الزمن الحي محمد رءوف حامد

الزمن الحي

بعد جديد للنظرية النسبية

كانت النظرية النسبية إحدى البدايات المهمة ليتخلى إنسان عصر الصناعة عن اليقين المغرور في الدقة الهندسية التي راح بنظر بها إلى الوجود. ومع فتح باب الاحتمالات المتعددة غاضت المعرفة الإنسانية أعمق، واكتشفت أكثر وأغزر. ولقد طرح كاتب المقال مفهوم النسبية السيكولوجية. في أحد أعداد العربي السابقة، وها هو يطرح مفهوم النسبية الفسيولوجية، تخريجاً ـ نحسبه جديداً ـ للنظرية التي ضربت يقين الغرور البشري فارتفع شأن فضيلة التواضع الإنساني، وزاد حوار الإنسان مع الوجود ثراء.

اذا كان كل من النسبية السيكولوجية والنسبية الفسيولوجية تطبيقات خاصة للنسبية البيولوجية فان هناك عتبة بين كل من النسبية السيكولوجية والنسبية الفسيولوجية قد اشرنا إليها في عجالة في المقال السابق.

أن الإحساس بالزمن عند الإنسان يتغير في حالات مرضية معينة مثل ازدياد أو انخفاض نشاط الغدة الدرقية عن معدلها. فالنشاط فوق العادي لهذه الغدة يؤدى إلى تسارع الايض في الجسم حيث يصحب ذلك تسارع في أداء الوظائف الفسيولوجية المختلفة (معدل ضربات القلب... الخ)، ويزداد الإحساس بالزمن فيصل الشخص إلى مواعيده قبل الزمن المحدد ويبدو له أن عقارب الساعة تتحرك ببطء عن المعدل الطبيعي ويعيش الشخص ما يمكن تسميته حالة تقلص للزمن. وعلى العكس من ذلك، عند تباطؤ نشاط الغدة الدرقية عن المعدل الطبيعي فإن الشخص المريض لا يعير المواقيت اهتماما ويصل إلى مواعيده متأخرا ويحس كما لو أن الزمن في ساعة يده يمر أسرع مما يجب ويعيش الشخص حالة تمدد أو ارتخاء في الزمن.

هذا، كما أنه في حالات المعاناة البيولوجية الشديدة الألم (السرطان.. الخ) يتغير كثيرا الإحساس بالزمن ويعيش المريض حالة تقلص زمني.

وهكذا فإن اضطراب الحالة الفسيولوجية للجسم والتحول إلى حالة باثولوجية (مرضية) قد يغير من الإحساس بالزمن تغيرا بينا.

وإذا انتقلنا للحديث عن " النسبية الفسيولوجية " فلابد أن نتساءل عن الزمن الفسيولوجى وعن الإطار المرجعي الخاص به، وعن دلالات النسبية الفسيولوجية وتطبيقاتها الممكنة في حياة الإنسان.

لم يفكر العلماء قط قبل النظرية النسبية في قياس زمن الأحداث الفسيولوجية بغير الزمن الكرونولوجي (الساعات والدقائق.. الخ). أما بعد النظرية النسبية فإن البحث في الإطار المرجعي الذاتي للزمن الفسيولوجي قد تأخر كثيرا حتى سنوات قليلة مضت فلنتناول واحدة من أهم الأحداث الفسيولوجية في الحيوانات وهي نبضات القلب أن نبضة واحدة في قلب فأر تستغرق 0,111 ثانية بينما مثيلتها في قلب الإنسان تستغرق 0,973 ثانية. فهل يمكن أن يعني ذلك أن 0,973 ثانية في قلب الإنسان تكافئ فسيولوجيا 0,111 ثانية في قلب الفأر؟

الإنسان.. والفأر

اذا صح ذلك فلابد أن ثمة علاقة ما ستكون موجودة بين الوظائف المرتبطة بالقلب في كل من الإنسان والفأر. اذا تناولنا - على سبيل المثال- زمن دورة تنفسية واحدة في كل من الإنسان والفأر فهل سنجد تشابها من حيث علاقته بزمن نبضة القلب في كل من النوعين من الحيوانات (الإنسان والفأر)؟..

إن زمن دورة تنفسية واحدة يساوي 0,438 ثانية في الفأر بينما يساوي 3,41 ثانية في الإنسان.

لقد لاحظ العلماء أن ناتج قسمة زمن دورة تنفسية واحدة على زمن نبضة قلب واحدة في كل من الإنسان والفأر يكون (تقريباً) 04 معنى ذلك أن كل أربع نبضات في القلب في كل من الإنسان والفأر يقابلها دورة تنفسية واحدة او بمعنى آخر فإن زمن دورة تنفسية واحدة يستغرق أربعة أضعاف زمن ضربة القلب.

وكانت المفاجأة الجميلة للعلماء أن هذه العلاقة البسيطة موجودة بوضوح في كل الثدييات.. الإنسان والفيل والفأر والأرنب والكلب والقط والقرد والضفدع... الخ، ففي كل الثدييات يستغرق زمن الحركة التنفسية أربعة أضعاف زمن الحركة القلبية. إذن نحن أمام إمكان استخدام نبضة القلب كإطار مرجعي للزمن الفسيولوجي.. ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني ببساطة أنه عند قياس أي سلوك فسيولوجي للجسم فإنه يمكن قياسه بدلالة عدد نبضات القلب. ترى ما أهمية ذلك؟

لقد ذكر أينشتاين أن " لكل جسم مرجعي زمنه الخاص به ودون معرفة الإطار المرجعي للزمن الخاص به فليس هناك أي معنى في ذكر الوقت الخاص بحدث ما يتعلق بالجسم المشار إليه " ذلك كان مفهوم أينشتاين عن الزمن. وحيث إن الثدييات كائنات بيولوجية وإن لها ذوات خاصة وصفات مشتركة تختلف عن الإجرام السماوية والإلكترونات.. الخ فبالضرورة (اذا صح مفهوم النسبية) يجب أن يكون لها إطار مرجعي للزمن مختلف عن الزمن الكرونولوجي، يتبع ذلك- بالضرورة أيضا- أن تطبيق الإطار المرجعي المناسب للزمن الفسيولوجي سوف يزودنا بمعان جديدة لا يمكن التوصل إليها عن طريق قياس الأحداث الفسيولوجية بالزمن الكرونولوجي.

ولاختبار الفروض السابق ذكرها أجريت أخيرا بعض الاختبارات بواسطة عدد من العلماء في كل من الولايات المتحدة واليابان اختير منها زمن كمون الدواء في أجسام الحيوانات. فعند إعطاء دواء للإنسان أو للحيوان- أي حيوان- نجد أن الدواء يتوزع في الجسم وبمرور الوقت يذهب خارجه من خلال عدة طرق من أهمها الكبد والكلى. يجرى خروج الدواء من الجسم بسرعة معينة حتى يتم خروجه جميعه. وللدلالة على سرعة خروجه من الجسم يقيس العلماء ما يعرف بفترة "نصف عمر تخلص الجسم من الدواء " وتعني الزمن اللازم لخروج نصف كمية الدواء الموجودة في الجسم وهذا الزمن يكاد يكون ثابتا بالنسبة للدواء ونوع الحيوان.

إن النهج السائد في قياس" فترة نصف عمر الدواء في الجسم " هو القياس بالزمن الكرونولوجي (الساعات والدقائق وا لثواني... الخ). و في التجربة الجميلة التي أود الإشارة إليها قام العلماء بقياس فترة نصف العمر لمضاد حيوي (يسمى سفتيزوكسيم - Cefti Zoxime ) في الإنسان بالإضافة إلى أربعة أنواع من الحيوانات هي الكلب والقرد والجرذ والفأر. واستخدموا في القياس الإطار المرجعي التقليدي (وهو الزمن الكرونولوجي: الساعات والدقائق..) وكذلك الإطار المرجعي الفسيولوجي (ممثلا في عدد ضربات القلب).

وكانت المفاجأة أنه بينما اختلفت فترة نصف عمر الدواء في كل من الإنسان والكلب والقرد والجرذ والفأر عند القياس بالزمن الكرونولوجي اختلافا بينا فان هذه الفترة كانت ثابتة وعددها 7253 نبضة قلب عند القياس بالزمن الفسيولوجي.

هذه هي النسبية الفسيولوجية والتي تعني قياس العمليات الفسيولوجية باستخدام تكرار وظيفة فسيولوجية معينة كإطار مرجعي. وقد اتضح اعتمادا على مفهوم النسبية الفسيولوجية أن متوسط عمر كل الثدييات يساوي تقريبا نفس الزمن الفسيولوجي وهو 800- 900 مليون نبضة قلب.

ثورة في علوم البيولوجيا

وللدلالة على خطورة وأهمية مفهوم النسبية الفسيولوجية في حياتنا أود أن أجذب انتباه القارئ إلى أنه عند تجريب الأدوية في الحيوانات فإن العلماء يبحثون عن نوع من الحيوانات يتشابه مع الإنسان من حيث مستوى الدواء في الدم أو فترة نصف عمر الدواء في الجسم... الخ كما أنهم يشرحون ويفسرون نتائج التجارب المعملية على أساس مقارنة حركية الدواء في أجسام الإنسان والحيوانات اعتمادا على الزمن الكرونولوجي. والآن يتضح للعلماء كما يتضح للقارئ أن التشابه المطلق بين الإنسان وأي حيوان باستخدام الزمن الكرونولوجي هو أمر مستحيل تماما. وأما باستخدام الزمن الفسيولوجي فان التشابه (القائم على النسبة الفسولوجية) هو امر بسيط ووارد مع كل الثدييات.

نتوقع إذن، ونتيجة استعمال مفهوم النسبية الفسيولوجية، قدوم ثورة نظرية وعملية في العلوم القائمة على علم البيولوجا. وارتكازا في مفهوم النسبية البيولوجية بوجه عام توصل العلماء إلى مفهوم غاية في الأهمية وهو أنه عند أخذ وزن الحيوانات (الثديية) كإطار مرجعي للتغير في الخواص البيولوجية للجسم مثل ضربات القلب أو زمن الدورة الدموية أو حجم أو درجة الحرارة أو وزن الهيكل العظمي أو معدل مرور الدم بالكبد أو الكلى.. الخ.. فإن هناك علاقة خطية تربط بين الحيوانات وبعضها بعضا. أن هذا الاكتشاف يعنى أنه طبقا لهذه العلاقة الخطية فإنه يمكن توقع ضربات القلب (أو أي خاصية بيولوجية أخرى) لأي حيوان بمعلومية وزنه. ذلك معناه أنه يمكن. بسهولة استحداث معادلات رياضية بسيطة لوصف وتوقع الأداء البيولوجي للإنسان أو أي حيوان آخر بدلالة الأداء في حيوانات أخرى، وهكذا فان النسبية البيولوجية تفتح بابا جديدا وواسعا للتوصل إلى فهم مقارن للأداء البيولوجى للحيوانات وعلى رأسها الإنسان.

ومن أهم المجالات الواعدة مستقبلا في الاستفادة من مفهوم النسبية البيولوجية هو مجالات علوم الأدوية والقى نحتاج فيها إلى إجراء التجارب العلمية على الحيوانات من أجل فهم سلوك الأدوية في الإنسان وأثرها عليه. وقد أجريت بالفعل تجارب رائدة محدودة في هذا المجال في كل من الولايات المتحدة واليابان على وجه الخصوص وتعتبر هذه التجارب في رأى المؤلف أساسا لتطور مستقبلي قادم ستشهده مختلف علوم الدواء.

تأمل لقياس جديد

ومن الدراسات الرائدة السابق ذكرها أمكن التوصل إلى نتيجة مهمة وهى أن خواص حركية الدواء في الحيوانات المختلفة تتبع تماما مفهوم النسبية البيولوجية، وأكثر من ذلك انه قد يحدث حيود بسيط عن هذه العلاقة الخطية بالنسبة للإنسان فقط. وأن هذا الحيود يمكن تصحيحه (وتوقعه) اذا أخذنا في الاعتبار العلاقة بين وزن الحيوانات من جهة ومعدل الأداء البيولوجى مقسوما على وزن المخ او متوسط العمر المتوقع للحيوان. وبهذه الطريقة فقط تم تصحيح العلاقة الخطية..

أما السر في ذلك فهو أن الله سبحانه وتعالى حبا الإنسان باختلاف جوهري وحاد عن سائر الحيوانات وهو عبارة عن زيادة نسبية في كل من وزن المخ ومتوسط العمر المتوقع عن سائر الحيوانات.

وهكذا فان النسبية البيولوجية أوضحت قيمة الزمن الفسيولوجى وليس الزمن الكرونولوجى بالنسبة للعمليات البيولوجية مما يعنى أن هناك قوانين عامة تربط بين الأداء البيولوجى لكل الثدييات بدلالة إمكان صياغة معدلات ورسوم بيانية تعين على توقع الأداء البيولوجى في أي نوع من الحيوانات (منها الإنسان) وذلك من خلال معلومية الأداء البيولوجى لبعض الحيوانات الأخرى. ذلك يعني ببساطة أكثر أن استخدام الإطار المرجعي المتناسب (أي مفهوم النسبية) يعين على توقع الأداء البيولوجى. هذا الأمر سيكون في تقديرنا ركيزة لتقدم هائل نتوقعه في العقد التالي في علوم أثر الدواء على جسم الإنسان (الفرماكولوجى) وفى علم السموم وفى العلوم الصيدلية. بوجه عام مما سيؤثر حتما على تحسين معرفتنا بفسيولوجية الإنسان وبالأدوية وكذلك سرعة التوصل إلى أدوية جديدة من خلال التصميم الأمثل للدواء كما سيؤثر بالتأكيد على قدرة العلماء بخصوص تعظيم استيعاب الحيوانات كنماذج عملية لتجريب الأدوية.

وإذا حاولنا أن نستفيد فكريا وعلميا مما ذكره عن تطبيق النسبية في مجال البيولوجى فإنه يمكن القول أنه قد وضح بجلاء أن قياس الأحداث الخاصة نوع الحيوان فترة نصف العمر بالتقريب "بالدقائق بعدد ضربات القلب الإنسان 85 7253 الكلب 56 7253 القرد 49 7253 الجرذ 20 7253 الفأر 14 7253 بالظواهر الطبيعية (ومنها المخلوقات) لابد أن يعتمد على الخصائص الذاتية للظاهرة الطبيعية. هذا هو الدرس الأساسي والمستمر لنظرية النسبية العامة، فالأحداث الطبيعية تقاس من داخلها. هذه هي " الاستراتيجية الأساسية للنسبية "..

وهكذا فان هناك مجموعة بسيطة من قوانين الطبيعة تفسر الظواهر البيولوجية وليست القوانين الفيزيائية والكيمائية الحالية إلا تعبيرا رياضيا عنها... فالنسبية تقول إن ما يبدو على السطح من تعقيد يخفى داخله بساطة عميقة. سبحان الله جل شأنه.

تبقى هنا رؤية تأملية نود طرحها في نهاية هذا المقال في صيغة سؤال وهو: هل مع التوصل إلى تكنولوجيات عالية جدا في المستقبل (والقى من المتوقع أن يكون لها مردود عال على علاقة الإنسان بالزمن) يكون من المحتمل حدوث تغير في الخصائص الذاتية لفسيولوجية الإنسان، بمعنى تغير في خصائص الإطار المرجعي لفسيولوجيته؟ وهنا هل يمكن أن يؤدى ذلك إلى اختلاف في الأطر الفسيولوجية المرجعية بين إنسان العالم المتقدم وإنسان العالم غير المتقدم

 

محمد رءوف حامد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات