحفز المستثمرين على توظيف أموالهم.. ومن هذه الخدمات، الخدمات الهاتفية أو خدمات الاتصال حيث يعتقد اقتصاديون مختصون أن الأسواق تظل محدودة نتيجة لتدني مستويات المعيشة وانخفاض حاجة البشر للعديد من الخدمات في هذا القطاع. لكن هذه التحفظات ربما تكون في غير محلها، حيث أنه ليس من المطلوب من الملاك الجدد أن يحققوا أرباحا كبيرة أو سريعة.. كما أن وجود المنافسة سيدفع الشركات إلى تطوير الخدمات وبأسعار مناسبة تؤدي إلى جذب المستهلكين.. وإذا استمر الاحتكار في ظل ملكية القطاع الخاص فليس من المتوقع أن تتحقق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية المنشودة من التخصيص والتي لا بد أن تكون ساعية لتحقيق الكفاءة وتوفير الخدمة بأقل كلفة وبأسعار مناسبة للمستهلكين، وهذا ما تؤديه المنافسة الحرة.

العمالة

كما هو معروف فان المؤسسات الحكومية تقوم بتشغيل العديد من الموظفين والعمال دون حساب للتكاليف، أو قياس أهمية توظيفهم، في الكثير من الأحيان.. ولذلك فان من المآخذ على التخصيص هو قيام الملاك الجدد بالتخلص من العديد من العاملين في سبيل تقليص التكاليف وتحسين المردود على رأس المال.. وهنا يبرز التساؤل: كيف يمكن الاستفادة من العمالة الزائدة، وكيف يمكن تعويض من يتم الاستغناء عنهم بوظائف جديدة، وهل هؤلاء يمكن إعادة تأهيلهم للقيام بأعمال جديدة لم يسبق لهم أن مارسوها؟ هذه الأسئلة لا بد أن واجهت الأجهزة المختصة، والمؤسسات الدولية التي اقترحت مشاريع التخصيص في العديد من البلدان النامية وغيرها.

ولا شك أن انتشار البطالة في العديد من الدول يخلق ضغوطا كبيرة لتفادي زيادة أعداد العاطلين عن العمل ولهذا تصبح مسألة العمالة من أهم المعوقات أو المعطلات لبرامج التخصيص في الكثير من الدول.. وبطبيعة الحال هناك أعداد كبيرة من العاملين في العديد من المؤسسات والشركات والذين ربما لا مبرر لوجودهم فيها، أو أنهم قد أصبحوا غير متوائمين مع التطورات التقنية في ميدان أعمال هذه المنشآت، أو أنهم بلغوا من العمر عتيا، ولا تفيد معهم برامج إعادة التأهيل أو التدريب على تقنيات حديثة.. وإذا تقرر إحالتهم للتقاعد مبكرا فان هناك تكاليف جديدة ستترتب على برنامج التقاعد والتكافل الاجتماعي، أو نظام التأمينات الاجتماعية.. وهكذا يمكن أن تنشأ عن عمليات التخصيص التزامات مالية جديدة على كاهل الخزينة العامة.. لكن هناك من يعتقد أن الدولة من خلال أنظمة الضرائب ربما تحصل على ما يعوضها كثيرا عن تبعات التخصيص والالتزامات الاجتماعية الناجمة عنه.. لكن قياس النتائج في نهاية المطاف، يعتمد على العديد من العوامل والظروف، والقياس يختلف من بلد إلى آخر..

وفي منطقتنا، منطقة الخليج العربي، تثار قضية الاستغناء عن العمالة الوطنية، في المنشآت المنوي تخصيصها، وأن يستبدل بها عمالة وافدة.. ويرجع هذا التخوف إلى كون أجور ورواتب العمالة الوافدة أقل بكثير من رواتب وأجور العمالة الوطنية. وتتناقض هذه النتيجة للتخصيص مع أهداف زيادة مساهمة العمالة الوطنية في النشاط الاقتصادي. ولذلك لا بد أن يواكب عملية التخصيص تشريعات تصر على الاستفادة القصوى من عناصر العمالة الوطنية، وتعضيدها بالتأهيل المناسب، ودعمها باستخدام التكنولوجيا، التي توفر الحاجة للعمالة الهامشية التي يوفرها الوافدون..

 

عامر ذياب التميمي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات