د. عبدالله الغذامي وصالح العاقل

د. عبدالله الغذامي وصالح العاقل

  • لماذا لا نجرب أن نسمع صوت "العامة"؟ لماذا نصر على اعتقادنا بأن "العامة" عاجزة عن التفكير ثم نرشح أنفسنا بدلاء عنها، نعبر عنها ونفكر عنها؟
  • الشارع لا يعي ولا يدري وربما لا يهتم أيضاً بكل الكلام الذي نقوله.. فحوارنا الآن ليس حواراً تنموياً.

لا يزال الفكر العرب في كثير من مساراته يركز على اتجاه واحد فقط من العلاقة الجدلية بين "اليومي" و "الثقافي الفكري" ليست على صعيد التنظير فقط بل من خلال "الفعل" الذي تقو به الجهات المعنية بالثقافة، مما يعمق الهوة بينهما.

وفي هذا اللقاء يمارس الباحث الدكتور عبدالله محمد الغذامي شغبه الفكري لا بدافع "الاختلاف المصطنع" وإنّما ليظهر كم يجب ويمكن أن يكون الفكر والثقافة لصيقين، ليس بأحلام وطموحات البشر بل بحياتهم الواقعية و "اليومية" أيضاً، مركزا على ضرورة الأخذ من "الخطاب اليومي" "للعامة" المغيب والذي لا يعبأ به المثقفون. ومعتبراً أنه دون ذلك لن تكون لنا ثقافة تساهم في مشروع تنموي ينقلنا من التخلف إلى التحضر.

والدكتور عبدالله الغذامي هو أستاذ النقد والنظرية في كلية الآداب- جامعة الملك سعود، وله عديد من المؤلفات من بينها "الخطيئة والتكفير- من البنيوية إلى التشريحية، و "الموقف من الحداثة " و "تشريح النص" و "الكتابة ضد الكتابة" و "القصيدة والنص المضاد" و "الشاكلة والاختلاف" ويحاوره في هذا اللقاء الشاعر والكاتب السوري صالح العاقل.

  • في مقارنة بين الملتقيين الفكريين لدول مجلس التعاون الخليجي، الأول الذي عقد في أبو ظبي عام 1990 والثاني الذي عقد في الكويت 1994 نلاحظ أن جملة من القضايا النظرية قد غابت في الثاني، في حين تشعبت بحوث الأول وكانت أكثر شمولاً مثل العلاقة بين الثقافة والتنمية، الاتجاهات القيمية والفكرية ودورها في التنمية (الأيديولوجيا والتنمية في الخليج القيم والتنمية)، وتوظيف التراث الشعبي في التنمية في دول المجلس. (التراث والتنمية...) ودور وسائل الإعلام في تحقيق التنمية الثقافية لهذه الدول. مما يعطي انطباعاً كما لو أننا كنا أمام مفترق والمفكرون يتداولون في الاتجاه الذي على هذه الثقافة وهذا الفكر أن يسلكاه. أما اليوم فإن الصورة مختلفة. فقد جرى التركيز على علاقة الثقافي بالإعلامي، دون تحديد أي منهما أو حتى تحديد تلك العلاقة إلا فيما ندر. وقد كنت من الذين عنوا بهذا التراجع سواء على صعيد البحث الذي تقدمت به للملتقى أو من خلال نقاش بحوث الآخرين. أيمكن رد ذلك إلى "ظرف موضوعي" ضاغط، باتجاه ما يمكن أن ندعوه تراجعاً عن طموح؟

-هناك افتراضان انطلقت منهما، الأول يتجه نحو فكرة أن المشروع الثقافي هو أيضاً مشروع حضاري، والثاني يتجه نحو فكرة أن الثقافة والمثقفين كتلة واحدة.

هذان الافتراضان أعتقد أننا بحاجة لمناقشتهما... عندما يتحدث المثقف، فهو في الواقع يتحدث عن مرجعية ذاتية أكثر مما يتحدث عن مرجعية جماعية تمثل فئة يمكن أن تسميها وأن تضعها بين قوسين (المثقفين).

ولكن في مؤتمراتنا وندواتنا يجري التصرف والتداول وفق هذا الافتراض، الذي نتوسم من خلاله أننا كمثقفين، أناس نعي المشكلة أولاً، ونعي أجوبتها ثانياً. وهذا برأيي زعم غير صحيح علمياً، وغير صحيح واقعياً، فالوعي بالمشكلة مسألة صعبة جداً وبشكل فادح. واعتقاد المثقف بنفسه أنه يعني المشكلة هو غطرسة كبيرة ووهم كبير. هناك أوهام كبيرة تختفي وراء وتحت الثقافة وهذه الأوهام مبينة على التراكم الثقافي الإنساني عموماً والذي منح المثقف نفسه عبره صفة الأستاذ والمعلم ونسي أو تناسى (بقصد أو بغير قصد) الناس!!

وهذا هو الذي يغيب في ملتقياتنا وندواتنا. وأظنه غاب عن الملتقى الأول وإن كنت لم أحضره مما سيجعل أحكامي غير دقيقة ربما. لكن بالنسبة للملتقى الثاني، فالذي حدث: أننا تحدثنا عن الإعلام والثقافة في غياب مستهلك الإعلام أولاً وصانع الإعلام ثانياً. لم يكن أي منهما موجوداً. خذ فئة المذيعين والمذيعات... فئة لصحفيين... المحررين الصغار الذين من الممكن أن يندمجوا بهذا الجو الإشكالي... هؤلاء أيضاً لم يكونوا موجودين.

  • تحدثت عن مرجعية ذاتية للمثقف وأغفلت المرجعية الجماعية. كيف يمكن تفسير هذا الإغفال إذا كانت الثقافة هي مختلف أشكال الوعي الموروث والمنتج وكل أساليب التعبير اللغوي والرمزي في الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية والإنسانية وفي الثقافة الشعبية الراسخة كوعي تلقائي.... ومعتقدات وأديان وبنى تفكير. ألا يستدعي ذلك الخوض في علاقة الخاص بالعام؟

- حينما قلت إن المثقف ينطلق من مرجعية ذاتية لا من مرجعية جماعية قصدت القول أنه يتكلم بصوته ولا يتكلم بصوت الجماعة.

علينا أن نتنازل وأن نتواضع مع أنفسنا، ويدرك كل مثقف أنه يتحدث من مرجعيته هو لا من مرجعية الأمة. المثقف ليس هو الأمة، الفرد العادي، الفرد العامي، أسمية "أمة" لأنه يتحرك بوجدان الأمة وليس في ذهنه فرز حاد بين ما يعتقده هو كمحصلة ثقافية وبين ما تعتقده الجماعة، يذوب عنده الخاص بالعام فيتحرك بفعل الحس العام. أما المثقف فلا يتحرك بفعل الحس العام، وإن كان كل مثقف يعتقد ذلك. المثقف ليس وجدان الأمة ولا صوتها.

لكن ألا ترى أن اعتقاده هذا طموح مشروع، وأنه يجب أن يكون وجدان الأمة وصوتها؟

ـ دعنا نترك ما يجب، نحن نناقش الآن ما هو حاصل. دعنا نناقش المفهوم الخاطئ الذي نوهم أنفسنا أنه الحقيقة.

المثقف ذات متكونة من مرجعيات ثقافية هو نفسه قام باختيارها وغذى نفسه بشكل مستمر بها. وبالتالي فهو وعى ذلك أم لم يع يفصل بين ما هو عام وما هو خاص، هذا على مستوى الإدراك الذهني.

أما على صعيد الممارسة اليومية فالوضع أدهى لأن المثقف منعزل مع كتبه وأفكاره وتصوراته ورؤاه التي تكون في الغالب مثالية وبعيدة عن المحك اليومي، عن الناس. مثقفنا يعيش في جو غير موجود ناسه... ومجتمعه، مما يخلق حالة من الانفصام الحاد بين الثقافة والثقافي والجماعة والاجتماعي.

وهذا ما يجب علينا أن نقف إزاءه متفحصين. وفي زعمي أن هذا الانفصام هو الذي يقف ضد نجاح الأطروحات الثقافية والندوات والملتقيات العربية.

يحضرني هنا مثال جمهورية أفلاطون.. كان العبيد في المجتمع الأثيني أربعة أخماس المجتمع ومع ذلك فقد كانوا خارج إطار تلك الجمهورية وخارج المجتمع الإغريقي، إذن كانوا يعيشون حالة إلغاء... كذلك النساء... نحن نكرر مثالاً قريباً جداً، فنحن نلغي فئة كبيرة من المجتمع (تعادل فئة العبيد في المجتمع الأثيني) - إضافة إلى المرأة ـ ليس بقرار فلسفي كما فعل أفلاطون... إنما نلغيهم نتيجة الأطروحة الثقافية!!

الإلغاء.... أزمة مثقف

  • هل الأطروحة الثقافية هي التي قامت بفعل الإلغاء، أم أن المثقفين أنفسهم مبعدون عن ساحة الفعل نتيجة التحولات الاجتماعية التي بدأت منذ نهاية القرن الثالث عشر الميلادي ومستمرة إلى الآن؟.

- نعم. ما تقوله ممكن إيراده في بيان الأسباب. لكن دعني انتقل من مصطلح الإلغاء إلى مصطلح الانفصال لكي نكون أقرب إلى توصيف الحالة. وأنا فعلاً استخدمت "الإلغاء" بمعنى" الانفصال"، وأخشى ما أخشاه أن يعطي استخدامي لمصطلح الإلغاء انطباعاً بأن هناك قرارا متعقدا من المثقف ومن المثقفين لإلغاء هذه الفئات. لكن ما قصدته أن الانفصال الذي حصل أدى إلى الإلغاء. وهذا ليس قرار المثقفين.

لكن السبيل الذي نسلكه الآن من خلال الممارسة الثقافية لا يؤدي إلى ردم الهوة ما بين "الثقافي- الفكري" و "اليومي" وكل الأطروحات الثقافية منذ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي إلى اليوم لم تلامس المخ "اليومي"... ليس لأن رواد النهضة لم يريدوا أن يتكلموا إلى "العامة". فهم في الواقع أرادوا ذلك. لكن هذا لم يتحقق وإلى الآن لم يتحقق. وإلى الآن المثقف لا يعبر عن العامة.

لماذا لا نجرب، مثلاً- وقد أبدو حالما هنا- لماذا لا نجرب أن نسمع صوت العامة؟ لماذا نصر على اعتقادنا بأن العامة غير قادرة على التعبير عن نفسها؟ وبل وعاجزة عن التفكير، ثم نرشح أنفسنا بدلاء عنها... لنعبر عنها ونفكر عنها!!

  • ولكن أليس من الطبيعي وجود وبقاء درجة ما من الانفصال، لما للفكر من استقلال نسبي عن الواقع؟
    ثم إن كثيراً ممن عالجوا هذه الفكرة، لاحظوا الإحساس الطاغي للمثقف بتخلف "اليومي والاجتماعي" وسكونيتهما...

- صحيح. إن المثقف يعي وعياً تاماً أن اليومي والاجتماعي متخلف. والمثقف، وربما أخطأ هدفه الحقيقي. فهو حين يرغب أو يرشح نفسه للتأثير في الناس وتغييرهم، يعجز عن إدراك أن دوره الممكن هو التأثير والتبديل في "أهل الحل والعقد"!! لينعكس تغييراً في اليومي والمعيشي والاجتماعي العام!! ومن هنا أرى أن ما نعيشه هو "أزمة مثقف".

  • ولكن المثقفين، ليسوا كياناً مغلقاً، مستقلاً عن بنية المجتمع. بمعنى آخر هم لا يهبطون من السماء. ولا أريد بهذا الإعادة إلى موضوع المرجعية، بل الإشارة إلى المهمة التي تعتقد أنها جوهرية للمثقفين مع "أهل الحل والعقد"؟ أليست الموافقة على فكرة تغييب الواقع الاجتماعي- السياسي لفئات كبيرة ومن بينهم المثقفون، وهذه المهمة، تناقضاً؟

- هذا احتمال. وما تقوله هو القراءة السائدة لوضعنا. لكن أنا أراهنك أن المثقف لو صار حاكماً، فسيكون أكثر بطشاً من الحاكم نفسه طبعاً، سأعود إلى نقطة مهمة طرحتها، وهي بمعنى أن المثقف ناتج للحالة الاجتماعية والحالة الثقافية...

فالمثقف يختار الثقافة التي يريدها بغضب النظر عن البيئة. ولدينا مفكرون ومثقفون يوالون ويخلصون لفكر لا علاقة له ببيئتنا مثلاً... كذلك نجد في المقابل آخرين يعيشون ويفكرون بالطريقة التي كانت سائدة قبل عشرة قرون...

طغيان..

  • بين هؤلاء وأولئك وآخرين- لا نعرف ولا هم يعرفون أين هم- تستمر الحلقة المفرغة والضياع. ألا يدفعنا ذلك للدعوة إلى الاتفاق على فاسم مشترك، أو ما يمكن اعتباره محوراً رئيسياً "تدور حوله أشتات الثقافة العربية" ويصوغ المثقفون العرب حوله الأهداف وينقون الوجدان العام مما لحق به من هشاشة وتمزيق؟

- سأعترف بكل بساطة وأنا أحب البساطة.

أنا لا أوافقك الرأي في هذه النقطة وأخشى ما أخشاه أن يسور تيار ما، بفعل عوامل لا علاقة لها بالناس وبـ "اليومي".

ولكن الثقافة العربية والفكر العربي كان لهما مثل هذا المحور فيما مضى، مما تسمح بتحقيق إنجازات فكرية وحضارية لعبت دوراً مهما في النهضة الأوربية نفسها!

- صحيح. هذا فيما مضى. لكن يا عزيزي تأكد أنه عندما تعتقد فئة من الناس أو مجتمع من المجتمعات أنه وصل إلى النقطة التي يظن فيها أنه حقق الجواب عن الأسئلة الإنسانية الصعبة، فسيكون قد وصل إلى نهايته. وهذا موضوع أطروحة "فوكوياما" التي تتلخص في أن أسئلة الإنسانية عن النموذج الأمثل للتوازن الاجتماعي قد أجاب عنها النموذج الديمقراطي الليبرالي الرأسمالي الموجود في أمريكا إجابات نهائية!!!

ولو ساد هذا الاعتقاد- مع أنني أشك أنه سيسود - فهو نهاية الخيال الإبداعي للتطور الإنساني.

وهنا أريد أن أستعين بآية قرآنية لها دلالة عميقة: كلا إن الإنسان ليطغى . أن رآه استغنى إذا رأى الإنسان نفسه أنه استغنى، فسيطغى.. وإن طغى الإنسان، قضى على كل شيء. على نفسه وعلى الآخرين. لو نظرنا إلى الطغاة في العالم لرأينا أنهم صادقون مع أنفسهم. ومن أكثر المثاليين مثالية.. وإذن لماذا هم طغاة؟ لأنهم يعتقدون أن ما يرونه هو الأصلح للجميع!!! وبالتالي يجبرون الجميع على ما يعتقدون أنه الخير العام.

وهنا المشكلة. الثقافات تقع في أخطاء، وأخطاؤها مشابهة لأخطاء البشر، ومثلما يهرم الإنسان فإن الثقافة تهرم وتصاب بالأمراض والعلل.... وتقلب المزاج، وهنا الخطورة التي أشير إليها حين أقف متشككاً بشدة تجاه فكرة أو أمنية أن يوجد تيار فكري عربي واحد.

التفسير أساس الخطاب

  • ثمة تركيز شديد في أطروحتك على " اليومي" الذي بدا لي فيها، في مواجهة " الثقافي والفكري " مما يفسح المجال فيها رحباً لنقد الثاني دون الأول، بل ولعزل الأول من شرطه التاريخي أحياناً. وأنا أميل إلى الاعتقاد بأن لكل ثقافة- بالمفهوم العام ـ محورا واتجاها عاما ينظمها ويمنحها شخصيتها المميزة وقوتها... أو ضعفها. فما ينظم الثقافة الغربية، على الأقل كما يقدمه الغرب نفسه في تفسيره للمركزية الأوربية هو فكرة "البروميثية"، التي تمنح تلك الثقافة فاعليتها الاجتماعية في اليومي... والعملي... في حين أن ما نظم ثقافتنا العربية هو مبدأ "المسئولية الأخلاقية" بملاحظة الحلقة المفقودة التي يثير إليها الدكتور محمد الرميحي والمتمثلة في خمسة قرون من تهديم الوعي والوجدان، مما جعل هذا المبدأ يتداخل تداخلاً مشوهاً مع فرضية "العناصر الثقافية المميزة خارج سياق التطور التاريخي " وما استدعى ذلك من شيوع خطاب مفارق وتغييب الدور التاريخي للعامة.
    أنت ترى أن العامة مغيبة في "الثقافي"، في حين أن العامة والثقافي مغيبان معاً في سيادة الخطاب المشار إليه والذي يحاول توظيف التراث في ستر ممارساته السياسية والاجتماعية.
    بالطبع هذا لا يقلل من شأن أطروحتك شيئاً. وأنا أحترمها جداً لأسباب كثيرة، أهمها أنها تفضي إلى النقد الذاتي، وإن كنت أرغب أن يتسع إطار النقد فيها للثقافة عموماً، خاصة في جانبها الذي يختزل الأبعاد الثلاثة للزمن و واحد، هو الماضي.

- أريد أن أشير إلى نقطة مهمة، ليس الموروث هو ما يسبب تخلفنا، كما أن الغزو الفكري لا يسبب تغريبنا.

إن الذي يصنع التخلف أو التحضر هو فهمنا أو سوء فهمنا لهما.

الأمر يتعلق بالتفسير. وبالنسبة لي لدقي شيئان: الأول هو المتن. والثاني هو التفسير. أضع في المتن: الموضوع والفكر، وفي التفسير، أضع نفسي والمثقفين واليومي، بمعنى آخر، الإنسان.

الفكر مادة أولية، يصبح مادة فاعلة سلبا أو إيجاباً بناء على تفسيرنا له. والفكر بالضرورة يكون من آخرين، قدماء أو معاصرين. وتقوم الذات باستقبال آخرية الآخرين. وبعد الاستقبال يختلف الناس إلى نوعين: الأول هم العامة، واستقبالهم يكون استقبال سلعة- بضاعة وعلى نمط مربح، غير مربح، الثاني هو المثقف الذي يستقبله بطريقة مختلفة لأنه يفسره بمستوى آخر.

ومن هنا أقول إن عمليات التحضر والتخلف تبدأ بالتفسير.

أحب أيضاً أن أدخل إلى مصطلح آخر، أضيفه إلى مصطلح الثقافة النقدية، هو الثقافة التفسيرية، لأننا بها نبدأ الفرز وفيها يتوجب علينا أن نجيب عن الأسئلة: " أن أخذ الناتج الفكري معزولاً عن بيئته، أم نربطه بالبيئة التي ولدته؟..... هل نستطيع القيام بإعادة تبييء الفكر إذا أخذناه منعزلا".

الغرب أفلح حضارياً عندما أجاب عن هذه الأسئلة. ورواية أمبرتوفيكو (اسم الوردة) كانت تشير بوضوح شديد إلى الغرب في القرون السالفة فعندما كان الغربيون ينظرون إلى ثقافة المسلمين على أنها "ثقافة كفّار" ويحذرون بعضهم بعضاً منها، ويرفضون التعامل معها كان الغرب متخلفاً. لكنهم عندما ميزوا بين "الكافر" و"ثقافة الكافر" أو كتابه، وتركوا الأول وأخذوا الثاني، بدأ التغيير.

وقد سبق لك أن أشرت إلى التجربة المماثلة للحضارة العربية في العصر العباسي في تعاملها مع الثقافات الفارسية والإغريقية والهيلينية.... وهي تجربة تؤكد أننا عندما كنّا أقوياء مع أنفسنا، كانت مشاكلنا الفكرية محلولة.

عجز..

  • يبدو هذا القلق/ التواضع مبررا إزاء الواقع الطاغي للفكر والثقافة العربيين والذي ينوس بين الخطاب المفارق من جهة وعوامل جذب المركزية الغربية من جهة أخرى ولكنه ربما يتجاهل التيار الطليعي الذي يتميز بحس تاريخي ويحاول ما يمكنه؟

- أنا لا أتجاهله فهو موجود. نعم هناك مشروع ثقافي فلسفي عربي وفي داخله نقد ومحاورات وجدليات واقعية لكن الأطروحة في هذا الحوار ليست عن هذا البعد بل عن المشروع التنموي أي الانتقال من حالة التخلف إلى حالة التحضر.

إن ادوارد سعيد التي أثني على فكره وفلسفته إلى أقصى الحدود، متحضر جدا، ولكن هل هو نموذج متكرر في شعبه الفلسطيني؟ والاهم من ذلك هل فكره وفلسفته قابلان للتحول إلى مشروع تنموي لنقل "اليومي" من التخلف إلى التحضر؟

طبعا الجواب لا. ادوارد سعيد نفسه سيقول لك: لا. لأنه عندما يتكلم فهو لا يخاطب العامة. إنه يخاطب ادوارد سعيد آخر.

لاحظ الشارع الذي نطل عليه من هذه الغرفة التي نتحاور فيها.. الشارع لا يعي ولا يدري وربما لا يهتم أيضا بكل الكلام الذي نقوله!

إذن حوارنا الآن ليس حوارا تنمويا. نحن الآن لا ننمي أحدا كل منا نام بطريقته الخاصة وسيكون من السخف أن أتكلم لأنمي المثقفين أو أثقفهم.

ولنكن واضحين: إذا دعيت إلى الكويت لإلقاء محاضرة فلمن ألقيها؟ ومن أجل من؟ إن كان للناس الذين حفروا فالهدف قد تحقق. وإن كان للجمهور العريض الذي لم يحضر فمجرد طباعتها في كتاب لن يفعل شيئا.

لا بد للجمهور العريض والمفترض أنه مقصود بالخطاب، أن يحضر لكي يكون فعلا واعيا بهذا الخطاب قبولا أو رفضا. ومادام لم يحضر فكلامنا لمن إذن؟ لا نفسها! هذه بالضبط أطروحة الحوار، وأريد أن تكون واضحة كي لا يحدث سوء فهم أو لبر للذين سيقرؤون حوارنا هذا: إنها تنصب عن، الافتراض أن الثقافي والفكري هما مشروع تنموي وإن افترضناهما كذلك فأنا أقول: إن هذا المشروع لن يتحقق إلا إذا أخذنا "اليومي " بما يعني "العامة" بالاعتبار الكامل لا بمعنى أنهم فقط مستمعون ولكن بمعنى أنهم مادة أولى نأخذ منها لا كممارسة أكاديمية (إحصاءات واستبيانات) لتمرير المبدأ السائد "الناس عايزه كدة"! بل ما أريد أن نوجده - آسف فهذه كلمة سلطوية- أن نسمح بحلول لحظة تتمكن فيها العامة من التعبير والتفكير عن نفسها وبنفسها وإلا فسنظل كما نحن وسنجد شخصا آخر يحلم هذا الحلم بعد مائة عام كما نعيد أنا وأنت أحلام عبدالرحمن الكواكبي والأفغاني ومحمد عبده.

هذا بالضبط المأزق الذي وقع فيه لا أقول العامة، بل المثقفون مع العامة إن الثقافي في عمى كامل عن "لغة" العامة التي لن يبدأ مشروعنا التنموي العربي إلا عندما نصغي إليها ونأخذ منها.

ثنائيات.. غبية

  • الخطاب السائد في الثقافة والإعلام يقدم حلولا تلفيقية لمشكلات عميقة جدا في صورة ثنائيات إشكالية مثل حداثة/ معاصرة، تقدم/ تخلف، أصولية/ علما نية، عروبة/ إسلام.. وغيرها..
    وهذه الحلول في كلا جانبي الثنائيات لا تكاد تفارق الجز المظلم من موروثنا من جانب أو أطروحة التفوق الغربي للمركزية الأوربية من جانب آخر. فما رأيك بهذا الخطاب؟

- أنت تنقلنا من علاقة الثقافي باليومي إلى "الثقافي" البحت ولا بأس بذلك.

لقد سبق أن كانت لي مساهمة صغيرة في مسألة الثنائيات (وأسميتها الثنائيات الغبية) لأنني أعتقد مع الذين يعتقدون أن ما هو أهم من الإجابات هي الأسئلة، لماذا؟ لأنها أخطر.

إن كان السؤال مبنيا على أساس خاطئ، تأتي كل الإجابات خاطئة وأهم المآزق التي وقع فيها الفكر العربي هو الأسئلة الخاطئة وواحد منها هو الثنائيات.

عندما نضع "الإسلام/ العروبة" فذلك يعني الإسلام أم العروبة وهكذا مع "الفصحى/ العامية"، "العصر/ التراث" هذه الثنائيات تقوم على أساس أيديولوجي، لأنها تجعل السؤال منذ البدء حاسما مما يوجب خيارا لا فكاك منه بين واحد من اثنين.

ليس باستطاعتنا القول عن فكرة أنها مفيدة أو ضارة إلا بادعاء، وادعاء زائف. أيضا فليست هناك فكرة ضارة وأخرى نافعة، هناك إنسان ضار وإنسان نافع.

الفكر يتغلغل داخل الإنسان كالهواء يدخل رئاتنا دون إذن مما يجعله غير قابل لأن يوضع في ثنائيات، ونتيجة الفكر هي في تمثل الإنسان وتوظيفه له. إن الأسئلة التي ترتكز إلى هذه الثنائيات هي أسئلة زائفة تنتج إجابات زائفة وثقافة زائفة وفكرا زائفا. وأنا لا أزعم أن السؤال الصحيح بالمقابل ينتج إجابة صحيحة لأن الادعاء بالإجابة الصحيحة غطرسة كبيرة.

  • لكن دكتور عبدالله هناك قسم من المفكرين يعتقد أن هذه الثنائيات قابلة للنقاش إذا تم النظر إليها والتعامل معها بحس تاريخي ويفرق هؤلاء المفكرون مثلا بين التاريخ والتأريخ ليبقوا على التاريخ كأبعاد ثلاثة (ماض، حاضر، مستقبل) في مقابل "الأصالوية" التي تختزله إلى بعد واحد هو الماضي بل وهناك تمايزات عميقة داخل التيار "الأصالي" نفسه فمثلا د. نصر حامد أبو زيد غير د. محمد عمارة.
    المهم أن الجميع يعالجون هذه الثنائيات ويناقشونها، فما رأيك؟

- أولا: أنت طرحت نقطة مهمة هي مناقشة هذه الثنائيات وفعلا نحن نشرع بالطريق الصحيح عندما نسمح لهذه المناقشة أن تأخذ دورها.

اعتراضي إذن ليس على نقاش الثنائيات بل على الثنائيات نفسها.

ثانيا: الأمثلة التي ضربتها عن مفكرين منغمسين بالتراث وآخرين منغمسين بالعصر، تدل على ظاهرة إيجابية، لينغمس كل بما يريد ويهوى ويتمنى فهذا إثراء للثقافة ومن الطبيعي أن تكون لثقافتنا خطوط مختلفة لكن الخطر الكبير حين يحاول أحد هذه الخطوط فرضت نفسه على الخطوط الأخرى، فهذا يذكرني بقول الشاعر العربي:

كناطح صخرة يوما ليوهنها

فلم يضرها وأوهى رأسه الوعل

مأزق الثقافة العربية اليوم يا أخي العزيز أنها تهشمت ولاتزال تتهشم وتهشم نفسها. ومن هما الإحباط الذي يغرق فيه المفكر والشاعر والكاتب والصحفي العربي. لماذا نظل نربط بؤسنا بالآخرين؟ من الطبيعي أن يحاول الآخرون إحباطنا وهذه ليست المشكلة، المشكلة هي هشاشتنا إلى درجة قابليتنا للتهشم.

يا عزيزي لا عذر للمثقفين أن يقولوا إن قوة ما تضطهدهم لأن المثقف سيضطهد بالضرورة وحتى من قبل المثقف. لكن البلاء أن ينهزم المثقف أمام الاضطهاد. نحن دائما نبحث عن الخلل في غير مواطنه لأننا نحاول الهروب من مواجهة الأسباب الحقيقية لخللنا. لا تظن أنني من أهل بيانات الإدانة لكنني أريد من خلال هذا الحوار أن أعري نفسي أمام جماعة المثقفين أنفسهم لأنني أخدع نفسي إن أخفيت هذه المشاعر الحقيقية التي أشعر بها حين تقابلني فألعب لعبة المثقف - المنظر الذي يعرف كل شيء ولديه كل الحلول لكل المشكلات وإن وجدت عيوب فهي ليست منه بل من هؤلاء وأولئك! هذه هي اللعبة التي يمارسها المثقف العربي وعلى هذا اللاعب أن يستحي من نفسه، آن الأوان لكي نستحي من أنفسنا. والحديث النبوي الذي ورثناه ينطبق هنا: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت "نحن الآن نصنع ما نشاء لكن إذا أستحيينا فسنصنع ما نعتقد أننا يجب أن نصنعه. سنضع حدا لرغباتنا الخاصة ولمشيثتنا.

أنا أريد في هذه المقابلة أن أضع حدا لمشيئتي ولرغبتي الخاصة وأظن أن الحوار قد سار في الاتجاه الصحيح.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




د. عبدالله الغذامي





صالح العاقل





من مؤلفات د. عبدالله الغذامي





من مؤلفات د. عبدالله الغذامي