من كناسة الذكريات فؤاد دوارة

هذا هو كتاب يحيى حقي الأخير.. كناسة الدكان كما أسماه تواضعاً. ولكن نظرة متأنية لصفحاته تبين لنا أن هذه الكناسة لا تخلو من الدر والجوهر تماماً بنفس القيمة الأدبية التي قدمها لنا شيخ الكتاب العرب طوال عمره.

في أول لقاء بين الشاعر العظيم بيرم التونسي والكاتب الكبير يحي حقي، فوجي الأخير بالشاعر يربد وجهه ويفاجئه بقوله:

- هو أنت؟ الله يخرب بيتك!

والحكاية باختصار أن "بيرم" كان في باريس يعاني شظف العيش، ولا يجد قوت يومه، فوصله ذات يوم إخطار من البريد بوصول طرد له، فظن أن صديقاً في مصر أرسل له بعض الملابس أو المأكولات، ودفع الأرضية التي طلبت منه، وكانت كل ما بقي في جيبه من نقود، فإذا به يجد الطرد عبارة عن مجلة قديمة، فرماها على الأرض وهو يلعن ويسب.

وكان على بيرم أن ينتظر أكثر من ثلاثين عاما ليعلم أن مرسل هذه المجلة القديمة إليه هو يحيى حقي، وأنها كانت تحوي مقالا له يشيد فيه ببيرم وأزجاله، ويعده إماما في فن القصة القصيرة أيضا، "كأنه يريد أن يقول له: في مصر إنسان يحبك ويعجب بك ويشيد بفنك ويهمه أن يبلغك هذا الحب وأنت في غربتك...".

وأنى له أن يعلم أن بيرم كان في غنى عن هذا الحب والإعجاب والإشادة، وأن لقمة جافة تقيم أوده كانت أثمن في نظره من أطنان الحب والإعجاب.

وفي عام 1968، أي بعد وفاة بيرم بأكثر من سبع سنوات، تذكر يحيى حقي هذه الواقعة فسجلها في مقال بمجلة "المجلة" بعنوان "من كناسة الذكريات".

صورة حزينة ومؤلمة

في القسم الأول مقال يعتز به يحيى حقي بصفة خاصة، حتى أنه قال لي بعد صدور الكتاب:

- لو أنك لم تنقذ غير هذا المقال لكنت قد أسديت لي الكثير.

المقال عنوانه "وجها لوجه" يصف فيه بأدق التفصيلات مصرع زميل له بالمدرسة السعيدية تحت عجلات الترام.

"... رأيته واقفا مزحوما مشعبطا على حافة طرف السلم الكنز في مقدمة هذه العربة، قد ثبتت له قدم وبقيت الأخرى طليقة كأنها ملتذة بحريتها، في الهواء في كل مطب يضرب الكعب الحر الكعب الثابت ثم يفترق عنه. في لفة ذراعه الأيمن رزمة من الكتب مختلفة الأحجام لا بد من ضغطها على ضلوعه ونحو إبطه لئلا تنفرط وتسقط، وذراعه الأيسر ملتف كالحلقة الناقصة حول العمود الحديدي الواصل بين سقف العربة وأرضها، يمسكه به عضة من ثنية كوعه عليه...".

ووصل الترام القادم من الجيزة إلى كوبري الزمالك، وانثنى إلى اليمين ليعبر الكوبري خطفا، فتمايل الراكبون وصدم بعضهم بعضا بالأكتاف..."

" في لحظة مرت كالبرق رأيت رزمة الكتب تدور يسارا مع قدمه الطليقة لتصدم وجه جدار المقطورة. أصبح جسمه كله معلقا في الفراغ بين العربتين. دار حول كعبه الثابت. تراخت عضة كوعه على العمود من عضة الجذب إلى اليسار. انفلت العمود من الجزء الناقص من حلقة ذراعه الأيسر. شده، نقله كعبه الثابت وأزاحه عن موضعه. لا أنسى منظر أصبعه البنصر في يده اليسرى، يحاول أن يستدير ليقبض على العمود. العمود أضخم من حلقته. كدت أسمع حكة هذا الأصبع بالحديد. لا شك أن جلده قد تسلخ".

"وهوى وغاب عن عيني. تناثرت الكتب كرش الملح، ثم طب، طب. قفزت المقطورة مرتين كأنها هرست ريشة وضعها صبي معابث على الشريط. مرة بالعجلة الأمامية"ومرة بالعجلة الخلفية".

" فززان من المقاعد. صراخ. حاسب. حاسب. فرمل، فرمل. كل من شاهد مصرعه تكهرب جسده وامتقع له، أحسست أن شعر رأسي كاد يقف، فالفروة سخنت فجأة وآلمتني. ونزلنا وجرينا إلى الوراء ربما عشرة أمتار، فإذا هو ملقى على ظهره فوق أسفلت يكاد يغلي. بترت ساقه بترا تاماً من فوق الفخذ، وانفصلت مطروحة بعيدة عنه، لا يزال حذاؤها في القدم، رباط الحذاء غير منحل...".

هذا جانب من الوصف الدقيق الذي كتبه يحيى حقي لمشهد أول إنسان يحتضر أمامه يكاد فمه يلمس فمه من فرط انحنائه فوقه، لم يستطع مرور أكثر من نصف قرن بينه وبين الساعة التي جلس ليكتب فيها أن ينال من واقعية ألوانه أو كثافة أحاسيسه.

ذكريات دبلوماسية

وخلال ذكرياته عن عمله بالقنصلية المصرية بجدة توقف يحيى حقي وقفات غير قصيرة عند يوم الوقوف بعرفات في الحج، أو يوم الحشر كما أسماه، وعن موكب المحمل الذي كانت ترسله مصر كل عام إلى الحجاز مصحوبا بفرقة موسيقية عسكرية، وكيف كانت السبب في أزمة سياسية بين الجانبين بعد أن كاد يقع صدام مسلح بين غلاة الوهابيين وهذه الفرقة الموسيقية.

ونتيجة لتحريم الحكم الوهابي الجديد للموسيقى تحريما صارما كان هواة الموسيقى يتفننون في تهريب الأسطوانات بداخل أثواب "المانيفاتوره" ويقيمون حفلات الاستماع إليها سرا، مما وصفه الكاتب في الفصل المعنون "حفلة موسيقية كتيمي" بدعوة من شاب حجازي، وضمع "الفونغراف" تحت الكنبة وسد الفجوة التي يخرج منها الصوت بفوطة كبيرة.. إلى آخر تلك الإجراءات الوقائية!.

كما وصف لنا حفلة غنائية أخرى حضرها في بيت رجل ثري بالمدينة المنورة، والمفروض أن المطرب لا يقدم إلا التواشيح الدينية، غير أن المجتمعين ظلوا يزحلقونه بسرعة لينتقل من دور لآخر حتى انتهوا به إلى غناء قصيدة "أنا على دينك". ويضيف:

"زالت دهشتي حين تبينت أن أغنية" أنا على دينك" هي نسخة طبق الأصل لحنا ونصا ولهجة عامية مصرية لأغنية لأم كلثوم كانت شائعة في ذلك الوقت ومطلعها "أنا على كيفك"، حينئذ اهتز جميع الحاضرين من شدة الطرب وطفح البشر على الوجوه. انظر كم كانت بارعة وساذجة معا حيلتهم في كسر القيود وهدم السدود لينفذ الطرب إلى قلوبهم ولو من أضيق ثغرة".

الحاج فيلبي

من بين من التقى بهم يحيى حقي في أثناء عمله في السعودية سنة 1929 المغامر الإنجليزي سان جون فيلبي أو الحاج عبد الله فيلبي كما أطلق على نفسه، وقد روى لنا بعض ذكرياته معه، وكيف كان كلما مر تحت نافذته، ووجده ساهراً، وصوت "التايبريتر" لا ينقطع تحسر على جهله وجهل زملائه وكسلهم وتراخيهم وتواكلهم.. يقول:

".. اشتريت كتابه الذي ألفه عن اجتيازه لصحراء الربع الخالي، واعترف أني عجزت عن قراءته لأنه محشو بألفاظ عديدة عن علم طبقات الأرض، فيه وصف لتركيب كل حجر وكل صخر مر به، فيه وصف مستفيض للألوان وذوق أطيافها الدقيقة.. نحن العرب المسلمين لا نعلم شيئا عن الجزيرة العربية، والذي نقرؤه في الشعر الجاهلي نقرؤه وعيوننا عمي ويجيء رجل من بلاد الضباب، لا لغتنا لغته، ولا ديننا دينه، فيجوب هذه الجزيرة شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، لا يبالي بالأهوال والأخطار، ثم يسجل كل ما يراه، وينشره للناس، وهو عالم أن الذين سيقرأون كتابه من المتكلمين بالعربية قلة تعد على أصابع اليدين، والذين سيفهمون منهم ما يقرأون يعدون على أصابع اليد الواحدة ".

غير أن هذا القسم من الكتاب لا يضم ذكريات الكاتب وحدها، بل كذلك كثيرا من حقائق السياسة والدبلوماسية في ذلك العصر وأصولها، وقد مرت بنا إشارة إلى أسباب قطع العلاقات الدبلوماسية بين مصر والحجاز، بسبب الفرقة الموسيقية العسكرية المصاحبة للمحمل، ونتوقف فيما يلي إلى تقسيمه للسياسة البريطانية في الشرق حينئذ إلى منطقتين:

"منطقة الروبية (الهند والبلاد العربية الواقعة على الخليج، وقد يدخل فيها العراق أيضا) ومنطقة ريال ماري تيريزه (بقية بلاد الصحاري في الجزيرة العربية)، فكان لكل منطقة رجالها المتخصصون. لكل من الفريقين عقليته ومزاجه. فريق الروبية أوثق صلة بالجيش. يهيم بالاستعراضات العسكرية. يتجمع حول نائب ملك يحكم الهند كإمبراطور منفوخ. يصف الراجات أمامه وتحته، وقد زينوا بالحلي أيديهم وأرجلهم وآذانهم كأنهم مسوخ في سيرك.

أما فريق ريال ماري تيريزه فأمره عجيب. شبان أذكياء يتخرجون في أرقى الجامعات، اللغة اللاتينية والإغريقية حشو جعبتهم الثقافية. ولسبب خفي يهيمون بالشرق فيداعب أحلامهم. هو عندهم بلاد السحر، فيترجمون كلمة السحر بكلمة السياسة ويتطوعون لخدمة الإمبراطورية البريطانية في البلاد العربية. في أذهانهم أحلام عن دسائس ومؤامرات ومغامرات كأنها قصة بوليسية. رحلات سرية عبر الصحراء على ظهور الجمال. أخطار بالليل. فيهم من يأفل نجمه أو تنتهي. حياته بعد الخطوات الأولى، فلا يبقى له ذكر. ومنهم من يبني له في نظر قومه مجدا لا يقل عن أمجاد أبطال الأساطير كما حدث للورانس.".

فنان غشيم في الكار

في الفصل الأول من القسم الثالث في كتاب "كناسة الدكان" (وهو الذي عنوناه "في دروب الحياة" ) يتابع ذكرياته عن لقائه الأول بالحضارة الغربية في روما، وقد أسماه "مذكرات فنان غشيم في الكار..!"، ويحكي فيه كيف بدأ يتعلم بالاستماع والنظر- لا بالقراءة- فيدخل المتاحف ويغشى الأوبرا وحفلات الكونسير، ويحاكي قرناءه في السلك الدبلوماسي من الإنجليز والألمان والأمريكان.

وفي فصل "اعترافات.. ومضايقات" يحدثنا الكاتب عن محاولاته الفاشلة في البحث عن صدى كتاباته لدى القراء.. وكان آخرها رجلا قال له وهو يمدحه بلا سبب:

- إنك رجل تقدمي، ولكن هل كتبت شيئاً عن "لمبة الست نفيسة"؟ يشير إلى قصته الشهيرة "قنديل أم هاشم".

وفي " من 5 و 37 إلى 40..! " يسخر يحيى حقي من تقاليع الشعر الحديث ومسرح العبث، ويختار منهما ما يناسب المريض حسب ارتفاع درجة حرارته، وينتهي بترجمة فقرات من مسرحية "في انتظار جودو" لصامويل بيكيت لمن وصلت درجة حرارته إلى 40.5!.

أما "حماقة" فيروي فيه قصة مقال كتبه متظرفا فإذا به يسيء إلى صديق عزيز عليه دون قصد ويستحق لومه وعتابه فينصحك بالا تفرط في التظرف السمج، وألا تفرط في الحماس لئلا تقع في التهور الأحمق".

وفي "لقاء الحياة.." وهو يتحول من الصبا إلى الشباب، ويتأمل في وجوه الناس، يحاول أن يتعرف على طبعه بين طباعهم، استطاع أن يتبين ثلاثة أنماط انقبض لها قلبه. يقول:

"أحسست أنها تخدعني عن الحياة. كنت واثقا أن الحياة في حد ذاتها متعة ليس كمثلها متعة. ولكن يهدرها ويفسدها ويثلم شرفها أن تؤخذ بالحيلة والمكر والمؤامرة- كالنمط الأول- أو بالنصب وتمثيل دور من الأدوار دون أن أعيشه كالنمط الثاني، أو أن أعيشها معيشة الحيوان كالنمط الثالث.

إن أردت تعلم هذه المتعة فينبغي لي أن أتبين أنها أكبر نعم الله سبحانه علي، وأن ألقاها رافع الرأس وجها لوجه، لقاء حبيب بحبيب، وتمنيت أن لو أصبح شاعراً يتغنى بالحياة وما ألذ أحلام الشباب".

ويحدثنا يحيى حقي في "مجرد ظهور" عن قوة تأثير هجمة التلفزيون على حياتنا وسلوكياتنا، فما زلنا نفرح بمجرد ظهور واحد منا على شاشته ونهنئه على ذلك دون أن نشغل أنفسنا بما قال، وهل وفق فيه أو لم يوفق.. أما "المهنة" فهي تصور حيرته في الصفة التي يضعها أمام اسمه في خانة المهنة.. " هل أقول "كاتب" فلا أضمن أن يجيئني سؤال: كاتب حسابات؟.. كاتب طابونة؟.. كاتب عمومي أمام محكمة؟.. أم أقول أديب.. الأدب صفة.. فهل يصلح أن يكون صنعة أو مهنة.. وأخيرا اهتدي إلى الحل وأكتب "بالمعاش"، لا أقصد أنني كنت موظفا ثم بلغت سن الستين، بل أنني لا أزال أعيش.. وهي مهنة حلوة ولا ريب!..".

عبق الذكريات القديمة

بقي في هذا القسم فصل "الزهرة والإصيص" تعمدت أن أؤخر الحديث عنه لتفرده بجمال خاص- يستمده من عبق الذكريات القديمة، وبراعة الكاتب في رسم ملامح بطلته، ومشاعره هو وأقرانه نحوها...

"هذه الطفلة الشقراء أم الضفيرتين، النظيفة الملبس.. جورب للركبة أبيض ناصع، وحذاء قصير أسود لامع تجللها "الستوتية" من قمة رأسها إلى أخمص قدميها. إن تكن واحدة منا نحن أطفال الحي الذين يلعبون في الشارع أمام البيوت فإنها أصبحت منذ أول يوم لها معنا- دون أن ترشح نفسها أو يجري انتخاب- ست البنات عند الشلة. ربما كانت أصغر منا سنا، لكنها كانت لنا جميعا أختنا الكبرى، بل إعزازنا لها يفوق إعزازنا لأخواتنا الشقيقات.. أكبر سعادة لنا أن تقنع بالجلوس على دكة البواب وتراقب هي لعبنا. لا طعم للذة والغلبة إلا على مرأى منها. وهي "الأم" في الاستغماية عندها نودع ماكسبناه من البلي الملون والرصاص إذا ضاقت به جيوبنا. هي التي تقرر إذا كان "الجون" محسوبا أو غير محسوب".

لا بأس عندنا أن تقوم أحيانا لتشارك في نط الحبل، بمفردها، أو بين اثنتين تتوليان ترقيصها، لتسحرنا برشاقتها الهوانمي....".

ثم قبيل الغروب يطلع علينا بائع الجيلاتي التركي القزم، عم سوسو، ينفخ في بوق صغير، فنتحلق حوله، ويشتري كل منا قمعا، ثم نتفرق وندخل بيوتنا.. نفخ هذا البوق لايزال يرن في أذني إلى اليوم بعد أن جاوزت الستين".

وكبر أبناء الحي وأصبح فيهم المحامي والطبيب والملحق الدبلوماسي، وتزوج بعضهم من بنات الحي، ولكن أحدا منهم لم يتقدم لخطبة ست البنات، ربما لأنها كانت في نظرهم شيئا مقدسا لا يمس.. فتزوجت ابن ذوات بدينا، وأصبح بيتها يجمع الشلة بعد تفرقها.. والكاتب يبدأ فصله، بل قصته القصيرة المحكمة، من نقطة متقدمة زمنيا:

" كنت لا أعود إلى الوطن أثناء عملي بالسلك الدبلوماسي إلا في إجازة قصيرة مرة كل سنتين أو ثلاث، فكان أول شيء أفعله بعد أن أنفض غبار السفر، وقبل أن أزور إخوتي، أن أذهب إلى بيتها في الحلمية الجديدة، أن أحج إليها، لأجلس بين يديها في الصالون المريح المكنون... ثم أقدم لها زجاجة العطر الذي تحبه فلا تشكرني بكلمة، فلا يزال من حق الست الستوتة أن تتقبل هدايا عيالها كأنها قربان، ولكن نظرتينا- وهما تبتسمان كتما- تتقابلان خطفا، فإذا المخطوف هو عمري كله منذ طفولتي..."

وبعد أن يصحبنا إلى ذكريات الطفولة العذبة بأدق وأرق تفصيلاتها ومشاعرها، نراه في زيارته الأخيرة لها بعد غيبة طالت ست سنوات:

"... دخلت علي في ثوب ذي كمين طويلين وصف أزرار من أمام، تتوكأ على ذراع زوجها.. جلست على المقد بصعوبة وتناولت الزجاجة مني بيد مرتعشة. تتكلم قليلا ثم تلهث. الشعر الكستنائي أصبح نحيلا، خالطه الشيب، سألتني عن بقية الشلة واحدا واحدا، فأدركت أن زيارتهم لها قد قلت، الدنيا تلاهي....

ولما خرجت للشارع أدركت أيضا- وربما لأول مرة- أن حي الحلمية الجديدة قد تبدل وجها بوجه وأقواما بأقوام أحسست أنني انتهيت من تقليب ألبوم حتى وصلت إلى ورقته الأخيرة، فقفلت غلافه السميك.. مشيت وأنا أصيخ السمع، أنتظر أن يأتيني ولو من بعيد صوت نفخ بوق صغير إذ كانت الشمس قد آذنت بمغيب"

بهذه "النغمة الشاعرية الرقيقة ختم يحيى حقي هذه القصة الرائعة التي سبق أن نشرها كمقال ضمن يومياته في جريدة "التعاون" سنة 1966، وما أكثر القصص الرائعة والقصائد الرقيقة التي نشرها يحيى حقي كمقالات.. وفي كتابه "كناسة الدكان" نماذج عديدة لهذه القصص والقصائد حدثناك عن بعضها، وعليك أن تكتشف الباقي.

وإذا كان في اختيار يحيى حقي لاسم "كناسة الدكان" عنوانا لهذا الكتاب شيء من التواضع والاقتداء بالسلف الصالح، فإني أرى فيه شيئا غير قليل من الاعتداد والصلف، لأن الذي يحدد طبيعة هذه الكناسة هو نوع البضاعة المطروحة للبيع في الدكان، فإذا كانت من الدر والجوهر، فإن الكناسة لا بد أن تكون من الدر والجوهر أيضا.. كما أرجو أن يكون هذا المقال الذي يمثل "كناسة الكناسة" قد أوضح.