إبراهيم أصلان وحسين عيد

 إبراهيم أصلان وحسين عيد

  • الحزانى هم أكثر الناس قدرة على الفرح!
  • القضية ليست أن تعيش في مكان بل أن تحس بهذا المكان

إبراهيم أصلان. قصاص وروائى مصري معروف.وهو نموذج فنان حقيقي، عاكف على فنه. يعمل في صمت، يتأمل طويلا، يجوب أعماق الحياة، يتلمس جوهر الإنسان، يعبر عما تجيش به نفسه، وهو يشعر بمسئولية الكلمة، يشكلها كالنحات، لايعنيه الوقت بقدر ما يعنيه الصدق، لذلك نجده فعلا في إنتاجه، فكتبه أربعة فقط، عبر رحلة طويلة بدأت من الستينيات، وهي: مجموعتان هما "بحيرة المساء" 1971، و "يوسف والرداء" 1986، وروايتان هما "مالك الحزين" 1983، و "وردية ليل" 1991. وقد تحولت رواية "مالك الحزين" إلى فيلم سينمائى بعنوان "الكيت كات" نال نجاحاً جماهيريا، فتح أبواب الشهرة أمام إبراهيم أصلان.هذه إطلالة تحاول الاقتراب من عالمه الفني، وإضاءة بعض جوانبه الرحبة.وقد أجرى الحوار حسين عيد، وهو ناقد أصدر عشرة كتب منشورة، في النقد، وفي الرواية والقصة القصيرة.

* كيف يبدأ إبداع القصة لديك? وعلى ضوء أي مفهوم لها تعمل؟

أنا عادة لا أكتب قصة قصيرة كرد فعل منفصل عن تجربة أعم. أي أنه لايكون في ذهني حدوتة أريد أن أجلس وأكتبها، هذا فضلا عن أنني لا أعتمد على الحكاية بمفهومها التقليدي، فالحكاية كما نعرف ليست هدفاً، وإن كانت وظيفتها الفنية أساسية. بمعنى أنها العمود الفقري الذي يحفظ للقصة تماسكها. وأنا، وآخرون طبعا، رغبنا في تحقيق هذا التماسك عبر استخدامات أخرى. لم أرد طبعا أن أفعل شيئا مختلفاً، ولكن على كل واحد أن يكتب بالطريقة التي يهوى، والتي يرى أنها تتلاءم مع طبيعة اهتماماته ورؤيته للناس والأشياء من حوله.

ما يحدث بالنسبة لي أنني أجد نفسي في علاقة مع حالة، فأبدأ أتلمس هذه الحالة عبر مجموعة من المشاهد التي تختلف مواقعها، فلو افترضنا مثلا أنك أمام حالة، ليست هماً، ولكنها قرية مثلا أو نجعاً أو ماشئت، وأردت أن تكوّن عنه معرفة ما، فقد تبدأ بالحواري، الشجر، البنايات، الأسطح، أعمدة الإضاءة، الناس، أوقاتهم وعلاقاتهم مثلا، وهكذا.. وفي كل الأحوال أنت تسعى، جماليا، لاستلهام إيقاعهم العام باحثاً عبر هذا النسيج الحي عما هو أساسي وجوهري. البناء هنا، في ظل حكاية غائبة، يتطلب جهداً مغايراً. كل ماكتبته من قصص كان كذلك. لم يحدث أبداً أن كتبت قصة بمعزل عن تجربة أوسع!

* وإذا أردنا أن نطبق هذا المفهوم على قصص مجموعة "بحيرة المساء"?

بالنسبة ل "بحيرة المساء" كانت التجربة والارتباط والتفاعل مع زمن كنا نعيشه كأبناء للجيل الذي اصطلح على تسميته بجيل الستينيات، الذي كانت له هموم معينة. لم يكن في ذهني معنى أو رسالة أريد توصيلها للقارىء، لكنني كنت عبر مجموعة من النصوص أرغب في إعطاء هذا الإحساس المسيطر شكلا نستطيع من خلاله، أنا وقارئي، أن نتعرف ملامحه، وبالتالي ملامح هذه الحالة التي نعيشها.

كنت أيضا مدركا أن عليّ أن أبذل جهداً متصلا من أجل تطويع أدواتي: السيطرة على الجو أحيانا، وعلى حركة الشخصيات أحياناً أخرى. كان الجهد أيضا من أجل اكتساب القدرة على خلق مشاهد تنهض على أسس جمالية، فكنت أدرب وأنمي أدواتي على عدة مستويات، راغباً أن أؤهل نفسي بعد وقت، كي أجمع هذه الإمكانات في أعمال أكثر بساطة وأكثر غنى. بمعنى أنني كنت مشغولاً بأن أكون أهلاً للتعبير عن تلك الحياة، التي كانت على غير ماهو شائع عنها، بعد أن ابتذلت وتحولت إلى نوع من أنواع التنميط الفني، بينما كنت أرى أنها هي الحياة الحقيقية والغنى الإنساني الحقيقي، والتي كانت تحتاج إلى إمكانات عالية جداً للتعبير عنها، فالحقيقة أن العمل الفني لايكتسب جلاله وتأثيره من جلال الموضوع الذي يتناوله، بل يكتسب بلاغته الحقيقية من بلاغة المشهد الذي يقدمه، ومن بلاغة الحالة التي يتم التعبير عنها!

* تقصد أن ينصهر الخارجي العام، أن يمتزج بما هو داخلي خاص، لاكتساب قدرة مميزة للتعبير عن هذه التجربة?

كان يعنيني خلال هذه القصص شخص أساسي، يمكن أن يعيش هذه التجارب، ويتفاعل معها، لايمتلك معرفة سابقة بها. بل كنت آمل أنه عبر تلك التجارب قد يتراكم لديه قدر من الخبرة والمعرفة. وربما كان هذا جانبا لايهم القارىء، ولكن لنلاحظ أن من يحكي القصة الأولى يختلف عمن يحكي القصة العاشرة. أي أنه عبر عملية الكتابة نفسها وتراكم الخبرة، كانت هناك رغبة لتكوين معرفة أكثر صحة للإنسان وللعالم، لأنني كنت غير قادر على تبني المعارك والرسالات الشائعة، وتقديمها مرة ثانية إلى الآخرين!

"العازف" نموذجا

* لابد من التوقف قليلا أمام قصتك الجميلة، المكتملة فنيا: "العازف"، التي ظهرت ضمن مجموعتك "بحيرة المساء"، وتمت صياغتها من مفردات بسيطة لواقع معيش، فإذا بها ترتفع إلى قمة سامقة، فبقدر ماكشفت عن أزمة فرد لايجد عملا، إذا بها تعري مأساة مجتمع يدفعه أن يمثل أنه يعمل، حتى يمده بما يقيم أوده، فيضطر إلى أن يقبل صاغراً حتى يعيش!

أين نشرت هذه القصة للمرة الأولى? وكيف كان استقبالها ?

نشرت قصة "العازف" للمرة الأولى في جريدة "المساء".. وكانت أيامها في الستينيات توجد متابعة للعمل الثقافي ومايكتب، بخلاف مايحدث هذه الأيام، وفوجئت بعد نشرها، بأن استقبلني عدد من كبار نقادنا مهنئين، أذكر منهم غالي شكري، إبراهيم فتحي، جميل عطية، إبراهيم منصور، وغيرهم، كما أثارت مناقشات عديدة، وأقام الأتيليه ندوة حولها، وتم نشرها في عدد كبير من المجلات، إلى درجة أن الإسرائيليين قاموا بنقلها عن مجلة عراقية اسمها "الكلمة"وكان يرأس تحريرها حميد المصبعجي، ونشروها معتبرين أنها لكاتب عراقي!، وترجمت بعد ذلك إلى عدد من اللغات.

* ولكن من أين استقيتها؟ وهل لها جذور في الواقع؟

أذكر أنني كنت جالسا في مقهى عوض الله في إمبابة، وكان معي صديق عازف عود، وهو فنان جميل له عمل آخر، لكن هوايته جعلته على علاقة بعدد من الموسيقيين المحترفين. وأثناء تناولنا الشاي، جاء شخص عرفت أنه متعهد أفراح صغيرة، وأنه عند الاتفاق على فرح ما، كان يتفق أولا على عدد العازفين، لأنه يرغب في الاستئثار بجزء من الربح، فإذا اتفق على عدد أربعة من عازفي الكمان، كان يحضر عازفين حقيقيين ويدفع لهما أجرهما فعلا، ثم يضيف لهما اثنين خاليي شغل، يلبسان ويجلسان ويمثلان أنهما يعزفان فعلا، ويأخذ كل منهما نصف الأجر، ويحصل هو على الباقي!

