لك القلم الأعلى جابر عصفور

لك القلم الأعلى

أوراق أدبية

ماذا يحدث عندما تحتل العلاقة بين الكاتب والشاعر.. حين يحتل الأول مكانة متميزة عند أهل الحكم والسلطان بينما تنحدر منزلة الثاني عن مكانة الحكماء والأنبياء التي كان يحتلها في الجاهلية ويكتفي بدور المادح أو النديم؟

ماذا يحدث، في علاقة الشاعر بالكاتب، عندما يحتل الثاني المكانة الاجتماعية الأعلى؟ إن تراتبا قمعيا لأبد أن يقع وأن يهبط الشاعر بقدر ارتفاع الكاتب، أو يرتفع الكاتب مقابل هبوط الشاعر، ويفرض على الاثنين أداء أدوار متقابلة واحتلال مواضع متعارضة متدابرة في شبكة العلاقات الاجتماعية التي تحتويها والتي لا تسمح للأدنى أن يرتقي إلى حيث الأعلى. وإذ ينحدر الشاعر عن مكانته القديمة التي احتلها في التراث الشفاهي للجاهلية حيث نزل منزلة الأنبياء فإنه يفقد الكثير من الخصائص المعرفية التي انطوى عليها نموذجه الأصلي، وهو يكتسب خصائص جديدة ناتجة عن علاقات المنفعة المدينية التي دخل طرفا فيها ضمن بناء دولة بطريركية قريبا من القمة التي يتعلق بها، ويعتمد في حياته عليها سواء في أدائه دور النديم الذي يزخرف أمسيات السمر بطرائف الأشعار أو دور الداعية الذي يشيع مهابة الممدوح بين الإقران ويؤكد طاعة الملوك بين الرعية.

ويرتفع الكاتب في منزلته الجديدة التي أخذ يحتلها مع غلبة النزعة الكتابية على الثقافة، وسيطرة علاقات المدنية على الدولة ومن ثم تحوله إلى أحد الذين يتوجه إليهم الشاعر بالمديح طالبا العطاء أو المنادمة طالبا الرضا، خصوصا بعد أن صار الكاتب شعار المملكة وعلامة السلطنة والركن الركين في الدولة. وقد قيل إن الملك يحتاج في انتظام أمور سلطانه إلى الكاتب الذي هو عينه وأداته وقلبه وإلى الكتابة التي لا سبيل إلى صيانة الدولة إلا بالتدبر في صناعتها التي هي من أشرف الصنائع مكانة لعظيم عائدها على السلطان ودولته.

صراع مكتوم

وطبيعي أن تنطوي العلاقة بين الكاتب والشاعر، في هذا السياق، على عنف مكتوم أو ظاهر، وتوتر معلن أو مبطن، فالأول لن يعامل الثاني إلا بما يعامل به الرعية والأتباع وقاصدي العطاء وطالبي الفضل، والثاني لن يستطيع أن يعامل الأول إلا بما هو جدير به من الاحترام والتقدير والتكريم، وبما هو مفروض عليه في موقفه منه أو يحتمه وضعه الاجتماعي بالقياس إليه.

لكن الشاعر لن يستطيع، خصوصا إذا كان شاعرا كبيرا، أن ينسى مكانته القديمة وأدواره الاجتماعية التي لازمت نموذجه الأصلي حين كان يقول فيرضي قوله ويحكم فيمضي حكمة وحين كان الشعر من عقد السحر ومعادن الفطنة والحكمة.

ولم أجد، فيما أعلمه من تراثنا الأدبي، موقفا يبرز التراتب القمعي بين الكاتب والشاعر، ويجسد العلاقة المتوترة التي وصلت بينهما، مثل التراتب الذي جمع بين أبى تمام ومحمد بن عبدالملك الزيات، والعلاقة التي وصلت بينهما الوصل الذي هو نوع من الفصل.

