المخطوطة الإسلامية: من نهر

المخطوطة الإسلامية: من نهر "النيغا" إلى ضفاف "السين"

من أين ينبع جمال الحرف العربي، وكيف يرتقي رسمه إلى مستوى اللوحة الفنية؟ أهو الشكل الهندسي المتناسق أم القوة التعبيرية التي تدعو العين إلى التأمل؟ يكفينا النظر إلى مخطوط لكي نستطيع الإحساس بتدفق المادة التي تكونه بحيث تصلنا بيسر مع روح الخطاط. وهكذا تتجاوز الكلمات دورها الشكلي المحدود لتروي لنا قصة الكاتب والمكتوب.

يعود الخط العربي مجددا ليأخذ دورا مهما في تقديم الفن الإسلامي إلى العالم الغربي ضمن تظاهرة ثقافية لم يسبق تقديم مثلها من حيث تنوع وقيمة المخطوطات المعروضة. فهل هو مجرد حوار فني مع الشرق بألوانه الزاهية وأشكاله المعبرة، أو أنها محاولة متجددة لمد جسور التفاهم بين الشرق والغرب؟

افتتح معرض المخطوطات الإسلامية في مبنى "القصر الصغير" في باريس مع بداية هذا الشتاء، وهي المحطة الأولى في رحلة المعرض الذي سينتقل لاحقا إلى عواصم غربية أخرى من بينها نيويورك ولندن.

والمعرض هو عبارة عن مجموعة فريدة تضم مخطوطات منتقاة من مجموعة معهد الدراسات الشرقية في مدينة بطرسبورغ (روسية)، الذي يزيد عدد مقتنياته على عشرة آلاف مخطوط عربي وفارسي وتركي وكردي وأفغاني وكلها مدونة بالحرف العربي بالإضافة إلى عشرات الآلاف من المخطوطات باللغات الشرقية الأخرى.

تتألف المجموعة المعروضة من سبعة وستين مخطوطا تضم مختلف الموضوعات، بحيث اختصت كل صالة من صالات المتحف بصبغة معينة يستهل الزائر دخوله إلى المعرض بصالة المخطوطات الدينية التي تحوي نسخا عديدة للقرآن الكريم مخطوطة في سوريا (القرن الثالث عشر) والعراق (القرن الرابع عشر) وبلاد فارس والهند (القرن الثامن عشر)، إضافة إلى نسخ مخطوطة في المغرب وإفريقية القرن التاسع عشر) إلى جانب نسخ القرآن يطالعنا مخطوط لمزامير النبي داود عليه السلام، ويتصدر القاعة مخطوط بديع للقصيدة الميمية الشهيرة "البردة" في مدح الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) التي نظمها شرف الدين البوصيري في القرن الخامس عشر.

ثم ينتقل الزائر إلى صالة ثانية تعرض موضوعات متنوعة، فنجد مثلا مخطوطات في الأدب مثل نسخة مميزة من مقامات الحريري ونسخة من "كتاب الاعتبار" للأمير أسامة بن منقذ الذي تناول فيه سيرة حياته ووصف الصليبيين والأحداث التي وقعت في ذلك العصر، ونصادف أيضا مخطوطات علمية مختلفة لعل أجملها هو نسخة من الترجمة العربية لكتاب العناصر لإقليدس.

كما يعرض المتحف منمنمات منسوخة في مصر وفلسطين وسوريا، يتميز من بينها مخطوط عن فن المبارزة وصناعة الأسلحة التقليدية كتبه ابن الخزام الخوطلي في القرن الرابع عشر الميلادي إبان العصر المملوكي، يتناول هذا المخطوط طريقة الاعتناء بالخيول وطرائق مبارزات الفرسان والرمي بالرمح، وهو يزدان برسوم توضيحية دقيقة للفرسان والخيول وطرائق المبارزة. ولهذه الموضوعات أهمية خاصة، إضافة إلى. قيمتها الفنية، فمثلا تحتوي النسخة المعروضة من مقامات الحريري على تصاوير عديدة وهو شيء نادر في المخطوطات الإسلامية الأولى بسبب تحريم الإسلام للتصوير، حيث يظهر أثر التحريم في الوجوه الممحوة جزئيا أو في وجود خطوط مارة على رءوس الأشخاص والحيوانات، وهذا يختلف عما عهدناه في النسخ العديدة لمقامات الحريري التي خطت مرارا في الفترات اللاحقة، ومن أشهرها مخطوط الواسطي. كما يعطينا مخطوط فن المبارزة فكرة جيدة عن اللهجة المحكية في العهد المملوكي وصورة قيمة عن فن التزيين في ذلك العهد.

ثم تلي المخطوطات العربية صالات الأعمال الفارسية، وهذه هي المرة الأولى التي تعرض فيما مجموعة مخطوطات إسلامية فارسية بهذا المستوى الرفيع. ضمت المعروضات نسخا عديدة من "الشاهنامة" وهي ملحمة تروي أخبار ملوك فارس وأساطيرهم منذ بدء التاريخ وحتى الفتح الإسلامي، وتتألف الشاهنامة من حوالي ستين ألف بيت وهي تعد من أبرز وأطول الملاحم الشعرية، و"كتاب الملوك" للفردوسي، ونسخة فارسية من كتاب "الحشائش" للنباتي الإغريقي ديو سقور يدس بدانيوس ويشهد هذا المخطوط على مآثر المسلمين في نقل العلم في العصور الوسطى، فهو ترجمة فارسية عن الترجمة العربية، وهذه الأخيرة هي بدورها ترجمة عن النسخة السريانية المترجمة في القرن الأول الميلادي عن الأصل الإغريقي. ومن المحتمل أن يكون نسخ هذا المخطوط قد تم في عام 1658 بمدينة أصفهان، وهو مزين بحوالي خمسمائة رسم ملون تمثل أعشابا ونباتات وحيوانات متنوعة وكلها مقدمة بدقة رائعة. والجدير بالذكر أن مزين هذا المخطوط- وهو مجهول الاسم- لم ينسخ الرسوم عن الترجمة العربية وإنما عاد إلى الطبيعة مباشرة في رسم العديد من موضوعاته.

أما أهم ما حوته الصالات الفارسية من مخطوطات فهو عبارة عن " مرقعين " رائعي التصميم، والمرقع هو مجموعة من الصفحات- المستقلة في البدء- التي تحتوي على لوحات فنية تتجاور فيها الرسومات التي تصف مشاهد الحياة اليومية مع لوحات خط النستعليق وهو أحد أشكال الخط الفارسي يحدث فيه مزج خط النسخ مع خط التعليق. يشترك في إنجاز هذه اللوحات العديد من الفنانين، ثم تضم الصفحات مع بعضها في مجلد واحد، بحيث يصل الطول الإجمالي لكل مرقع إلى أكثر من عشرة أمتار.

فن المنمنمات الفارسية

يشكل تقليد المنمنمات الفارسية استثناء مهما من تحريم التصوير في الإسلام، وهو يرتقي على الأقل إلى عهد الساسانيين (بين القرنين الثالث عشر والسابع عشر) وقد تلقى هذا الفن الكثير من المؤثرات الوافدة خصوصا من العراق والصين إثر الفتوحات المغولية في القرن الثالث عشر. بلغ فن المنمنمات قمة ازدهاره في القرن الخامس عشر في عواصم التيموريين (وهم سلالة تيمورلنك) بفضل الولاة الذين كانوا هم أنفسهم من هواة هذا الفن بعدما كان هامشيا في العالم الإسلامي.

بدأ ظهور فن المنمنمات في شيراز ثم في مدينة هراة (الواقعة في شمال غرب أفغانستان) وقد عالجت موضوعاته المناظر الطبيعية بطريقة متقنة الصنع وازدانت رسوم المنمنمات بالكثير من الألوان. وقد صورت هذه المنمنمات كتبا فارسية مشهورة مثل الشاهنامة أو خسرو وشيرين، إلى جانب النص المكتوب بخط نستعليقي أنيق.

كان باي سنقر ميرزا- وهو أحد أهم هؤلاء الولاة- عارفا بالأدب وخطاطا معتبرا، وقد أنشأ في قصره بمدينة هراة مشغلا رأسه الخطاط المشهور جعفر التبريزي الذي جذب بشهرته أفضل الفنانين من خطاطين ومزينين ومنمنمين ومجلدين للكتب من تبريز وشيراز وأصفهان. ومع انتصاف القرن الخامس عشر ظهرت في هراة مجموعات من المخطوطات المحتوية على منمنمات متميزة إلى درجة يمكننا أن نطلق عليها اسم مدرسة فنية على الرغم من صلاتها الفنية الوثيقة مع مدرسة شيراز.

فنون القرن الـ 16

في عام 1502 دجل إسماعيل الصفوي (منشئ السلالة الصفوية) مدينة تبريز وتوج شاها على إيران وبحلول عام 1512 كانت كل بلاد فارس تحت سلطته. وهكذا توقفت مدينة هراة عن أشت دورها الثقافي الرئيسي وغادرها الحرفيون إلى بخارى وتبريز. وقد أدى ذلك إلى ظهور مدارس ذات صنعة رفيعة المستوى للمنمنمات في هاتين المدينتين. وفي الآن ذاته استمرت مدرسة شيراز في العطاء وتطور الأسلوب الفني فيها تدريجيا بتأثير من مدرسة تبريز، إلى أن انفردت- ابتداء من عام 1530- بأسلوب جديد ميز مدرستها الفنية بالألوان الهادئة والرسومات الصغيرة.

في عام 1576 كتب المؤرخ بوداق القزويني واصفا أهمية كتابة المخطوطات وطريقة إنتاجها: "في شيراز، ينسخ كثير من الناس خط الننستعليق، يقلد كل واحد منهم الآخر إلى حد أننا لا نستطيع تمييز كتابات خطاط عن آخر. كما تعمل النساء في النسخ حتى ولو لم يكن يتقن الكتابة بصورة جيدة، إذ إنهن يقلدن نموذجا فحسب... في كل بيت تنسخ الزوجة الكتاب ويرسم الزوج المنمنمة وتزين البنت الرسوم ويجلد الإبن الكتاب وهكذا إذا أردنا الحصول على كتاب فهو ينتج في منزل واحد، وإذا أراد امرؤ الحصول على ألف كتاب مزين فسيحصل عليها خلال فترة عام واحد في مدينة شيراز".

مرقَّع ميرزا مهدي

يتألف هذا المرقع- الذي يصل طوله الإجمالي إلى حوالي عشرين مترا- من قسمين، يضم القسم الأول المنمنمات، أما القسم الثاني فهو يضم نماذج الخطوط، وقد جرى التقليد أن توضع على الصفحات المتجاورة صور متشابهة الموضوع وأن تزين الصفحتان المتجاورتان بالشكل نفسه. تم إنجاز جزء كبير من المرقع (وقد حال دون إنجازه التناحر على السلطة في إيران إبان ذلك العهد) في مدة تناهز خمسة وعشرين عاما وشارك في تزيينه وتجليده أربعة فنانين على الأقل. أما نماذج الخط الفارسي وخط النستعليق فقد كتبها الخطاط الفارسي عماد الحسني بين عامي 1595 و 1615م وترجع معظم منمنمات المرقع إلى المدرسة المغولية التي جمعت بين التقاليد الفارسية والهندية والأوربية. عرفت المدرسة المغولية أوج زهوها في عهد السلطان المغولي جهانكير وهو رابع أباطرة الهند وقد شجع الآداب والفنون وتعتبر مذكراته "تزك جهانكيري" من أروع مؤلفات عصره، وقد عالجت موضوعات تلك المدرسة مظاهر الطبيعة والحياة الإنسانية بدرجة كبيرة من الدقة والرشاقة. وترجع بقية المنمنمات إلى المدرسة الفارسية التي ظهرت في النصف الثاني من القرن الثاني عشر الميلادي في أصفهان وتميزت باستعمال أساليب التصوير الأوربي (مثل المنظور والتباين بين الظل والنور).

نهاية التقاليد الفنية

عانى فن المنمنمات من انهيار الأسرة الصفوية عام 1736 والاضطرابات التي تلت ذلك. ولكن مع انتهاء القرن الثامن عشر واستقرار الأوضاع العامة عادت مدرسة أصفهان للظهور من جديد وفي الوقت ذاته ولدت مدرسة جديدة في كشمير حاولت المزج بين التيارات الفنية الآسيوية والهندية والفارسية. ومع الضعف السياسي المتزايد في هذه المنطقة بدأ إنتاج هذه المدارس للكتب الأدبية والعلمية بالاضمحلال ولم يستمر إلا نسخ القرآن فحسب.

ورويدا رويدا، حلت الكتب المطبوعة محل المخطوطات خلال القرن التاسع عشر، فقد ظهرت الطباعة الحجرية في البداية ثم تلتها الطباعة العادية لاحقا. وهكذا ساهم فنانو المنمنمات في الطباعة على حساب فنهم اليدوي التقليدي الذي لم يكن أمامه إلا الاندثار.

المخطوطات الإسلامية

عبر العصور؟ تدل التقديرات على أن عدد المخطوطات الأصيلة المنتجة في البلاد الإسلامية مثل سوريا ومصر والعراق والأندلس وإيران يصل إلى حوالي نصف المليون مخطوط حتى نهاية القرن التاسع عشر. أما في شمال إفريقية وشبه الجزيرة العربية والهند فيصل عدد المخطوطات إلى مائتي ألف. ويصل العدد الكلي للمخطوطات الإسلامية التي نسخت عبر العصور إلى خمسة ملايين مخطوط، على حين أنه لا يوجد بين أيدينا في الوقت الراهن إلا حوالي ستمائة وثلاثين ألف مخطوط، ويجدر الذكر أن ثلثي هذه الكمية هو عبارة عن مخطوطات منسوخة بين القرن السابع عشر ونهاية القرن التاسع عشر، وهذا يعني ضياع أكثر من مائتي ألف مخطوط من العصور الوسطى.

بعد تفكك الاتحاد السوفييتي حلت بمعهد الدراسات الشرقية في بطرسبورغ ضائقة مالية أجبرته على عرض المخطوطات الإسلامية في عواصم العالم الغربي لكي يتمكن من تمويل نشاطاته وأبحاثه، على الرغم من المخاطر: بإلحاق التلف بهذه المخطوطات أثناء السفر. وقد دعا مدير المعهد كل المهتمين بالمخطوطات الإسلامية في العالم العربي وأوربا إلى المساعدة في إحياء هذا التراث- الذي يحتفظ المعهد بجزء غير يسير منه- وحفظه من الضياع، فهل من مجيب؟

 

أسامة أمين ربيع

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




مصحف مخطوط في آسيا حوالي عام 1830 بالخط النسخي





صفحتان من مخطوط مقامات الحرير المنسوخ في عام 1240





صفحة من الشاهنامة للفردوسي وهي منسوخة في عام 1524





كتاب فن المبارزة برسومه المميزة للمدرسة المملوكية، وهو منسوخ عام 1474





كتاب العناصر لإقليدس وهو منسوخ في عام 1188





صفحتان أخريان من مخطوط مقامات الحريري منسوخ عام 1240