* اتفاق غريب فعلا.. كيف تحول إلى محفز لإبداع قصة "العازف"?

كان هذا الاكتشاف شيئا مذهلا بالنسبة لي، وقمت مشغولا بهذه الحكاية.. ومرت الأيام، وظلت هذه الحكاية عالقة في ذهني حتى ضاعت التفاصيل، وبقي المغزى الحقيقي للواقعة، فجلست وكتبتها يدفعني تميز التجربة ليس أكثر. إلا أن القصة جاءت كاستجابة لحالة عامة كنا نعيشها. وعادة، تكون محظوظا تماماً، عندما يكون المنبه أو المثير الفني له دلالاته وأبعاده التي لاتكون في ذهنك على الإطلاق!

* يبقى أن تحدثنا عن رأيك فيما خلفته من أصداء?

لقد ظللت لفترة طويلة لا أجد سببا قويا لهذا التقدير، لأنني كنت ومازلت في الحقيقة أرى أن لدي قصصا كثيرة أفضل، في تصوري يعني. لكن مع استمرار الإصرار على تقديرها، استمرأت الأمر بدوري. وعلى أي حال، فقد مضى زمن طويل على ذلك الآن!

جغرافية المكان

* تجري أحداث معظم قصصك في مكان محدد، هو حي إمبابة بالجيزة. ولو أجرينا إحصائية على مجموعتك الأولى "بحيرة المساء"، فسنجد المكان هو البيت "خمس قصص"، المقهى أو المشرب "أربع قصص". الشارع "ثلاث قصص" وبين البيت والملهى -قصة أو شاطىء البحر "قصة أخرى".
ما تعليلك لذلك
?

القضية ليست أن تعيش في مكان، القضية أن تحس بهذا المكان. ومن المعروف أنك حين تستمر في منطقة ذات طابع مميز، خصوصا إذا كانت منطقة شعبية، يصبح هناك فرصة للتفاعل بينك وبين تفاصيل المكان.أنت تعرف أنني تربيت في هذه المنطقة وعشت في هذا المكان، وعرفته جيداً، وأصبح إحساسي به أكثر عمقا.. وسأضرب لك مثالا، فأنا أعيش حالياً في الوراق، لي هناك حوالي خمسة عشر عاما، وبرغم هذا لم أتواءم أبداً مع هذا المكان. وما يجعلني أقول ذلك، أنني إذا انقطع تيار الكهرباء، لا أعرف كيف أتحرك داخل الشقة، ولابد من أن أمد يدي حتى لاأصطدم بأي شيء، بينما في إمبابة، مهما وصلت درجة الإظلام، فأنا قادر على التجوال وأنا مطمئن تماماً، ليس فقط داخل البيت، بل بين أزقة إمبابة وشوارعها ونواصيها أيضا.

* أي أن هذه المعايشة عنصر فاعل في الإبداع?

نعم، لأنه تحدث عملية تفاعل بينك وبين تفاصيل المكان، وهذا مايجعلني حريصاً على جغرافية المكان الذي أبدع فيه، لأنك تحاول أن تمسك بحركة، بمجموعة طيوف، فأنت تحتاج إلى عدد من العوامل الأساسية التي تعينك على إنشاء هذه البنية. ولهذا لا أستطيع الكتابة إلا إذا كنت أعرف جغرافية المكان معرفة تامة، حتى لو لم يأت ذكرها في القصة. يعني لو كان في المشهد رجل يتكلم مع آخر على ناصية شارع مثلا، يجب ألا أكون عارفا بالرجلين جيداً فقط، ولابحدود المكان الذي يقفان فيه: تفاصيله، ولكن امتداداته غير المنظورة أو غير المكتوبة أيضا. بمعنى آخر، لو أنك دخلت حجرة مثلا، ورأيت في الناحية اليمني سريراً عليه بنطال بيجامة وفوطة معلقة على مشجب في الناحية الأخرى، وهناك فردة شبشب عند مدخل الحمام، وأخرى تحت الدولاب الصغير في الواجهة، مع درجة ما من النور. لو تأملت هذه الأشياء وأجدت الإنصات، فستجد هناك علاقات حقيقية بينها. أي أن هناك حواراً ما وإن كان غير مسموع. وفي وجود حوار يكون إمكان للتطور نحو ذروة ما "الهيمنة هنا والدلالة يضعها ذلك الساكن برغم غيابه".

* لذا أعتقد أن المخرج داود عبدالسيد كان موفقاً غاية التوفيق، حين اختار اسم "الكيت كات"، ليكون عنواناً للفيلم المأخوذ عن روايتك "مالك الحزين"، لأن البطولة في الرواية كانت بشكل ما معقودة للمكان الأثير لديك وهو "الكيت كات"?!

تغيير "مالك الحزين" إلى "الكيت كات" أملته في الأساس اعتبارات خاصة بالمتفرج، أي اعتبارات إنتاجية. ولكن "الكيت كات" على أي حال كان أحد العناونين المقترحة كعنوان للرواية، قبل الاستقرار على "مالك الحزين".

* لكننا نجد أن المكان قد تغير في روايتك الأخيرة "وردية ليل" 1991، حيث خرجت إلى أجواء عملك القديم في هيئة المواصلات السلكية واللاسلكية بشارع رمسيس بالقاهرة هل يرجع هذا التغير إلى طبيعة تجربة الرواية?

نعم، ولكنه مكان آخر قضيت فيه، ليلا، سنوات طويلة من عمري، وعرفته، وأحسست به جيداً.

الوقت يمضي

* يحس غالبية أبطال قصصك بأن الوقت يمضي، ينساب من بين أيديهم دون أن يحققوا ذواتهم، فهم يشعرون كما يقول بطل قصة "في جوار رجل ضرير": "إن هناك شيئا ما من الضروري أن أضع حداً له. الوقت يمضي". ويتجسم ذات الإحساس أيضا في قصة "المستأجر": "كان ذلك هو الحال إذن. إلا أنني فكرت في ذلك كثيرا، وشعرت أنه لم يبق أمامي من وقت سوى القليل".
إنها مخلوقات عاجزة يائسة، يحاصرها الزمن. أما في رواية "مالك الحزين" فإن أبطالها يعيشون حاضرهم كما يجب أن يعاش، وتبقى الصلة بماضيهم وثيقة، وثمة مستقبل ينتظرهم
?

هذا ممكن، وإن كنت لم أتوقف عند هذه الملاحظة في قصصي القصيرة، برغم أنني على المستوى الشخصي، فإن إحساسي بالزمن يكاد يكون معدوما، فأنا أتمتع بذاكرة ذات طابع مؤسف! فقدرتي على تذكر الوقت الذي حدثت فيه واقعة ما سيئة جداً. فقد أعتقد أن حادثة ما حدثت منذ ست سنوات ثم اكتشف أنه قد مضى عليها عشرون عاما!

كما أن إحساسي بالزمن إحساس غير مرتب، فهو إحساس ليس زمنيا. ولعل ما يضاعف هذا الإحساس داخل تلك النصوص، هو مشكلة الكتابة ذاتها. فمثلا مشكلة الرواية بالأساس هي مشكلة زمنية، وهذا مطروح أيضا بالنسبة للقصة. وأنا ميال إلى تضييق الأمور على نفسي، حتى استنفر طاقاتي على الإبداع، فأحب اللحظة الآنية للفعل، أي الفعل لحظة حدوثه. اللحظة التي تتضمن بشكل ما تاريخا كائنا، دون الإشارة لهذا التاريخ، ربما لغلبة الحس الدرامي نفسه.

قد يضاعف هذا من الإحساس بهذه المسألة، لكن تظل ملاحظتك دقيقة فعلا!

عزلة الشخصيات

* يلاحظ أن معظم أبطال قصصك القصيرة، خاصة في مجموعة "بحيرة المساء" يعيشون عزلة حقيقية، يستحيل عليهم التواصل مع الآخرين، أو إقامة علاقات معهم، وإن طمحوا إلى الاندماج وسط الناس ومعايشتهم، فإن عجزوا فإنهم يجدون بعض العزاء في مجرد رؤيتهم.

قضية العزلة هي من سمات العديد من الأعمال الفنية كمشكلة وجودية أساسا، وعدم التواصل بين الناس مشكلة قائمة ولاتزال، ونادراً مايتم إشباع هذه الحالة.

* ولكن إذا نظرنا إلى إنجازك الأدبي تاريخيا، فسنجد أن أبطال قصصك الأولى متجهمو الوجوه، ميالون إلى العزلة، ولكن بعد رواية "مالك الحزين" أصبحت تلك الشخصيات ودودا، حية.

"مقاطعا" إن هؤلاء الأبطال لم يكونوا متجهمين، بل كانوا حزانى، والحزانى هم أكثر الناس قدرة على الفرح!.. فهما قرينان. ولكن، كما سبق أن قلت، لقد كنت معنياً، في المقام الأول، على تنمية أدوات واكتساب قدرة السيطرة على حركة الشخصية وملامحها في مرحلة، وتقديمها ككائن حي في مرحلة أخرى من القصص، وهكذا.. وبمضي الوقت، تكون محاولة لاستخدام هذه الخبرات مجتمعة. وبالمناسبة، لو أنك في بداياتك لم تكن قادراً على الإحساس بالناس وتقديمهم ككائنات حية، فسوف وستظل طوال الوقت غير قادر على هذا! بمعنى أنه لم يكن ممكنا أن تتأتى هذه القدرة مع رواية "مالك الحزين" هكذا فجأة، فالإحساس بالآخرين مما يمكن تعميقه، ولكنه لايكتسب فجأة أبداً

* سأحاول أن أوضح نفسي أكثر، لأنني مقتنع بأن مسيرتك الأدبية كل واحد متصل، ولكن إبداعك لرواية "مالك الحزين" ساعد على إتمام ميلاد وإبراز تلك الروح الشعبية في شخصياتك، فإذا هي منطلقة، عفوية، بشوشة.

لم يكن ممكنا أن تُكتب رواية "مالك الحزين" بهذا الشكل إلا بعد كتابة مجموعة "بحيرة المساء". هذا ما أتصوره!

* وكأن "بحيرة المساء" كانت مرحلة معاناة ومخاض?

الهم الأساسي الذي كان مطروحاً في "بحيرة المساء" يمكن إرجاعه إلى مذاق لزمن أكثر منه مذاقا لبشر. هناك مذاق لزمن فرض نفسه، وأنت في مطلع حياتك ممتلىء بالآمال والأحلام، ثم فجأة انهارت تلك الآمال والأحلام، دون أن تعرف لماذا امتلأت بها أو لماذا انهارت.كنا كجيل جزءا من هذا الزمن، عشناه وأحسسنا به. لم يكن هناك شيء اسمه هم ذاتي وهم جماعي. كان الاثنان شيئا واحداً، وكنا أصحاب قضايا، وكان يمكن تجميع الناس على شيء كبير. ثم جاء الانهيار، وكان الانتهاك، وبرزت القوى التي عملت على استلاب الأحلام والجور على مساحات الدفء داخل قلوب الناس.

* إذن، كان هناك مذاق لمرحلة ومذاق لعصر!

اليوم هذا غير موجود. فأنت لاتستطيع أن تجمع خمسة أو ستة أشخاص على أي شيء. اليوم، أنت لاتعرف من أين يأتيك الخطر?!

تحولات المثقف

* تبدو شخصية المثقف في قصصك القصيرة معزولة عن الواقع، برغم أنه يرغب في المشاركة، ويعذبه هذا التناقض بين الرغبة في الفعل وعدم القدرة عليه. وفي رواية "مالك الحزين" نجد نفس السمات ليوسف النجار "المثقف" المتفرج، البعيد عن الفعل أو المشاركة في الواقع، لكنه وسط جحيم المظاهرات بدأ رحلة مراجعة الذات، ثم جاء التحول تدريجيا، حتى انحاز إلى جانب الأولاد وأصيب في ساقه?

هذه مناسبة، كي أرد على بعض النقاد، الذين رأوا عبر هذه الشخصيات، أنني قدمت نموذج المثقف العاجز عن الفعل.أنا أعتقد أنها ليست قضية عجز عن الفعل، ولكنها عزوف عن الفعل، لأنك لاتستطيع أن تكون إيجابيا في ظل شروط أنت لاتضعها. فليس من المعقول أن يكون هناك آخرون يفكرون لك ويحلمون لك، وأنت تتحول إلى كائن إيجابي لتحقيق مايرونه هم صالحا لك من الأفكار والأحلام!