وذلك موقف يلمحه المتأمل في ديوان أبى تمام، حين نقارن قصائده في ابن الزيات بغيرها من القصائد، وننتبه إلى ما تنطوي عليه من توتر متميز، وتضاد له خصوصيته وأكتفي بالإشارة إلى قصيدتين الأولى تومئ إلى هذا التوتر إيماء، ومطلعها:

لهان علينا أن نقول وتفعلا

ونذكر بعض الفضل عنك وتفضلا

والثانية تجسد التوتر، وتصل به إلى ذروته التي تضيء أبعاده، ومطلعها:

متى أنت عن ذهلية الحى ذاهل

وقلبك منها مدة الدهر آمل

ومن المفيد في هذا السياق، أن نسترجع مكانة أبى تمام الشعرية، من حيث وعيه بقيمة شعره، ذلك الوعي الذي كان يدفعه إلى أن يجعل من شعره موضوعا لنظمه، ويفخر به في كل قصيدة مدح لافتة يتوجه بها إلى ممدوح، فهو شاعر ولوع بتأكيد قيمة شعره ودوره في الحياة، وفي الوقت نفسه لحوح على المقابلة بين الشعر والممدوح، والتمييز بين خلود القصيدة وفناء الممدوح، وذلك إلى الحد الذي جرؤ معه على أن يتحدث عن أحد ممدوحيه الذي " خر صريعا بين أيدي القصائد"، في مواجهة شعره الذي يبقى "بقاء الوحي في الصم الصلاب " أو قصائده التي " تملأ كل أذن حكمة " إنها من نتاج شاعر ينقل حكمته إلى الآخرين، لكي يقود الحب ة إلى اكتمالها من منطلق إيمانه بدور شعره الذي أوجزه بقوله:

ولولا خلال سنها الشعر ما درى

بغاة الندى من أين تؤتى المكارم

أما محمد بن عبدالملك الزيات وزير المعتصم وابنه الواثق وأول عهد المتوكل، فهو النموذج المقابل على مستوى الكتابة التي أصبحت مقترنة بالوزارة، النموذج الذي وضعه التراتب البطريركي ذروة الهرم الاجتماعي، وأضاف إليه ابن الزيات بقدراته الخاصة ما جعل منه أول من وزر ثلاث مرات، وأول من اشترط (وأجيب شرطه) ألا يلبس القباء وأن يلبس الدراعة ويتقلد عليها سيفا بحمائل فكان الوزير الكاتب الآمر الناهي المتحكم الذي عرف بالبطش والجبروت وتعذيب أعدائه في التنور الذي قتل به وقد أثر عنه قوله: الرحمة خور في الطبيعة، وضعف في المنة (القوة) وما رحمت شيئا قط. وقد بلغ مكانة نادرة في تدبير أمور الخلافة وسوس أعمالها وتوجيه مصالحها، فتح للشعراء أبوابه، وانعقدت صلة خاصة بينه وأبي تمام الذي كان أهم مداحيه وهي صلة أضاف إلى خصوصيتها أن ابن الزيات مع إلى إتقان حرفة الكتابة المعرفة بالشعر ونظمه وقد قيل فيه: لم يل الوزارة أشعر من أحمد بن يوسف حتى ولي محمد بن عبدالملك الزيات.

خطاب الزهو

وقد اتجه أبو تمام بشعره إلى الخلفاء والأمراء وقادة الجند وجذب نداهم بشعره جذبة أوقعتهم بين أيدي قصائده. وكان خطابه إليهم خطاب من يزهو بشعره عليهم ومن يشعر أن إبداعه أبقى من عطاياهم. ولكن هذا النوع من التوتر بين الشعر والممدوح يختلف في القصائد المنظومة في ابن الزيات، فنحن نقرأ في القصيدة الأولى التي أشرت إليها قول أبى تمام:

ووالله ما آتيك إلا فريضة

وآتي جميع الناس إلا تنفلا

وهو قول يؤكد خصوصية العلاقة التي تربط المادح بالممدوح، وتحدد خصوصية الممدوح في الوقت نفسه. هذه الخصوصية قرينة المكانة المتميزة للكاتب الوزير على المستوى البلاغي الذي يصله بالشاعر المادح وصل البلغاء، والذي يفصله عنه المستوى الاجتماعي فصل الأباعد.

وليس بغريب والآمر كذلك أن يسرف أبوتمام في مديح أبن الزيات الذي ليس له مثيل بين الناس في كرمه الذي يحمى من الحادثات، ولكن أبا تمام في الوقت نفسه، يخلط المديح بهجاء البلاد التي يبسط عليها الممدوح كرمه، والتي لم يجد فيها أبوتمام ما هو جدير به ويعلن صراحة أنه ينوي الرحيل عن بلاد غدا بها لسانه ملجما وقلبه مقفلا، وتعاظم فيها حظ قوم غيره أغارت على فريسة ضيغم نتيجة تغفيل الزمان وصنعته العشواء وذلك في قوله الدال:

وأصرف وجهي عن بلاد غدا بها

لساني مشكولا وقلبي مقفلا

وجد بها قوم سواي فصادفوا

بها الصنع أعشى والزمان مغفلا

ورغم أن أبا تمام يحاول أن يخفف وقع شكواه على أذن ممدوحه بتأكيد حاجته إليه، وأمله وأن يمسك به، وينيله ما يتطلع إليه صح كريم عطائه فإنه يختم قصيدته بالمباهاة بها، وذلك صن تنعكس القصيدة على نفسها، لتؤكد علوها على كل كتابة غيرها وقدرتها على الإضافة إلى مهابة الممدوح بها والوقوع منه أطيب موقع. تذوقا لها أو فخرا بها، وتنطوي القصيدة في انعكاسها على نفسها، على نوع من الالتباس الذي ينقلب بمديحها الذاتي إلى نوع من الغض بها يمكن أن يقارن بها، أو يقع منها موقع المفاضلة، في أنواع البلاغة التي تصل الشعر بالنثر، أو القصيدة بالكتابة، وتتكاتف مخايلة هذا الالتباس في الأذهان مع استخدام أفعل التفضيل الذي تقصره القصيدة على نفسها، خصوصا في الأبيات التي تقول:

ووالله لا أنفك أهدي شواردا

إليك يحملن الثناء المنخلا

تخال به بردا عليك محبرا

وتحسبه عقدا عليك مفصلا

ألذ من السلوى وأطيب نفحة

من المسك مفتوقا وأيسر محملا

أخف على قلب وأثقل قيمة

وأقصر في سمع الجليس وأطولا

ويزهي له قوم ولم يمدحوا به

إذا مثل الراوي به أو تمثلا

هذه القصيدة التي تطلب عطاء لا تلقاه، والتي تشكو الزمان المغفل إلى من هو مظهر من مظاهر هذا الزمان، والتي تمدح نفسها عند من يمتدح الآخرون كتابته، والتي يغلب عليها هجاء الآخرين في موقف المديح، والتي تلتفت إلى نفسها بها يجعلها أكبر ممن يتلقاها، هي مثال لشعر أبي تمام في ابن الزيات، وعلامة من علامات التضاد العاطفي الذي جمع بين الكاتب والشاعر في علاقة التراتب القمعي التي انطوت على كثير من التوتر، الذي لم تخل منه حتى إشارة القصيدة إلى نفسها في علاقتها بصنعة الممدوح بها، وذلك على نحو مانقرأ في هذا البيت (من قصيدة أخرى في مديح ابن الزيات) الذي يصف القصيدة بأنها

لا تستقي من حفير الكتب رونقها

ولم تزل تستقي من بحرها الكتب

وهو بيت أراه أقرب إلى التعريض بصنعة الممدوح، حيث تتجاوب دلالة الكتب والكتابة، على مستويات لحضور والغياب، في الإشارة إلى نقيض حرفة الكتابة، أعني صيغة الشعر التي أ تزل تستقي من بحرها الكتابة والكتاب.

وتأتي القصيدة الثانية بالمزيد الذي يضيف إلى معنى الانقسام الذي تنجني به، وتتمزق بين طرفيه، فهي تبدأ بداية لافتة بالنسيب الذي يدور حول المرأة التي هجرت والقلب الذي لا يزال عالقا بها، إلى أن تصل إلى علامة الوزير الكاتب، وشارة سطوته، وهي القلم الذي يتصل بحضور الكاتب اتصال الدال بالمدلول، والرمز والمرموز إليه، على النحو التالي:

لك القلم الأعلى الذي بثباته

تصاب من الأمر الكلى والمفاصل

له الخلوات اللاء لولا نجيها

لما احتفلت للملك تلك المحافل

لعاب الأفاعي القاتلات لعابه

وأرى الجني اشتارته أيد عواسل

له ريقة طل ولكن وقعها

بآثاره في الشرق والغرب وابل

فصيح إذا استنطقته وهو راكب

وأعجم إن خاطبته وهو راجل

إذا ما امتطى الخمس اللطاف وأفرغت

عليه شعاب الفكر وهي حوافل

أطاعته أطراف لها وتقوضت

لنجواه تقويض الخيام الجحافل

إذا استغزر الذهن الذكى وأقبلت

أعاليه في القرطاس وهي أسافل

وقد رفدته الخنصران وشددت

ثلاث نواحيه الثلاث الأنامل

رأيت جليلا شأنه وهو مرهف

ضنى، وسمينا خطبه وهو ناحل

وقد أصبحت هذه الأبيات أشهر ما قيل عن القلم في التراث الأدبي. نجدها في كتب المختارات، وكتب أدب الكتاب وبلاغة الكتابة، ونقرأها في المناظرات الموروثة التي تدور حول السيف والقلم، أو فضائل الكتابة. وقد تحولت صيغتها الاستهلالية" لك القلم الأعلى" إلى صيغة متكررة عند شعراء أقل شهرة من أبى تمام ومن مقلديه بالطبع، من مثل عتاب بن ورقاء، والصولي، والحسين بن عبدالله العبدي الهمداني، وغيرهم ولكن أبيات أي تمام بصيغتها التي ميزتها انفردت بالمكانة التي اقترنت بشاعرية صاحبها، واستقلت بالشهرة التي جعلت منها لازمة متكررة في كل حديث عن القلم والكتابة.

حامل القلم الأعلى

ويرجع ذلك إلى أن الأبيات، أولا تصوغ موضوعها صياغة الرمز الذي يغتني بالمعاني التي ينوب بها عن مرموزه، والدال الذي تتعدد مدلولاته في الإشارة إلى مدلوله، وهي تبدأ بما يؤكد معنى الملكية التي يتميز بها الكاتب، ولكن بما ينطلق منه على الفور إلى ما هو لازمه، حيث " القلم الأعلى" الذي يشد أفعل التفضيل إلى معنى المقارنة الذي يسمو به على الاقران، سواء على مستوى السلطة التي يتجسد بها ويجسدها بالقياس إلى كل سلطة مغايرة، أو على مستوى البلاغة التي يعلو بها قلم الكاتب على أقلام غيره من البلغاء، أو على مستوى تراتب الحرفة الذي يوقع الوزير في الذروة بالقياس إلى طوائف الكتبة التابعين لحامل القلم الأعلى.

لكن التركيز ينتقل، في الأبيات، من الحامل إلى المحمول، ومن الكاتب إلى القلم، بها يؤكد الحضور الفريد للقلم الذي يشارف تخوم الأسطورة في أفعاله الاستثنائية، والذي تصوغ الأبيات أسطورته الخاصة بالفعل، بواسطة تقنياتها البلاغية التي تنهض على التشخيص والمطابقة والمفارقة واستغلال مجاورة الجار والمجرور بما يؤكد القيمة في الجملة الاسمية التي تردفها الجملة الشرطية بما يؤكد معناها.

والتشخيص قرين الاستعارة المكنية، في الأبيات، حيث تتعلق مصائر البشر وحيواتهم بسر القلم الذي لا راد لقضائه، ولا معقب على حكمه، والذي لولا ما ينطوي عليه، ويتجسد به، ما انتظم أمر الملك أو استقرت الدولة. والمطابقة قرينة نوافر الأضداد التي يتميز بها شعر أبي تمام، لكنها تتحول، في الأبيات، إلى المقابلة التي تبرز الأبعاد المتناقضة من حضور القلم، سواء في أفعاله التي تصل الشرق بالغرب، أو في آثاره التي تجمع ما بين بهجة الحياة وقسوة الموت، أو في نقوشه الخطية التي ينقلب بها مداد القلم إلى ما يشبه سم الأفاعي القاتلات مرة، وجني عسل النحل اللذيذ مرة أخرى، وتؤكد الأبعاد المتناقضة، بدورها، معنى المفارقة التي تترك بها نقوش الكتابة الضئيلة المتقطعة على القرطاس آثارا خطيرة منهمرة على الحياة.

