إيفرست.. القطب الثالث للأرض فضل سالم

إيفرست.. القطب الثالث للأرض

هل هو حقا قمة في العالم؟ وإذا لم يكن كذلك، فكيف شاعت المعلومة في المراجع وفي أذهان الناس؟ إنها قصة المسلمات التي ينقض العلم الحديث كثيراً منها، يتركنا أكثر شكاً مما كنا عليه.

كان الوقت بعد ظهر أحد أيام صيف عام 1852، حين قرع باب أندرو فوغ الحاكم البريطاني العام في الهند، ودخل رجل ليقول لاهثا: "سيدي.. لقد اكتشفت موقع أعلى جبل في العالم".

وأضاف الرجل قائلاً إن هذا الجبل يقع عل طرف سلسلة الهملايا في المملكة المحرمة نيبال.

وحتى ذلك الوقت؟ كانت تلك القمة، مثل غيرها، دون اسم وإنما تحمل رقما يميزها هر: القمة 15.. ولسبب غير معروف، كان الجميع متفقين على استخدام الأرقام الرومانية (XV) في تسمية القمم الجبلية. وحسب تقديرات العلماء والمختصين، كانت تلك القمة ترتفع 29503 أقدام فوق سطح البحر.

ففي عامي 1849 و 1855 انشغل عدة علماء وباحثين في قياس ارتفاع تلك القمة مستخدمين أجهزة بدائية إذا ما قورنت بالأجهزة المعروفة اليوم.. وكرر العلماء أجراه عمليات القياس من المرتفعات الشمالية للهند وذلك عن طريق قياس الزوايا الأفقية والعمودية لتلك القمة كما تشاهد من مواقع مختلفة تفصل بينها مئات الأميال، كما تبعد بفل هذه المسافة عن القمة نفسها.

وإلى ما قبل اندفاع ذلك العالم لاهثاً إلى مكتب الحاكم البريطاني العام، والكائن في إحدى ضواحي نيودلهي، لم يكن يشك في أن "القمة 15" مرتفعة جداً، لكن أحداً لم يكن يتصور أن تكون تلك القمة هي أعلى جبل في العالم.

وفي عام 1856، وبعد أن تأكد سير أندرو فوغ من صحة ما قاله ذلك العالم العامل ضمن الفريق الذي صحة ما قاله ذلك العالم العامل ضمن الفريق الذي كلفه بإجراء القياسات اللازمة، أطلق على تلك القمة اسم "قمة إيفرست" تكريماً لسلفه الحاكم البريطاني العام للهند سير جورج إيفرست الذي شغل هذا المنصب بين عامي 1830 و 1843.

ولم يكن "فوغ" يعلم أن سكان التيبت سبق لهم أن أطلقوا على تلك القمة عدة أسماء، لعل أشهرها "شومولونغما" التي تعني بلغتهم: "الآلهة الأم لكل الأرض".

نزاع على اللقب

قبل قياس ارتفاع "القمة 15" التي أصبحت تعرف باسم " قمة إيفرست"، كان لقب أعلى قمة في العالم موزعا بين أكثر من قمة تتنازع جميعها على اللقب.

ففي القرنين السابع عشر والثامن عشر، كان الاعتقاد الشائع بأن قمة "شيمبور ازو" البركانية في سلسة جبال الانديز بأمريكا الجنوبية هي الأعلى في العالم وذلك بعد أن قدر ارتفاعها علماء تلك الأيام بـ 20703 أقدام.

لكن في مطلع القرن التاسع عشر، وبالتحديد في عام 1859، تدر عالم بريطاني ارتفاع إحدى قمم الهملايا، وتعرف باسم "دولا جيري" بـ 26860 قدماً.

وبعد أكثر من مائة وخمسة وسبعين عاما، أكدت القياسات الحديثة أن ارتفاع هذه القمة يبلغ 26795 قدما، أي أن الفارق لا يتجاوز خمسة وستين قدما فقط بالرغم من بدائية الأجهزة المستخدمة في ذلك الوقت.

ومع ذلك فإن هذه القمة استحقت أكثر من غيرها أن تحمل لقب أعلى قمة في العالم، لكن العلماء، خاصة أولئك المقيمين خارج الهند، ظلوا يعتقدون أن قمة " شيمبور ازو" هي الأعلى في العالم كله.

وفي عام 1840 انتقل اللقب تلقائياً إلى قمة "كانشينجونكا "، إحدى تمم الهملايا التي قيس ارتفاعها على أنه 28168 قدماً، لكن الأمر لم يطل كثيرا فانتقل في الخمسينيات من القرن الماضي إلى قمة إيفرست.

وبمجرد أن تأكد علماه تلك الأيام من أن "إيفرست" هي أعلى قمة في العالم.. انتشرت في العالم كله حمى الرغبة في قهر تلك القمة وتسلقها، بل وصل الأمر بأحد العلماء إلى القول أن الوصول إلى قمة إيفرست هو الذي يجب ألا نحيد عنه مهما واجهتنا الصعاب، ومهما كانت الخسائر"

وقد تطلب تحقيق هذا الحلم الكبير مقتل خمسة عشر من أشهر متسلقي الجبال في العالم، وجهود ثلاثة عشرة حملة ... ومائة سنة وسنة قبل أن يتمكن الإنسان من قهر قمة إيفرست.

ففي الساعات الأولى من صباح التاسع والعشرين من مايو عام 1953 ، وجد متسلق الجبال النيوزيلندي ادموند هيلاري ومساعده النيبالي تينزينغ نورغي، أنهما على بعد أقدام قليلة من القمة.. وقد كتب هيلاري في مذكراته عن تلك اللحظات قائلا:

"بدأ الإرهاق يسيطر علينا... وبدأنا فعلاً نتساءل عما إذا كانت لدينا بقية من قوة لإبقائنا على قيد الحياة حتى نحقق الهدف الكبير الذي جئنا من اجله وتحملنا كل هذه المشاق... نظرت إلى أسفل فوجدت التبيت تمتد بعيداً.. وعندما نظرت إلى أعلى شاهدت مخروطاً ثلجياً، وقد زادني هذا المنظر عزما على المضي قدماً فتسلقت وزميلي هذا المخروط، ووجدنا أنفسنا نقف على قمة العالم... وكان الوقت الحادية عشرة والنصف قبل الظهر"

بعد ذلك بأربعة أيام فقط، كانت بريطانيا مشغولة، والعالم معها، بتتويج الملكة اليزابيث الثانية.. لكن صحيفة "التايمز" صدرت في ذلك اليوم بعناوين بارزة لما أسمته الإنجاز البريطاني المذهل.. وكان عنوان الصحيفة يقول: "تم قهر القطب الثالث للأرض".... تشبيها بالقطبين الشمالي والجنوبي.

وعلى الفور أنعمت الملكة اليزابيث بلقب فارس على هيلاري، فيما اكتسب تينزينغ شهرة واسعة في كل أنحاء آسيا.. ومنذ ذلك الوقت، أصبحت الموسوعات وكتب المراجع تشير إلى هذين الرجلين على أنهما أول من قهر أعلى قمة في العالم، لكن الأمر اختلف في السابع من مارس عام 1987 عندما نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" خبرا في مكان غير بارز تحت عنوان: " القياسات الجديدة تظهر أن إيفرست قد تكون ثاني أعلى قمة في العالم".

"ك- 2".. المنافس الجديد

من قراءة الخبر وتفاصيله، يظهر أن هذه القياسات كانت من عمل فريق علمي أمريكي قام في عام 1986 بحملة لكشف أسرار قمة تحمل اسم "ك- 2"، وهي على شكل هرم شديد الانحدار من الصخور البركانية البنية الداكنة والمغطاة بالثلوج في معظمها.. وتقع هذه القمة على حدود بين الصين وباكستان وتبعد مسافة ثمانمائة ميل إلى الشمال من قمة إيفرست.

وبعد قياس الإشارات الكهربائية ـ المغناطيسية المرسلة من أحد الأقمار الاصطناعية، قال رئيس الفريق "كـ2" ترتفع 29064 قدما فوق سطح البحر، وأضاف قائلاً أن ارتفاع هذه القمة قد يكون أكثر من هذا الرقم، وربما يصل إلى 29228 قدماً.

وخلال السنوات التي مضت حتى الآن على الوصول هيلاري وتبنزينغ إلى قمة إيفرست.. تمكن نحو ثلاثمائة رجل وامرأة من الوصول إلى تلك القمة.. وفشل عدة آلاف في تحقيق هذا الحلم وذلك من خلال حملات بلغت كلفتها عدة ملايين من الدولارات وأسفرت أيضاً عن مصرع 28 شخصاً، وبتر عشرات الأصابع المتجمدة.. وقد قام هؤلاء بعلمهم اعتقاداً منهم بأنهم يشترون أكبر نصر في تسلق القمم.. لكن إذا كان صحيحاً ما يقوله "ويلر ستاين" فهذا يعني أن جميع هؤلاء إنما كانوا يحملون بالقمة الخطأ.. ويعني أيضاً أن شرف الوصول الأول إلى أعلى قمة في العالم يجب ألا يكون للثنائي هيلاري وتينزينغ، وإنما لثنائي إيطالي مغمور يضم المتسلقين "لينو ليسيديلي" و "أشيلو يضم المتسلقين "لينو ليسيديلي" و " أشيلو كومباغنوني" اللذين أصبحا أول من تسلق القمة " ك 2" في عام 1954.

ويجمع العلماء والخبراء المتخصصون على أن الوقت لم يحن بعد لتنحية هيلاري وتينزينغ، أو تنصيب ليسيديلي وكومباغنوني.. فجورج ويلرستاين نفسه قال عن حساباته أنها ذات طبيعة مبدئية وأولية، وأن من الخطأ الإعلان عن أن "ك- 2" هي أعلى قمة في العالم، إذ يجب إعادة قياس ارتفاع القمتين باستخدام أحدث الوسائل التكنولوجية مع الاستعانة بالأقمار الاصطناعية.

بالطبع، ليست هذه هي المرة الأولى في التاريخ الحديث التي تتردد فيها نظريات عن وجود قمم جبلية تزيد ارتفاعا على قمة إيفرست، لكن تلك النظريات تهاوت واحدة تلو أخرى.

ففي مطلع الثلاثينيات من هذا القرن، على سبيل المثال، ثار جدل بين العديد من العلماء الذين راحوا يؤكدون أن قمة "مينيا كونكا"- اسمها الحالي: كونغاشان- المطلة على النصف الغربي من مقاطعة "شيسوان" الصينية، هي أعلى قمة في العالم... وقد بدأ هذا الجدل بعد عودة بعض العلماء من رحلة إلى المنطقة كان الهدف منها البحث عن حيوان الباندا الضخم.. فكتب هؤلاء العلماء يؤكدون أن هذه القمة تزيد في ارتفاعها على الثلاثين ألف قدم "... ومن المؤكد أنها أعلى قمة في العالم".. بل وصل الأمر بأحد هزلا العلماء إلى القول بصيغة التأكيد أن ارتفاع هذه القمة هو 30250 قدماً. وقد عاد هذا العالم ويدعى جوزيف روك للتأكيد من جديد على وجود قمة قريبة من قمة" مينيا كونكا " يزيد ارتفاعها هي الأخرى على الثلاثين ألف قدم.. كما لو كان هذا العالم يريد بذلك، القول إن إيفريست ليست الأولى في الارتفاع، ولا حتى الثانية.. إنما الثالثة، وربما أكثر.

في عام 1949، قام مغامر أمريكي يدعي ليونارد كلارك برحلة إلى الصين، وأعلن عند عودته أنه قام بقياس ارتفاع قمة "اني ماشين" فوجده 29661 قدما، وقال: أستطيع التأكيد دون أدنى شك أنني عثرت على أعلى قمة في العالم إنها قمه آني ماشين".

ووصل الأمر بهذا المغامر إلى القول أن هده القمة "ملعونة" وأن هذه اللعنة تصيب كل من حاول قهرها. وقد برر كلارك نظريته عن اللعنة بالقول أن السكان المحليين يطلقون على هذه القمة اسم "جبل الآلهة".. وهذا يعني أن الآلهة تتضايق ممن يحاول إزعاجها فتصيبه باللعنة!

والغريب أن كلارك نفسه اختفي في ظروف غامضة بعد ذلك بسنوات قليلة وذلك أثناء قيامه برحلة استكشافية في أدغال أمريكا الجنوبية.

وقد أثبتت الأيام خطأ حسابات كلارك، وتأكد العلماء من أن قمة "آني ماشين" ترتفع 20610 أقدام فقط، أي أن الفرق بين حسابات كلارك، والحسابات الحقيقية، يزيد على تسعة آلاف قدم.

وبالعودة إلى النظريات القائلة أن قمة "ك- 2" ربما هي الأكثر ارتفاعاً في العالم، يقول العلماء والمختصون أن الشك يحيط بهذه النظريات، فقد سبق لعشرات العلماء والجيولوجيين أن قاموا بقياس ارتفاع القمتين: "إيفرست" و"ك-2".

وللعلم، فان قياس ارتفاع الجبال، ليس بالمسألة السهلة، وإنما يحمل في طياته مخاطر جمة، كل أن احتمالات الخطأ تظل كبيرة.. وكما يقول مؤلف موسوعة "القمم الجبلية في العالم" لويس باوم: "إن قياس ارتفاع القمم مسألة غاية في الصعوبة لا يقدر عليها حتى الخبراء المزودون بكل أجهزة القياس الحديثة ".

وحسب الطريقة التقليدية، يتم قياسا ارتفاع أي جبل باستخدام علم المثلثات حيث يقوم المساح برصد القمة من مكانين متباعدين، على الأقل، بشرط أن يكون ارتفاع هذين الموقعين معروفاً.. وبقياس المسافة بين الموقعين، وبمعرفة زاويتي ارتفاع القمة من هذين الموقعين، يتم حساب ارتفاع القمة (ضلع وزاويتان في مثلث خيالي هائل).. ومع ذلك فالمسألة ليست بالسهولة التي تبدو عليها، فالمطلوب من المساح أن يأخذ بعين الاعتبار عشرات العوامل غير العادية مثل: التقلبات الجوية وما يرافقها من خداع نظر، وانحناء الأرض أصلاً.. وصعوبة قياس ارتفاع المواقع التي سيقف عليها لإجراء قياساته.. وحساب المسافات بين هذه المواقع، وكذلك عوامل الحرارة والرطوبة في طبقات الجو المختلفة، واختلاف كثافة هذه الطبقات وتأثير هذه الكثافة على الأشعة الضوئية.

خيبة أمل

ولا يجوز إغفال حقيقة علمية، كثيرا ما أصابت العلماء أنفسهم بخيبة الأمل.. ففي الوقت بين شروق الشمس والظهر، علي سبيل المثال، يكون الجو أكثر دفئا مما يؤدي بالحسابات المثلثية إلى أن تتقلص عدة مئات من الأقدام.. وتختلف نسبة هذا التقلص مع طول أو قصر المسافة الفاصلة بين القمة وموقع المساح الذي يجري هذه القياسات.

لكن العلماء باتوا في السنوات العشرين الأخيرة يستعينون بالأقمار الاصطناعية لإجراء قياساتهم، وذلك ببث موجات ضوئية وصوتية بين تلك الأقمار والقمة المراد قياس ارتفاعها، والمواقع التي توجد فيها أجهزة القياس العلمية.

ومن أجل وضع حد لكل هذه النظريات، وتبيان الحقيقة، اتفق عدد من العلماء الأمريكيين والأوربيين واليابانيين على القيام برحلة مشتركة إلى الهند والصين لقياس ارتفاع القمتين المتنافستين: إيفرست" و " ك- 2 ".. ولو أن غالبية العلماء تقول مسبقاً أن إيفرست ستظل الأولى، وأن القياسات التي سيجرونها ستؤكد هذه الحقيقة دون منازع.. ففي أواخر العام الماضي، نشر عالم إيطالي مشهور هو "ارديتو ديزيو"، رئيس دائرة علوم الجيولوجيا في جامعة ميلانو، نتائج دراسة تؤكد أن ارتفاع قمة "إيفرست" يبلغ 29108 أقدام، في حين أن ارتفاع قمة " ك- 2 " يبلغ 28268 قدماً.

 

فضل سالم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




صحفي يحتفل بوصوله إلى هذه القمة





قمة أني ماشين التي قيل أنها أعلى قمة في العالم





جورج ايفرست





عمال باكستانيون يحملون الأجهزة والمؤن اللازمة لفريق علمي أمريكي





حاول عام 1975 الوصول إلى قمة ك - 2 لكن العواصف الثلجية هزمتهم وأجبرتهم على التراجع