أطباء نفسيون لكن على الشاشة! خليل فاضل

أطباء نفسيون لكن على الشاشة!

كيف يري الطبيب النفسي وصورته وصورة زملائه على الشاشة؟ هل يعتقد أنها صورة منصفة أم مجحفة؟ وما تأثير هذه الصورة على انطباعات الناس عن الطبيب النفسي؟ أسئلة عديدة يحاول الإجابة عنها طبيب نفسي عربي، من خلال مراجعته لبعض الأفلام العربية المتعلقة بهذا الموضوع.

هناك عدد لا يستهان به من الأفلام العربية والعالمية التي تناولت الطبيب النفسي في إطارها إلى درجة يصعب حصرها، وأحيانا تبدو هذه الظاهرة وكأنها من قبيل (الموضة) أو الاتجاه العام. الطبيب النفسي شخص يثير لدى العامة الكثير من التساؤلات؟ فهو محاط دائما بالغموض، بالهيبة وكثيرا بالحذر، فهو محل تندر الناس بأنه أصلا مصاب باضطراب ما، وأحيانا ما يشاع أن العدوى تنتقل إليه من زبائنه المجانين، أو أنه- اجتماعيا- يقوم دائما بتحليل الناس ويرى عقولهم واضحة مقروءة، وأنه شادر على سبر الأغوار وكشف المستور من الأشياء، هكذا.... ومن هنا جاء اهتمام الدراما بشكل عام السينما بشكل خاص بالطبيب النفسي، وجاء تقديمه على هوى المؤلفين والمخرجين وكتاب السيناريو متباينا تباينا شاسعا، وجاء أيضا هذا التقديم خطيرا وحساسا - بشكل- أعتقد لا يعيه صناع السينما فمن الممكن أن يؤثر هذا التقديم إذا ما كان خاطئا أو مشوها على عدد لا يستهان به من المشاهدين قد يكون منهم أناس في أشد الحاجة إلى معونة طبيب نفسي حقيقي لا على شاشة وإنما بقدرة السينما الخارقة مزجوا بين الصورتين ولم يملكوا إبعاد شبح أي منهما عن ذاكرتهم، فتأثرت عملية العلاج النفسي.

إن التفاعل بين السينما والطب النفسي وتأثيره على عملية المرض والعلاج النفسيين تعد مسألة مهمة للغاية، فهناك ما يمكن الاصطلاح عليه بالتفكير الجماعي للناس، أو ما يربط عقلهم الباطن بعضهم ببعض، وهو ما يعني الصورة التي يرسمونها في خيالهم قبل الذهاب إلى الطبيب النفسي، وهي صورة تتشكل وتتكون من مجموع ما رأوه على الشاشة وما قرأوه في الكتب والروايات وما سمعوه من الآخرين.

الطبيب النفسي والجنون

وفى بلادنا العربية- مع الأسف- لم تزل صورة الطبيب النفسي مرتبطة إلى حد كبير بمسألة "الجنون ومع الأسف أيضا فإن السينما المصرية إلى حد ما قد نجحت في ربط هذه الصورة بالشكل الكاريكاتورى الساخر- لفؤاد خليل- المتشنج المثير للسخرية، والذي يظهر كثيرا كطبيب نفسي معتل نفسيا، وفى هذا خطر كبير فلقد سمحت لي الظروف بمشاهدة وسماع مريض نفسي يقاوم أهله وهم ذاهبون به إلى العيادة النفسية، صارخا يقول: (أنا لا أريد الذهاب لفؤاد خليل، أنا لست مجنونا حتى أذهب لطبيب مجنون...)، حتى جلال الشرق أوى حينما أدى دوره في فيلم (خللى بالك من عقلك) لجأ إلى أداء كوميدى يباري به عادل إمام فكانت صورته في ذلك الفيلم مثيرة للضحك وعدم الاحترام، من ناحية أخرى ساعدت السينما على رسم صورة الطبيب النفسي الذي يستخدم أدواته العلاجية كالحقن مثلا أو بالتحديد العلاج بالصدمة الكهربية لعقاب المرضى، مثلما حدث في الفيلم الساق ذاته (خللى بالك من عقلك) وفيه يأمر الطبيب النفسي بالجلسات القاسية لشم يهان الرقيقة المظلومة، ومشهد الصدمة هنا جاء عنيفا مغايرا للواقع الذي يسترخي فيه المريض ويخدر لكن المخرج محمد عبدالعزيز شاء أن تتشنج البريئة شريهان إلى حد ترفع فيه رجليها إلى أعلى بشكل لم يحدث قبلا لا في السينما ولا في الواقع، كما أن فيلم (الهروب من الخانكة) ظهر فيه كمال الشناوي في صورة طبيب مجرم يتحايل ويتآمر ويسجن ويهرب وأيضا يعطي من يعارضه أو يحاول كشف أمره الصدمات الكهربية (العلاج الذي يشفي كثيرا من الناس بسرعة وبأقل آثار جانبية) كعقاب صارم وجزاء لمعارضتهم له.

الموضوع الأهم هو تفاعل الطبيب النفسي كما يراه المشاهدون على الشاشة وبين المريض أيضا كما يقدمه لنا الممثل، وهذه العلاقة حساسة وتتدخل فيها أهم عمليات العلاج النفسي (الطرح) أي أن يطرح المريض مشاعره تجاه الأشخاص المهمين في حياته على الطبيب النفسي، و(الطرح المقابل) أي مشاعر الطبيب النفسي تجاه مريضه، ويتحكم في ذلك بالطبع انفعالاته وخبرته وتجاربه في الحياة، باختصار الطرح يتضمن جميع التغيرات في العلاقة بين المريض والمعالج، وأمامنا في السينما المصرية فيلمان يشرحان هذه العلاقة بشيء من التفصيل، الأول: (أرجوك أعطني هذا الدواء) عن قصة للراحل إحسان عبدالقدوس، حيث نجد أن نبيلة عبيد مريضة تعاني خللا في علاقتها مع زوجها مما يصيبها بالغثيان والقيء عند المعاشرة الزوجية، وفي المقابل تجد نفسها منجذبة إلى طبيبها المعالج وتطرح عليه صورة الزوج المثالي الذي تتمناه، وبالتالي وباختصار تقع في حبه، لكن- خلافا للواقع الحي والمفروض- لا يمنع الطبيب النفسي (فاروق الفيشاوي) مريضته من عشقه كبديل لصورة الزوج، بمعنى أن صانعي الفيلم لم يتمكنوا من الغوص نفسيا ومهنيا في نوعية تلك العلاقات وتحديدها على الأقل في إطارها الصحيح، إن لم يكن على الأكثر في إطارها العلمي، كما أن هناك خصائص مهمة يجب أن يتحلى بها الطبيب النفسي، من الضروري أن يكون كاتب السيناريو والمخرج والممثل على دراية بها: مثل ضرورة خلو المعالج من المشاكل العاطفية المهمة إلى حد ما، وإذا وجدت كما توجد في كثير من البشر، فعليه أن يتحرر منها عن طريق أن يحلل هو نفسيا (وهذه هي إحدى توصيات إن لم تكن شروط الكلية الملكية لأطباء النفس في لندن لمن يمارسون مهنة العلاج النفسي بالحوار)، هذا قبل أن يقدم هذا الطبيب أو ذاك على علاج مرضاه، كما يجب أن يتوفر للطبيب أو المعالج الذكاء الكافي والقدرة اللازمة لتكوين الثقة والتعاطف مع مرضاه، كما يجب أن تتوافر فيه صفات الموضوعية في التفكير، مع استقراره العاطفي، والمرونة اللازمة، والخبرة بالعواطف والصراعات الإنسانية المختلفة وكيفية التعامل معها، فإلى أي حد نجح أو شوه فيلم (أرجوك أعطني هذا الدواء) هذه الأمور العلمية؟ بالطبع نحن لا نطالب السينما الروائية بأن تكون علمية، لكن نطالبها بأن تستند على أصول علمية، بمعنى أن تكون لها ركيزة صحيحة، فلا تسقط في دوامة تقديم الخطأ والغش والغث في علاقات إنسانية علاجية سيكون لها كبير الأثر على المشاهد الذي ربما جلس أو سيجلس أمام طبيب أو معالج نفسي.

تلك الأمور السابقة كافة تطبقها على فيلم (المدمن) الذي تحب فيه الطبيبة النفسية (نجوى إبراهيم) مريضها المدمن (أحمد زكى) وتتزوجه، وهذا محظور وله أثر غير طيب على المرضى والعامة ومفهومهم لعملية العلاج النفسي، لأن المودة بين المريض ومعالجه يجب أن تحصر في دائرة الامتنان، لا في دائرة الرغبة، كما يجب ألا نرجع على ذلك من خلال التناول الفني للأحداث.

في المقابل نجد أن التلفزيون قد نجح إلى حد كبير في تقديم صورة ناجحة لعملية العلاج النفسي، ولأبعاد شخصية الطبيب النفسي ودوره الرائع في الإرشاد والتوجيه مثل مسلسل (دعوة إلى الحياة) الذي قام ببطولته (مصطفى فهمي) الذي جسد شخصية المثلج لقدرة و إقناع.

بين الإقناع والمسخ

أما المسلسل المنفصل الحلقات (عيادة نفسية) من تأليف وسيناريو عاطف لشاي فلقد جاء مسخا كاملا لواقع الطب النفسي، ونحن لسنا بصدد نقده من زاوية نفسية، لكن من المفرع أن نرى في إحدى الحلقات الدكتور (نبيل الحلفاوي) يعالج إحدى مريضاته (بالفوبيا)- الخوف المرضي من العفاريت- بلبس قناع وتخويفها، ويقول لا في نهاية إحدى الحلقات (بخ)، إن في هذا تشويها لمهنة مقدسة قد يتسبب في انصراف الناس عنها، ولا يرغب أحد في أن يتولى إخافة المرضى وذويهم بمشاهد مفتعله ـ بدعوى تسليتهم- مشاهد تنطلق فيها الصرخات وتدوي فيها الموسيقى التصويرية العنيفة. وعلى صانعي الفيلم النفسي- إن جاز التعبير- الإمساك بالميزان الحساس بدقة وبرقة، لأن نفسية الإنسان أكثر قيمة من الذهب.

 

خليل فاضل

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




محمود ياسين مع فؤاد خليل الذي يجسد كثيرا صورة متشنجة مشوهة للطبيب النفسي في بعض الأفلام العربية





نبيل الحلفاوي طبيبا نفسيا





مصطفى فهمي: دعوة إلى الحياة





عادل إمام وشريهان في فيلم خلي بالك من عقلك صورة أخرى للطبيب النفسي على الشاشة العربية





أحمد زكي المريض ونجوى إبراهيم الطبيبة النفسية فيس فيلم المدمن