وتلك مفارقة تتأكد، بدورها عن طريق التقابل بين القلم الذي ينطق وهو راكب ويصمت وهو راجل، وهو التقابل نفسه الذي تبرزه العلاقة بين جسمه الناحل وخطبه السمين، أو بين حجمه المرهف ووقعه الجليل. وعلاقة القلم بالأصابع، من هذا المنظور، علاقة المشبهات المتعددة المركبة، حيث تتحول الأنامل إلى خيل تحمل القلم إلى ما يشاء ويتحول القلم إلى راكب تطيعه مطاياه، ويتحول الفكر إلى فيض من الإبداع الذي لا حد لتدافعه، لكنه الإبداع المحصور بين فعل الشرط الذي تحده إرادة الجسد وجواب الشرط الذي ترفده غزارة الفكر، أو فعل الشرط الذي يتدبر بالمطاوعة الجسدية الفكرية وجوابه الذي يقترن بآثار القلم الخطية التي تحدث بها الأفاعيل والأعاجيب.

الكتابة.. عهد جديد

والمؤكد أن احتفاء الأبيات بالقلم احتفاء بالكاتب الذي تدل عليه أداته التي صارت هي إياه، وصار هو إياها، في حضورها السحري الذي يناوش غياب القصيدة، ويستبدل بحضورها حضور الكتابة التي صارت علامة على عهد جديد. ولكن لو عدنا إلى الأبيات من منظور التضاد الذي تنطوي عليه، واسترجعنا ألوان التقابل الذي تتواشج به، لاحظنا أن علاقة المتكلم المضمن بالكتابة علاقة ملتبسة، تنطوي على النقيضين اللذين يمثلهما حضور القلم، ومن ثم حضور الكاتب الوزير السلطة.

إن القلم الذي يدل على صاحبه يفضي إلى الأمن كما يفضي إلى الخوف ويقترن بالدمار مثلما يقترن بالعطاء ويرتبط بنعيم الحياة وقسوة الموت، وكما تستدعى دواله مدلولات الأذى الذي يمكن أن يقع على الجسد (الحد الذي تصاب منه الكلى والمفاصل وسم الأفاعي)، فإنها القلم شبيها بحامل السيف الذي يخشى بطشه، ويتقى شره، في الوقت الذي يرجى خيره.

ولعل هذا هو السبب الذي تنتقل به القصيدة من تعدد الأبعاد في رمزية القلم إلى بعدها الذي يرتبط بالأمل في العطاء، حيث يغدو ابن الزيات ساحل الخليفة، المفضي إلى كرم الخلافة. وتلح الأبيات على طلب العطاء إلحاحها على تأخره، ولكن بطريقة تبرز، مرة أخرى، توتر الرغبة المقموعة ما بين الخوف والأمل، والإقبال والإدبار، التمني واليأس. وتلك ثنائية يكثفها البيت الأخير من القصيدة:

ولو حاردت شول عذرت لقاحها

ولكن حرمت الدر والضرع حافل

وهو بيت يحمل معنى العتاب الذي يؤكد ازدواج المعنى الذي يقابل بين التوقع وإحباطه، بالقدر الذي يؤكد معنى الغبن في حضرة المانح الواهب الذي يتحكم قلمه في المصائر. وتجلو حدة المفارقة في البيت الموقف كله، خصوصا بالتقابل الذي تقيمه بين وفرة ثروة الممدوح وحرمان المادح منها، وهو تقابل يدعمه التشبيه بالضرع الحافل الذي يحرم الظامئين من خيره العميم، رغم حاجاتهم إليه وأملهم فيه.

ويقال إن ابن الزيات حين قرأ قصيدة أبى تمام استحيا من جفائه له، واحتج بأنه يؤخر عنه عطاءه لأنه مدح غيره ممن هو دونه، ولو اقتصر عليه وحده لأعطاه، وأن إكثار مدحه الناس زهده فيه، وكتب إلى أبي تمام ثلاثة أبيات أحسبها تنطوي على تعريض الكاتب الوزير بالشاعر المادح الذي دنا فتدنى على النحو التالي:

رأيتك سمح البيع سهلا وإنما

يغالى إذا ما ضن بالشيء بائعه

فأما الذي هانت بضائع بيعه

فيوشك أن تبقى عليه بضائعه

هو الماء إن أجممته طاب ورده

ويفسد منه أن تباح شرائعه

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات