تحت المتراس

تحت المتراس

بكت على كتفي.. فتزوجتها
المؤلف: كارول تاتشر

كارول تاتشر مؤلفة كتاب "تحت المتراس" الذي تروي فيه سيرة والدها دنيس ومن خلالها ترفع الستار عن نواح غير مطروقة ومثيرة من حياة والدتها مارجريت، أول ـ وربما آخر ـ رئيسة وزراء في التاريخ البريطاني، صحافية وكاتبة وشخصية تلفزيونية معروفة، نشرت إلى جانب هذه السيرة كتابين آخرين. ولا يمكن تصنيف كارول تاتشر بأي حال بين كبار الكتاب أو الصحافيين، ولكنها استفادت في مسيرتها المهنية لكونها ابنة مارجريت تاتشر، "المرأة الحديدية" التي كان كبار ساسة بريطانيا وزعماء نقاباتها يرتجفون أمامها ويرتج عليهم. كما استفادت ماديا هذه المرأة من نشر سيرة حياة دنيس تاتشر عندما احتل الكتاب في قائمة "صنداي تايمز" المركز الثالث بين أكثر الكتب رواجا في بريطانيا في ربيع هذا العام، لأن الدعاية التي سبقت نشره أوحت بأنه يحتوي على هجوم مركز على السيدة تاتشر يكشف من الداخل عن أنها كانت دائما امرأة باردة، نائية ومخيفة.

ولكن الكتاب خيب من هذه الناحية توقعات الكثيرين. فقد جاء هجوم كارول على برود أمها واستحواذ المنصب عليها تلميحا أكثر منه تصريحا. فلم تقو فيما يبدو، برغم ما عانته من عواقب ذلك كطفلة ومراهقة، على تمزيق القناع كله عن حياة هذه الأسرة التي عاش رباها منذ البداية في خطين متوازيين لا يلتقيان، أو الخوض في الفضائح التي أثارتها الصحافة حول تورط شقيقها التوأم مارك في استغلال مركز والدته في إحدى الصفقات. فعلى الرغم من أن القارىء يتلمس بين سطور السيرة تعاسة دنيس تاتشر العميقة، ولاسيما بعد أن أصبح "يشغل" منصب "زوج رئيسة الوزراء" فإنها تؤكد أنه كان دائما سعيدا بنجاح زوجته وولائه الذي لا يهتز، والتزامه التام بالوقوف إلى جانبها في السراء والضراء. ويعكس هذا الالتزام أن دنيس تاتشر ينتمي إلى فصيلة تكاد تنقرض من الرجال الإنجليز الذين يشكل الوفاء والمروءة وغرابة الأطوار جزءا من شخصياتهم. وقد قربه هذا الأمر، وحقيقة أنه لم يعتبر نفسه شريكا لزوجته في الحكم ولم يتدخل بالتالي في شئون الدولة كما فعلت السيدة هيلاري كلينتون في بداية المطاف ـ مكتفيا من متاع الدنيا ومتعها بولعه بالشراب وعشقة رياضتي الـ "رجبي" و "الجولف" وكرهه الاشتراكيين ونقابات العمال وهيئة الإذاعة البريطانية ـ إلى نفوس الملايين من البريطانيين. فقد قام بدوره كـ "زوج الرئيسة" بطيبة ولباقة وكبرياء وخفة روح حتى غدا بعد عشر سنوات من السير في ظل أقوى نساء العالم يحظى بتعاطف الملايين ويحتل ركنا أثيرا من ضمير الأمة. سرح دنيس تاتشر من الجيش سنة 1946. بأنه لم يكن للحرب تأثير نفسي سلبي عليه "لأنني أعتقد أني شخص غير حساس!" كما يقول، ولكنها ـ الحرب ـ وفرت له تدريبا وخبرة لا يقدران بثمن لتحمل مسئولية شركة "أطلس" وتطويرها.

تاتشر الأولى:

كان على دينس أن يواجه ما أبقاه بعد ذلك سرا مطويا بين جوانحه ثلاثين سنة، لا يعرف به سوى حفنة من المقربين إليه. فقد بدأت الصحافة عندما أصبح " زوج زعيمة المعارضة" بعد سنوات عديدة، تنقب في ماضيه لتكتشف أنه كان متزوجا من امرأة أخرى قبل زواجه من مارجريت روبرتس، المراة الطموح التي كانت تسعى لترشيح نفسها عن حزب المحافظين للبرلمان. كانت ابنته كارول تاتشر في الثالثة والعشرين من عمرها عندما سمعت بالخبر أول مرة فأذهلهاـ ولم تفهم كيف أخفى أبوها هذه الحقبة من حياته عن توأميه كل هذه السنين. فهو ليس أول من طلق أو اخترع الطلاق. سألت أمها بفضول وتحد، فقالت لها: "اتركيه، إنه لن يتحدث عن زواجه الأول، فلا تذكري ذلك الزواج أمامه. لقد ترك الطلاق في نفسه جرحا لم يندمل بعد. كان ذلك أثناء الحرب. إنه جزء من التاريخ".

كان دينيس تاتشر التقى مارجو زوجته الأولى عام 1941 في حفل حضره العديد من الضباط. كانت رائعة الجمال تلبس ثوبا حريريا أزرق فبدت له كشعاع من نور يخترق ظلمات لندن الحالكة إبان معركة بريطانيا ضد قاذفات هتلر وصواريخه، ليضىء أفق حياته، فوقع في هواها. لم تكن من ربات الخدور، بل مجندة ترقص شوطا من الليل ثم تركب شاحنتها لتنقل قطع غيار طائرات الـ "موسكيتو" إلى المصنع. كانت ابنة طبيب ريفي تمارس ركوب الخيل والصيد، بينما كان حضريا من ضواحي لندن. ولكن ظروف الحرب قربت بينهما فتزوجا في مارس "آذار" 1942. غير أن الحرب ذاتها سرعان ما فرقت بينهما بعد شهر العسل. فقد التحق دنيس بكتيبته بينما عادت مارجو لتعيش مع والديها، وأصبحت حياتهما الزوجية فترات انفصال طويلة تتخللها لقاءات سريعة. وعندما نقل دنيس تاتشر إلى صقلية في يونيو 1943 اقتصر الاتصال بينهما على تبادل الرسائل. كان يجيد كتابة الرسائل ويدعوها دائما يا "فطيرتي الحلوة". وقد ورثت مارجريت تاتشر فيما بعد هذا النداء.

ولكن دنيس وقع بعد أن تسلم إدارة مصنع "أطلس" في غرام جديد استحوذ على مشاعره ولازمه حتى اليوم. لم يقع في غرام امرأة ولكن في هوى التحكيم في مباريات الـ "رجبي". وقد حقق دنيس من خلال هذه الهواية أكبر قدر من القناعة والاكتفاء النفسي. وكان نشأ كما تقدم مع اللعبة وهو في الخامسة من عمره عندما أخذ أبوه المولع بمشاهدتها يصطحبه إلى مباريات دولية، وبخاصة عندما يلعب فريق نيوزيلاندا القومي في ملعب "تونكينهام" الشهير في لندن. وظل دنيس تاتشر يحكم مباريات الـ "رجبي" حتى عام ،1963 واعتبر حكما جيدا، ولكنه لم يصل كعادته في كل ما فعله إلى القمة ولم يصل إلى مستوى التحكيم في مباريات على صعيد قومي أو دولي.

في السنوات اللاحقة بعد أن تزوج مارجريت روبرتس، التي لم تكن مولعة بالـ "رجبي" رافقته مرة واحدة فقط لم تكررها لمشاهدته يحكم إحدى المباريات. فلم تحب الإهانات التي قالها الجمهور للحكم.

تاتشر الثانية

كان حزب المحافظين البريطاني يبحث في عام 1949 عن "فدائي" يرشحه عن دائرة "دارتفورد" من ضواحي لندن الجنوبية الشرقية، فالمنطقة صناعية يسيطر عليها حزب العمال بأغلبية 20 ألف صوت. "وقد اتصل جون ميلور رئيس جمعية المحافظين في الدائرة بدنيس تاتشر عارضا ترشيحه عن الحزب لدائرة "دارتفورد" فرفض دنيس على الفور، بدعوى أنه بطبيعته لا يميل إلى السياسة. ولكن شابة طموحا اسمها مارجريت روبرتس، قبلت العرض. أعجب أعضاء هيئة الانتقاء في "دارتفورد" بشجاعتها وطموحها وفهمها الشامل للقضايا، فرشحوها عن الحزب".

ذات يوم جاء ستان سوارد أحد مدراء "أطلس" إلى مكتب دنيس ودعاه إلى العشاء في منزله. قال له يريده مقابلة امرأة شابة جميلة دعتها زوجته إلى العشاء هي مارجريت روبرتس مرشحة المحافظين عن "دارتفورد" وجدها دنيس امرأة جميلة لعساء تستحوذ على اهتمام الحضور، ووجد ثقتها وتصميمها السياسيين ملموسين. كانت مارجريت الابنة الثانية لألفريد روبرتس، وهو بقال من بلدة "حرانثام" في مقاطعة "لينكولنشاير". "ونشأت هي وأختها موريل التي تكبرها بأربع سنوات في شقة فوق البقالة. كان الأب قوي الشخصية مهيمنا بطريقة شكلت بشخصيتي ابنتيه. ولكن ابنته مارجريت" أقنعته أن نمط موارده محدود لدفع كلفة دروس في اللغة اللاتينية التي كانت يومئذ أساسية لدخول جامعة أكسفورد العريقة. وحصلت مارجريت بالفعل على منحة دراسية في أكسفورد لدراسة الكيمياء، وأصبحت رئيسة جمعية المحافظين في الجامعة. وعندما تخرجت عملت كيميائية في مصنع للبلاستيك.

لم تتطور العلاقة بينهما إلى حب عاصف. سئلت مارجريت تاتشر بعد أعوام عما إذا كان حبا من النظرة الأولى، فقالت بطريقة دبلوماسية: "لا. كان أمامنا معركتان انتخابيتان تعين علينا أن نخوضهما أولا" قال دنيس: "رشحت نفسها مرتين عن دائرة دراتفورد، وسقطت في المرتين، في المرة الثانية بكت على كتفي فتزوجتها".

نجاح سياسي

كان الزواج بالنسبة لها أهم مما بدا لدنيس. كان جزءا من صورة سياسية أكبر، وبخاصة بعد أن نصحها ولي أمرها السياسي، اللورد بوسوم، بأنها إذا ما أرادت ارتقاء السلم السياسي فإنها في حاجة إلى زوج وأطفال. أما دنيس فكان حذرا أو ربما مترددا في الغطس في لجة الزواج ثانية. ولا يذكر أي منهما متى تقدم لطلب يدها. قالت: "عندما طلب مني دنيس أن أصبح زوجته فكرت في المسألة تفكيرا جادا وطويلا. لقد اتجه قلبي نحو السياسة إلى حد لم يترك للزواج مكانا في مخططاتي. لقد دفعته إلى عقلي الخلفي وافترضت أن الزواج سيقع من دون تخطيط في وقت ما في المستقبل". ورغم هذا التحفظ يبدو أن نصيحة اللورد بوسوم أقنعتها بأن دنيس تاتشر ينبغي أن يكون جزءا من مخططها لارتقاء سلم النجاح السياسي. ولكن أسرتها استقبلته بفتور وحذر. فقد كان مطلقا يكبرها باثني عشر عاما ويقود سيارة رياضية ويعيش في حي "تشيلسي" الأرستقراطي في قلب لندن. ولكنهما تزوجا في 24 أكتوبر 1951. لم تختر كما تفعل بقية الفتيات ثوب زفاف تقليديا أبيض، ولكن ثوبا من المخمل الأزرق، وقبعة كبيرة غرست فيها ريش نعام. وقضى الزوجان شهر العسل في جزيرة ماديرا البرتغالية في المحيط الأطلسي. وحملت مارجريت روبرتس، اسم تاتشر.

وقررت أن تدرس القانون. فهو أنفع لطموحاتها السياسية من درايتها بالكيمياء. كانت حاملا ولكنها لم تجد في الدراسة ما يتعارض مع الأمومة. قال لها دنيس: "افعلي ما تشاءين يا حبيبتي" كان قوله هذا، الذي أصبح "كليشيه" لردود فعله تجاه أفعالها مستقبلا، أولى الدلائل على أن الزوجين اختارا السير منذ البداية في خطين متوازيين أثبتت الأيام أنهما لن يلتقيا. فعندما وضعت بعد حمل صعب توأميها في 14 أغسطس 1953 بعملية قيصرية قبل ستة أسابيع من موعد الوضع، كان الزوج بعيدا عن هذه الدراما يشاهد مباراة "كريكيت" في ملعب "اوفال". وعندما علم بالأمر لدى عودته سارع إلى المستشفى لتقوده ممرضة إلى محضن يرقد فيه التوأمان. حاولت الممرضة رفعهما إليه، قال: "يا إلهي. إنهما يبدوان كأرنبين. أعيديهما بربك إلى مكانهما".

أما مارجريت فقد حمدت الله الذي رزقها بواحد من كلا الجنسين. فقد كان ذلك نهاية المطاف بالنسبة للانجاب. فلم يكن في مخططاتها الطموح وقت لتكرار التجربة.

دعم قوي

في عام 1956 عادت طموحات مارجريت تاتشر السياسية تطفو إلى السطح، ووضع اسمها على قائمة المرشحين الذين يسعون للحصول على دائرة مضمونة للمحافظين. في عام 1958 رشحت عن دائرة "فنشلي" في شمال لندن التي كانت أغلبيتها المحافظة تزيد على 13 ألف صوت. اختيرت بأغلبية بسيطة 46 ـ 43 من أصوات لجنة الانتقاء. ولم يستطع بعض المدراء إخفاء استيائهم من اختيار امرأة. أما دنيس فكان متغيبا كالعادة فيما وراء البحار."عندما غير طائرته في كانو بنيجيريا، وجد على المقعد المجاور نسخة من صحيفة بريطانية. وفي صفحة داخلية قرأ خبر ترشيح زوجته عن دائرة "فنشلي"". قال إنه سعيد بالخبر. ولكن عندما بدأت الحملة الانتخابية التي ستجري في 8 أكتوبر 1959 اتبع من البداية سياسة "وأنا مالي". كان يبتسم للكاميرات، ولكن لا يقوم بأي نشاط. فقد كانت فكرة قرع أبواب الناس، وطلب تأييدهم لا تنسجم مع خجله المزمن. ولكن زوجته قالت في مقابلة نشرت في صحيفة "ايفننج نيوز": "زوجي مبتهج للغاية بهذه الحملة، ومن الطبيعي إنني ما كنت أفكر في خوضها دون مباركته. وهو يأتي إلى كل اجتماعاتي الانتخابية ويشكل دعما قويا لي". وفي يوم الانتخابات زادت مارجريت أغلبية المحافظين في "فنشلي" بـ 3500 صوت.

ولم يغير فوزها في حياته شيئا أو يؤثر على روتينه اليومي. قال لابنته: "لم يؤثر ذلك على حياتي اليومية، وإن كان المرء أصبح يقضي وقتا كبيرا في تلك الدائرة اللعينة". ولكن دنيس قد يكون مبالغا في قوله. فقد أصبحت مارجريت تتأخر كل ليلة في البرلمان، وأصبح هو بالتالي يسهر خارج البيت مع أصدقائه ويعاقر الشراب. ولكن مارجريت قالت في مقابلة مع "ايفننج نيوز" إن زوجها لا يشكو من عملها متأخرة في البرلمان. فهو إنسان مشغول لا تجده أكثر من أمسية واحدة في البيت. وانعكس ذلك أيضا على حياة الطفلين. فقد وجدت كارول أمها ذات يوم في المطبخ تعد كعكة زنجبيل. سألتها لماذا لا تقضين مزيدا من الوقت في البيت كما تفعل بقية الأمهات؟ لماذا لا تصبحين مثلهن؟ أجابت الأم: "اذا فعلت ذلك كيف سيتسنى لكما تناول الشاي معي في مجلس العموم؟" وعندما قطعت الأسرة الكعكة بعد العشاء وجدت داخلها ملعقة. ويبدو أن الهاتف دق أثناء إعداد المزيج ونسيت مارجريت تاتشر الملعقة فيه.

زوج الست

كان دنيس ينظر بتفاؤل إلى موعد تقاعده الذي اعتزم أن يجعله جزئيا بقبول مناصب غير تنفيذية في مجالس إدارات بعض الشركات، وينظم روتين حياة متوازن بين لعب الجولف ومواعيد غداء مع الأصدقاء ومشاهدة مباريات الـ "رجبي" الدولية. ولكن الرياح لا تسير بما اشتهى دنيس تاتشر. فقد خسر المحافظون بزعامة إدوارد هيث انتخابين عامين سنة 1974. وكان ذلك إيذانا بنهاية هيث كزعيم للحزب. ولكنه لم يذهب طواعية. "كان المرشح المنطقي لمنافسة هيث على الزعامة هو كيث جوزيف. كان جوزيف مفكرا يهوديا وسياسيا يمينيا ورجلا وقورا يتمتع بكبرياء. وكانت مارجريت تاتشر من أقوى أنصاره وأقرب أصدقائه. اعتبره دنيس تاتشر أحد أعظم الرجال في إنجلترا، ولاحظ تأثيره القوي على تفكير مارجريت. ولكن كيث فقد فرصته في منافسة هيث بعد أن ألقى خطابا قال فيه إن المستوى البشري في المجتمع يتردي لأن الأمهات في أسفل السلم الاقتصادي ينجبن العديد من الأطفال. اثار قوله غليانا في وسائل الإعلام وحاصرته الصحافة دون رحمة فقرر عدم ترشيح نفسه للزعامة. قالت له مارجريت تاتشر: "إذا لم ترشح نفسك رشحت نفسي"". في صباح الاقتراع على الزعامة وجدت مارجريت تاتشر ابنتها كارول منكبة على كتاب تراجع محتوياته بضيق. سألتها عما بها. قالت كارول إن ذلك اليوم هو يوم الامتحان النهائي في القانون. أجابت الأم بابتسامة موبخة: "لا يمكن أن تكوني متنرفزة أكثر مني".

ولكن سرعان ما ثبت أن نصرها ساحق. فقد حصلت على 146 صوتا أي أكثر مما حصل عليه المتنافسون الأربعة الآخرون على الزعامة بعشرين صوتا.

بعد أن خمدت ضوضاء النصر بدأ قسم من الصحافة وحزب العمال في الترويج إلى أن زعامتها مؤقتة وضعيفة. فقد كانت امرأة في عالم الرجال.. فضولا سياسيا، والأسوأ تجربة في حقوق المرأة. وتوقع كثيرون أن يسقطها الحزب في أول فرصة بعد أن يستعيد حواسه، في صالح رجل. "إدوارد هيث الذي شن عليها حملة شعواء كان يكنوها "TBW" الأحرف الأولى من "تلك المرأة الدموية"".

خلية نحل

منذ أن أصبحت مارجريت تاتشر زعيمة لحزب المحافظين أدرك دنيس أن حياته أصبحت مرتبطة سياسيا وإداريا بمهنة زوجته. وأصبح منزله في حي "تشيلسي" كخلية نحل، يعج بالسكرتيرات والمستشارين والحرس الخاص والبوليس على الباب، فازدادت غربته. كانت تفاخر في السابق بأنها ترتجل خطاباتها، ولكن الوضع تغير بعد أن أصبحت زعيمة المعارضة. فقد أصبح مستشاروها يكتبون خطاباتها، وكان ذلك يستغرق حتى الساعات المبكرة من الصباح. وعندما كانت تسمع قرقرة أمعائهم تصطحبهم إلى المطبخ لتسخن لهم أطباق الـ "لازانيا" المجمدة. وتكرر هذا الحال حتى أقسم أحد مستشاريها أن يستقيل إذا أطعمته "لازانيا" ثانية. كانت تقول لمستشاريها بعد الأكل: "اتركوا الأطباق مكانها فإن دنيس سيغسلها". تقاعد دنيس من وظيفته بعد شهر من عيد ميلاده الستين، ليتفرغ لمهنة مليئة بالمخاطر هي "زوج الزعيمة" على الرغم مما يعانيه من خجل. قال: "لو قلت لي قبل عشر سنوات أنه يتعين علي أن أدخل غرفة مليئة بالغرباء لأصافحهم وأتجاذب معهم أطراف الحديث، لقلت لك إنك تخرف". ولكن هذا ما حدث، وأصبح عليه أن يجهد للتخلص من خجله. "وفي هذه المرحلة اتخذ قرارا، اعتبرته ابنته كارول ذكيا وشجاعا، بعدم إعطاء أي مقابلة صحفية حتى لا يزل لسانه ويوفر لوسائل الإعلام ذخيرة تطلقها على زوجته". "كان منذ البداية الكابح الوحيد لها. كان قلما يتدخل ولكنه عندما يفعل كان حازما. أثناء اجتماعات رؤساء حكومات الكومنولث في لوساكا سنة 1979 بعد أن أصبحت مارجريت تاتشر رئيسة للوزراء، اجتمع الوفد البريطاني وطال الاجتماع إلى وقت متأخر. كان دنيس يجلس بعيدا يقارع كأسا من الشراب. إنه لا يذكر ما هو موضوع البحث، ولكن الحديث كان يدور في حلقة مفرغة دون أن يصل المجتمعون إلى قرار. مشى عبر الغرفة إلى منضدة الاجتماع وقال لزوجته: "اسمعي يا امرأة، إن الموظفين متعبون وحان الوقت لكي يذهبوا إلى فراشهم".

تنفس بيتر كارينجتون وزير الخارجية الصعداء وقال: "الشكر للسيد المسيح" كان واضحا أنه الوحيد الذي يجرؤ على قول مثل هذا الكلام".

وربما دفع دنيس إلى تلك التصرفات ضرب من الرفض التام لوضعه الجديد الذي جعله أكثر وحدة لأنه أصبح زوج امرأة متزوجة من وظيفة. فقد كانت تمر الأيام دون أن يرى من زوجته سوى كعبي السلطة يندفعان دائما لإنجاز مهمة رئيس الوزراء التالية. كانا عندما يذهبان إلى حفل عشاء تنكب في السيارة على مراجعة نص خطابها وتعديله. وعندما كان يعودان من لندن إلى "تشاكرز" كان أحدهما ينام في الطريق. "تقول ابنتهما كارول: "ليس من السهل أن تجد نفسك غريبا في حياة زوجتك بعد ثلاثين سنة من الزواج. فالتجارب المشتركة لم تعد تتعدى اجتماعات رسمية يحضرانها معا. ربما كان لرئيسة وزراء أخرى اهتمام مشترك مع زوجها او رغبة في قضاء بعض الوقت معه في فسحة أو إجازة. ولكن مارجريت لم ترغب في شيء سوى أن تكون رئيسة وزراء".

ولكن كارول ربما أخفقت في إنصاف أمها، أو الغوص في مكنونات نفسها، أو تقدير الضغوط ومسئوليات الدولة التي استحوذت عليها. ففي ذات يوم ذهبت كارول إلى الشقة الخاصة في 10 "داوننج ستريت" فوجدت أمها تتناول شرابا مع سكرتيرتها الخاصة. كانت أعدت بعض الطعام وجلست في انتظار عودة دنيس في أية لحظة لتتناول العشاء معه. دق جرس الهاتف فردت عليه السكرتيرة. كان المتكلم دنيس الذي قال إنه سيتأخر حيث هو. تنهدت رئيسة الوزراء وقالت: "هذه قصة حياتي".

فقد أصبح دنيس في هذه المرحلة من حياته يعتمد أكثر من أي وقت مضى على صداقاته الشخصية كمتنفس له وملجأ له من وحدته. لم يرد ـ كما لاحظ جوردون ريس أحد مستشاري رئيسة الوزراء ـ أن يشارك زوجته السلطة أو يحضر اجتماعا لمجلس الوزراء أو أن يعين في أي مركز. قال ريس: "إن النصر الأعظم الذي حققه دنيس هو ما لم يفعله، وليس ما فعله فقط، فقد كان دوره كمرافق لرئيسة الوزراء انجازا عظيما أيضا، وإن أخذ فيما بعد يرفض السفر مع زوجته في رحلات قصيرة لليلة واحدة في أوربا أو نيويورك. وعندما يفعل لم يكن يخفي امتعاضه من مضيفيه. فلم يكن يحب الزعماء الأفارقة ويصفهم أوصافا بذيئة "وكلهم اشتراكيون دكتاتوريون، أول ما يفعلونه هو فتح حساب في مصرف سويسري، ثم يبنون لأنفسهم قصورا فخمة" ولم يستلطف أنديرا غاندي او تستلطفه. السبب أنه أجلس إلى جانبها في حفل عشاء لزعماء الكمنولث، فألقت عليه محاضرة في سوء إدارة البريطانيين للهند في عهد الـ "راج" وعندما بالغت في انتقادها استجمع قواه القومية وقال: "ولكن لا تنسي يا مدام إننا بنينا لكم شبكة السكة الحديدية. ودونها ما كان يمكن ان تكون الهند على ما هي عليه اليوم" "وسمع ذات يوم يذمها بصوت مرتفع وتعبيرات نابية، في حفل استقبال لكبار موظفي الكمنولث في 10 "داوننج ستريت".

أما رئيسة جورباتشوف فقد استلطفته كثيرا. يقول دنيس: "بعد أن طردنا من 10 داوننج ستريت" دعينا إلى حفل استقبال أقامه جون ميجور للزعيم السوفييتي وزوجته. وعندما رأتني رئيسة فتحت ذراعيها واحتضنتني. كنا متفاهمين تماما". ويروي أن ميخائيل جورباتشوف يتمتع بنوع عابث من المرح. ففي زيارة قاما بها للكرملين سنة ،1991 سأل جورباتشوف مارجريت تاشتر: "لماذا لم تصطحبي ابنك مارك هذه المرة؟ فلدينا العديد من الصحاري يضيع فيها". كان ذلك تهكما لاذعا على ضياع مارك تاتشر في صحاري جنوب الجزائر عندما كان مشتركا في سباق السيارات بين باريس وداكار سنة 1982.

ملاحظة نادرة

أصيب الزوجان بصدمة عنيفة عندما حدث انفجار قنبلة غرسها الجيش الجمهوري الايرلندي في فندق كان ينزل فيه زعماء المحافظين. فقد كانت صدمة مارجريت سياسية. قالت لابنتها: "هذا هو اليوم الذي ما كان يفترض أن أراه". "كان عليها بعد ساعات من الانفجار ان تقف امام الألف من اعضاء الحزب في برايتون، لتؤكد للمحافظين وللشعب البريطاني عامة أن الحياة لم تتوقف بعد انفجار برايتون. وكانت في خطابها قوية عنيفة استحوذت على اعجاب الأمة".

اما دنيس فكانت صدمته داخلية. فقد ظل مدة اسبوع كما قال اصدقاؤه هادئا كئيبا. لم يكن من عادة اي منهما اظهار عواطفه او شراء هدايا صغيرة لبعضهما البعض. لكن دنيس اشترى لزوجته في هذه المناسبة ساعة معصم، وارفقها بملاحظة نادرة "كل دقيقة غالية الثمن".

بدأ انحدار مارجريت تاتشر في يناير 1986 عندما استقال مايكل هزلتاين وليون بريتون "وزيري الدفاع والتجارة والصناعة" من مجلس الوزراء بسبب خلاف على ما إذا كان يتعين على الحكومة أن تقبل عملية انقاذ امريكية او فرنسية لشركة ويستلاند لصناعة المروحيات التي كانت تعاني من متاعب مالية خطيرة. قال دنيس: "إن الأزمة مثل المسلسل التلفزيوني، إذا لم تشاهد حلقة ضاع عليك كل شيء". وما كادت أخبار الأزمة تختفي من الصفحات الأولى حتى ارتكبت مارجريت تاتشر في أبريل 1986 خطأ، بالسماح للقاذفات الأمريكية المتمركزة في بريطانيا بقصف ليبيا، بينما رفضت فرنسا حتى السماح لهذه القاذفات بعبور أجوائها. خفض هذا الاجراء شعبية تاتشر اذ لم يؤيده سوى شخص واحد من كل خمسة بريطانيين، وتدهورت شعبية حزب المحافظين إلى المركز الثالث بعد العمال والتحالف. ومع ذلك كسبت مارجريت تاتشر انتخابات يونيو 1987. كانت الانتخابات منهكة لدنيس، وأحس بأن بهجة النصر سرعان ما تتبخر ليحل محلها إحساس بأن المسألة طالت كثيرا. كان يومئذ يشاهد زوجته على شاشة التلفزيون تتفجر حيوية وهي تتقبل هتاف الجماهير وتصافح المهنئين وكأنها باقية أبد الدهر. قال دنيس لابنته كارول: "بعد عام واحد ستفقد شعبيتها تماما". كان قوله بمثابة نبوءة. "ففي 19 أكتوبر جاء "الاثنين الأسود" عندما حدث انهيار عالمي في سعر السندات والأسهم. فقد بدأ الانهيار في "داو جونز" وانتقل بفعل الدومينو ليعم لندن وهونج كونج وطوكيو. في ذلك اليوم خسرت بريطانيا 15% من قيمة موجوداتها. وسادت مخاوف من وقوع انهيار اقتصادي عالمي على غرار ما حدث عام 1929.

أرقام قياسية

ولكن دنيس كان قد قرر بعد الفوز في انتخابات 1987 أنه لا يريد لزوجته أن تخوض المعركة ثانية بعد أن حطمت كل الارقام القياسية في مدة بقائها في السلطة. كان يدرك أن هناك دائما وقتا للتغيير، وأن هذه القوة الدافعة وحدها كفيلة بإسقاط زوجته. كانت مارجريت تاتشر تتضايق عندما يتحدث دنيس في هذا الموضوع. وحتى عمود "عزيزي بيل" استطاع أن يتلمس تمرد دنيس على الوضع "بصراحة يا بيل، اتخذت قرارا بشأن دورة الحكم التالية. قلت لـ "الرئيسة" قد يكون مناسبا لك أن تستمري إلى ما لا نهاية، ولكن أسنان بعضنا تخلعت ولم تعد تحتمل مثل هذه الأشياء. وإلى هذا فقد أنفقت الكثير من المال على بناء قبو لزجاجات الخمر في داليتش "في البيت الذي اشترياه لتوهما في ضاحية داليتش بنصف مليون جنيه" إنني ألح لمعرفة متى سأتمتع بثماره".

وذات ليلة كان دنيس عائدا مع ابنته من عشاء مع بعض الأصدقاء مشيا على الأقدام. كان الظلام وبرد لندن يلفانهما وقد استحوذت عليهما هواجس جامحة. توقف فجأة ونظر إلى كارول ورفع نظارتيه ليمسح دموعه. احتضن ابنته وهمس في أذنها بصوت متكسر: "إن ما يؤلمني هو الخيانة والغدر. هذا كل شيء" ـ مشيرا إلى خيانة زملاء مارجريت في مجلس الوزراء ـ تقول كارول: "كانت تلك المرة الوحيدة التي رأيته يبكي". أصبح شاغلها قبل أن تترك 10 "داوننج ستريت" أن تضمن هزيمة هزلتاين، فألقت بثقلها وراء جون ميجور. فقد استقالت في حقيقة الأمر حتى تحول دون وصول هزلتاين إلى رئاسة الوزراء. كانت مارجريت تاتشر مع آخرين قد سعوا خفية قبل استقالتها لضمان مكافأة لدنيس على الدور الذي قام به كـ "زوج لرئيسة الوزراء". ففي السابع من ديسمبر 1990 منحت الملكة اليزابيث مارجريت تاتشر أعلى وسام في البلاد لتصبح البارونة تاتشر، ومنحت دنيس لقب سير ليصبح بارون سكوتني. وقد حرصت مارجريت تاتشر على أن يكون اللقب الذي يمنح لزوجها وراثيا. فقد اعتقدت أن الصحافة لاحقت ابنها مارك حتى هرب إلى الولايات المتحدة. ومن حقه أن يرث لقبا بعد وفاة أبيه يعيد إليه الاحترام.

 

نديم ناصر

 
  




غلاف الكتاب





كارول تاتشر





الملكة إليزابيث الثانية بصحبة البارونة





البارونة مارجريت تاتشر في مؤتمر حزب المحافظين